- 1. كان يوم الخميس الخامس والعشرون من جمادى الثانية من سنة 1143هـ، هو يوم خروج السيدة خناثة بنت بكّار زوج سلطان المغرب الأفخم مولاي إسماعيل من مدينة فاس، قاصدة مع الوفد الرسمي زيارة بيت الله الحرام لأداء مناسك الحج، في “أحسن حال، وأجمل احتفال”، كما يصف ذلك مقرّر الرّحلة العالم والوزير الشرقي الإسحاقي.
- وقد نصبت للأميرة الشريفة خيام بولجة العسال على عدوة وادي سبو من العدوة الشرقية، وهي كما يصف: “ولجة مستوية الأرض، فسيحة المساحة ينزلها الرّكب يوم انفصاله عن فاس”. وبهذه الولجة أقام الرّكب يومه الجمعة في انتظار خروج من بقي من الناس القاصدين للحج، وفي انتظار مقدم السّلطان مولاي عبد الله من أجل توديع والدته، وهو مشهد الوداع الذي يصفه الإسحاقي بقوله:
- ” ومن عشيّ يوم الجمعة هذا، ورد مولانا السّلطان -نصره الله-في خاصّة حاشيته، وزعماء دولته، تجديداً لتوديع والدته، ومبالغة في البرور بها على عادته -أيّده الله-فودّع توديعه خفيفاً، ورجع بالسلامة في خافرته، لاوياً عنان حضرته، وودّعناه ثانياً لله الذي لا تضيع ودائعه، فإنّه سبحانه إذا استودع شيئاً حفظه”.
- و”عندما افترّ ثغر الصباح، وطوى غراب الليل الجناح”، واصل الرّكب مسيره، قاطعاً الطرق والمسالك، ” والسّيدة الأميرة حفظها الله متقدّمة أمام الرّكب، بينها وبينه مسافة في خاصّتها وحاشيتها”، سالكاً ذات اليسار من “طريق عنق الجمل”، وهي الطّريق التي تجنّب بها الطريق اليمنى لصعوبتها مصعداً وزلقاً، وقد كان هذا الزّلق ناشئاً عن نزول الأمطار، إذ كان كما يقول وزيرنا الإسحاقي” نزل ليلة السبت بعض المطر، وأصبحت الأرض متهيئةً للزّلق، وأخذ الناس في تسليك الإبل والدّواب لا سيما مراكب النساء طول يومهم ذلك، فما أسهلوا من ذلك العنق إلاّ بعد لايٍّ وشدّة”.
- رغم صعوبة الطّقس ووعورة مسلك الرّكب؛ فقد تابع مسيره برفق وتهاون متجاوزين الشّعاب والأودية والخنادق وعقبة بني مكّارة، “وما أدراك ما العقبة، عقبة فيها طول إلى الأرض لا إلى السّماء، قطعها الرّكب بمشقّة”، إلى أن وصلوا مدينة تازا، وهي المدينة التي أقامت احتفالات كبرى فرحاً بمقدم الأميرة خناثة، يقول الإسحاقي:” خرج الخليفة بها، وصيف مولانا نصره الله الباشا بوديح، في جريدة من الخيل أصحابه، فلعبوا بالبارود فرحاً بالسّيدة أعزّها الله وفرحاً بالرّكب، وأحضر جميع ما تحتاج إليه السّيدة من المؤونة، وواسى من تعيّنت عليه مواساته أو مداراته من أهل الرّكب، وخرج أهل المدينة كذلك بهديتهم بعد هدّية الباشا المذكور، وفرحت بهم، وصدرت بهم كتباً إلى مولانا نصره الله بشكران صنيعهم، فانقلب كلٌّ منهم إلى أهله مسروراً، وعلى ما صدر منه من حسن الطّاعة مشكوراً”.
- ومدينة تازا هي المدينة المغربية العريقة التي يقول فيها لسان الدين بن الخطيب في «معيار الاختيار في ذكر المعاهد والدّيار»: “بلد امتناع، وكشف قناع، ومحلّ ريع وإيناع، ووطنٌ طاب ماؤه، وصحّ هواؤه، وبان شرافه واعتلاؤه، وجلت فيه مواهب الله وآلاؤه”.
وهي المدينة التي بلغت مجدها الحضاري على عهد بني مرّين، حيث يقول عنها الأستاذ المرحوم عبد الهادي التازي في مقالته: «في تاريخ تازة» المنشورة بمجلة «دعوة الحق»: ” لقد بلغت تازة في العهد المريني مالم تبلغه معظم المدن في المغرب الأقصى، وتوجّه إليها بنو مرّين بنفس العناية والحماس الذي توجّهوا به إلى عاصمتهم فاس، بل إنهم اتخذوا من تازة مدرسة لفلذات أبنائهم، وقاعدة للأمراء وكبار رجال الدّولة”.
وعنها يقول الدكتور أبو بكر البوخصيبي: “لم تعرف مدينة تازا أوفى ولا أوفر مما عرفته في أيام دولة بني مرّين من نشاط ورواج سياسيين، وما ينشا عنها من اتصّال وانفصال، وما ينتج عن الجميع من حضارة وعمران، ما زالت معالم البعض منها مائلة حتى الآن”.
