الأستاذ المرحوم عبد اللطيف الخطيب شخصية فذة (سفير المغرب بإسبانيا – مدير الديوان الملكي – عامل إقليم تطوان). وقد ظلت هذه الشخصية متوارية عن نظر النقاد والمؤرخين، علما أن للرجل صولات وجولات في فروع ثقافية وأدبية وعلمية، من أدب بجميع فروعه وأجناسه (شعر – قصة – رواية – مسرح- رحلة – نقد أدبي – تاريخ الأدب وخاصة الغربي منه..). تاريخ الفكر: فقد كتب عن مشاهير المفكرين الغربيين (ثربانتيس – أوسكار وايلد وفلسفته في علم الجمال – دوستويفسكي..)، ومن اللافت للنظر أن الرجل كانت له إسهامات عميقة في الفكر الاقتصادي حيث أنجز ترجمة في غاية الأهمية للمرحوم عزيز بلال، في موضوع : «تكوين الوفر في الدول المتخلفة».
وقد ارتأينا نشر هذه المادة مسلسلة بهدف إفادة عموم المثقفين والمهتمين :
2 – نمو الاقتصادات المتخلفة:
فهل يمكن لليد العاملة التي يتمخض عنها التجمع الزراعي وإفلاس الصناعة القروية والحضرية أن تساعد على النمو البعدي المستند على توارد رؤوس الأموال الأجنبية؟. إن بعض النمو الرأسمالي قد نشأ فعلا، إلا أن البطء قد لحق بسرعته.
إن الرأسمالية قد انتشرت خلال خمسين عاما من القرن العشرين في معظم هذه الأقطار المتخلفة بسبب استيراد رؤوس الأموال الأجنبية أكثر مما انتشرت بكثير بسبب التجارة الخارجية خلال القرن التاسع عشر بأكمله.
فالرقم الاستدلالي للإنتاج الصناعي ( قاعدة 100 في سنة 1948 ) قد ارتفع من 64 في سنة 1937 إلى 124 في سنة 1952 بمجموع الأقطار المتخلفة. أما في المغرب فقد انتقل من 43 في سنة 1938 إلى مائة عام اثنين وخمسين وتسعمائة وألف.
إلا أن نمو الاقتصادات المتخلفة قد سار ببطء واضح أكثر من نمو الاقتصادات الرأسمالية خلال القرن التاسع عشر، وذلك رغم المقادير الضخمة من رؤوس الأموال التي استثمرتها الحكومات في معظم تلك الأقطار بقصد تنمية التجهيز الاقتصادي ومضاعفة نسبة الفائدة التي تغلها الاستثمارات الخاصة. فنحن نجد في المغرب أن ثلث رؤوس الأموال المستثمرة فيما بين سنة 1949 وعام 1956 كان مقصورا على التجهيز الاقتصادي.
فلماذا كان هذا النمو بطيئا يا ترى؟ لقد كان ذلك النمو بطيئا لأن الصناع والفلاحين الذين فقدوا وسائل الكسب لم يصبحوا عمالا يتوفرون على قدرة شرائية من جهة، ولأن الاتجار في الفلاحة قد عاد من جهة أخرى بأكبر الفائدة على خصوص كبار الملاكين وعلى طبقة من الفلاحين الأغنياء. ومن المستبعد في هذه الظروف والأحوال أن تأتي رؤوس الأموال الأجنبية إلى هذه الأقطار لتخلق بها صناعة محلية تكون سوقها سوقا داخلية.
إن رؤوس الأموال الأجنبية ستفضل الذهاب إلى الدائرة المنتجة للتصدير وإلى العمليات والنشاطات غير منتجة، فرأس المال الأجنبي أكثر قوة، وهو يحد من إمكانيات استثمار رأس المال الأهلي الذي تم تكوينه مؤخرا.
ثم إن القطاع الرأسمالي الذي ينمو يبتعد أكثر فأكثر عن الاقتصاد المحلي بحكم خاصته الأجنبية، فينتصب بمثابة فرع للاقتصاد الغالب. وهكذا تظهر الثنائية في أقسى أشكالها، كما يبرز وجود قطاعين أحدهما مستقل عن الآخر وإن كانا متجانبين.