7.وقد كانت الحركة العلمية والفكرية مزدهرة بها أيّما ازدهار كما يقول علاّمة طنجة الكبير سيدي عبد الله كنون، حيث ” كان الوسط العلمي في تازا إبّان الملك مزدهراً، بسبب عناية الدّولة الجديدة، وهي دولة المرينين بهذه المدينة، لأنّها كانت من أوائل المدن التي دخلت في طاعتهم، وصارت بعد ذلك هي وناحيتها منطلقهم إلى الغرب، وقد جدّدوا معالمها، وأنشأوا فيها مساجد لطلبة العلم، ورتّبوا المدرّسين حتى أصبحت ثالثة مدن المغرب الكبرى، وهي من قبل كانت دار علم، ظهر منها العلماء والأدباء والمتصوّفة الكبار”.
- لأجل ما تقدّم ذكره عن هذه المدينة العريقة نجد الوزير الإسحاقي يبسط عنها جناح الكلام، ويسيل في شأن وصفها مداد الأقلام، فهي كما يقول: “مدينة آخذة من الحضارة بطرف وحصن حصين، من المعاقل التي تعقل بها أثر الحسن القديم”، ولا يتوانى في وصف أهم معالمها، وإحياء ذكر أبرز أعلامها.
كان للمسجد الأعظم بالمدينة النّصيب الأوفر من وصفه، حيث يقول عنه: “وإذا بها جامعٌ كأحسن ما أنت راء من الجوامع سعة وحصانة، وبناء متقناً محكم الشّكل، ولها صحن واسعٌ بهيّ المنظر، ومقصورةٌ عليها أنواع المحاسن مقصورة، فيها عملٌ عجيبٌ بتخريم الجبس وتنميقه، وتقربيص في غاية ما يكون من الإتقان والإحسان، وإحكام الصّنعة والإتقان، وبالمسجد الجامع منبر عجيب، حسن المنظر، محكم الصنعة، بترصيع العاج والبابنوز، ترصيعاً غريب الصّنعة، والكلّ من عمل الملوك بني مرّين جزاهم الله خيراً، إذ كانو على السّنة والسّذاجة في الدّين، عقدهم أشعري، والمذهب ليس بقدري”.
- وبوسط الجامع يبهره منظر الثّريا العجيبة “التي يضرب بها المثل في قلّة النّظير، ويذكر النّاس أنها لا شبيه لها في الثّريات، فإذا هي عقنقلٌ عظيمٌ، مرصّعٌ بمراكز القناديل ترصيعاً محكم الصّنعة في غاية الضّخامة، متماسك في الهواء بسلسلة من النّحاس، يتعجب النّاظر من هيئة الثّريا وتماسكها بها، مكتوب عليها:
ياناظراً في جمالي حقّق النّظرا** ومتّع الطّرف في حُسنيَ الذي بهرا
أنا الثّـــــــــريا التي تازا بي افتخرت** على البـــــــــــــلاد فما مثلي الزّمانُ يَـــــــرا
أُفْرغتُ في قالب الحُسن البديع كما** شاء الأميرُ أبو يعقوب إذ أمرا
في مـــــسجد جامـــــــــــــع للنّاس أبدعه** مـَــــلكٌ أقام بعــــــون الله منتصــــــــــــرا
- وبالمدرسة المرينية التي بناها الأمير أبو الحسن المريني [ت. 731هـ]، يقف قارئاً الأبيات المكتوبة على بابها:
لعمرك ما مثلي بشرق ومغرب ** يفوقُ المباني حُسنُ منظريَ الحــــــــسن
بـــــــــــــــــناني لدرس العلم مبتغياً به**ثــــــــواباً من الله الأمـــــــــــــــــــيرُ أبو الحــــــــــــسن
وبنفس الشّغف والحماس يسجّل ما كُتب على الخزانة التي بالجامع الأعظم، وهي الخزانة التي أُسّست في العهد الموحدي برسم حفظ كتب القاضي عياض وعلى رأسها كتاب الشّفاء، وعن هذه الخزانة يقول الأستاذ عبد الهادي التّازي: ” الآن خزانة المسجد الأعظم بتازة عدت أجزم أنّها من العهد الموحدي كأقدم خزانة للكتب المخطوطة عرفها المغرب، ولا تزال قائمة إلى الآن، ذلك أنّه علاوة على احتوائها على كتب القاضي عياض وخزانته، كانت تتوفر على المخطوطات والرّسائل الموحديّة الأصلية التي في مجملها للمهدي بن تومرت [ت. 524هـ].
وقد نقل الإسحاقي ما وجد مكتوباً على الخزانة:
لي منزلٌ بين الخزائن شامخٌ ** قد خُصّ من بيت الإله بمنزل
حفظاً لمجموع الشّفا أُنشئتُ عن ** أمر الخليفة فارس المتوكل
في عام سبع بعد خمسين انقضت** ومئين في سبع ربيع الأول
يبتع…
د. محمد شابو