3 – توجيه تكوين رأس المال:
إن رؤوس أموال الدولة وما شابهها والتي استثمرت في كثير من الأقطار المتخلفة، قد أدت في معظم الحالات إلى إحداث التجهيز الاقتصادي الضروري لنمو دائرة الفائدة التي تغلها روؤس الأموال الأجنبية الخاصة، كما كفلت أيضا تغذية المد الملحوظ في تكاثر طلبات الأقطار التابعة والمستعمرة في صناعة الدولة الغالبة المتبوعة، إلا أن قسطا ضئيلا فقط من هذه الأموال هو الذي استثمر في التجهيز الثقافي والاجتماعي ( بناء المدارس وضمان الدراسة والتكوين المهني والصحة العمومية ) وفي إدخال الأساليب الحديثة على القطاع ( التقليدي ) من الاقتصاد.
إن رؤوس الأموال الخاصة الأجنبية قد أدت إلى تغذية نمو قطاع التصدير وبعض النشاطات غير منتجة، كما أدت إلى تنشيط النمو في بعض قطاعات الصناعة الخفيفة.
– إن المستوى المنخفض للأجور في الأقطار التي أصبحت متخلفة يجتذب رؤوس الأموال الأجنبية إلى الاستثمار لأنه يضمن لها نسبة مرتفعة من الأرباح، غير أنه لما كان هؤلاء المباشرون للأعمال أنفسهم هم الذين يقومون في النهاية بتصدير قسم من بضائعهم إلى الأسواق الواقعة وراء البحار، والذين يصدرون أيضا قسطا من رؤوس أموالهم نحو تلك الأسواق نفسها. إن رأس المال الأجنبي لا ينشئ في الأقطار المتخلفة شركات يكون من شأنها أن تنافس شركات الأقطار النامية المصدرة. ثم إن رؤوس الأموال الأجنبية، تبحث دائما عن أعلى نسبة من الفائدة والربح، فلا تتجه إلا نحو قطاع التصدير ( مثال ذلك أن 60 في المائة من الاستثمارات الخاصة المباشرة الأمريكية في الأقطار المتخلفة سنة 1953 قد وظفت في نشاطات التصدير ).
أما رؤوس الأموال الأهلية فلا تستطيع أن تنشئ في عين المكان صناعة جديدة، وذلك لأن هذه الصناعة الأهلية تصبح مجبرة على أن تنافس بنجاح الصناعة التقليدية والصناعة الأجنبية معا، وهذا أمر غير ممكن. ولا يستطيع رأس المال القومي أن يفعل شيئا إلا أن يغذي الاستثمارات في فروع الإنتاج المرتبطة بالتجارة الخارجية.
– إن نسق توافر رأس المال في الأقطار المتخلفة مرتبط ارتباطا متينا بإمكانيات التصدير للمنتوجات الأساسية نحو الاقتصادات النامية، غير أن الوفر المحلي عندما لا يجد في إنتاج التصدير ميدانا يستثمر فيه استثمارا مغلا يضطر إلى الاكتفاء بالمنفذ الذي تعرضه الدائرة غير منتجة من الاقتصاد، هذه الدائرة التي تشهد الانتفاخ والاتساع فيما بعد.
أما أسباب هذا الانتفاخ في الدائرة غير منتجة من الاقتصاد، فهي راجعة بصفة رئيسية إلى تمويل تجارة الوسيط المرتبطة بنشاط التصدير وإلى توجيه مصاريف الملاكين المقاربين والطبقات الاجتماعية المستغنية نحو استيراد الكماليات من وسائل الترف، كما أنها راجعة أيضا إلى سياسة المصارف الأجنبية التي تفضل توظيف اعتماداتها في العمليات القصيرة الأمد والعائدة بالربح السريع، وإلى نمو الإدارات الاستعمارية أيضا.
– وعندما يكون التقدير الحسابي للاقتصاد مرتكزا على الفائدة الخاصة والشخصية للاستثمارات، فإن النمو يصبح متجها نحو الصناعة الخفيفة قبل غيرها، غير أن هذا الاتجاه قد تقوى ضمن الظروف النوعية للأقطار القليلة النمو، لأن أدوات التجهيز يمكن استيرادها وأداء أثمانها بتصدير المواد الأولية. وفي هذا الوقت نجد في أوربا أن الصناعة الثقيلة المكملة للصناعة الخفيفة قد نمت ضمن إطار نمو ذاتي للرأسمالية، وقامت على قاعدة قوامها السوق القومية، ولما لم يكن هناك ( أجنبي ) ينتج أدوات التجهيز هذه فقد تعين إنتاجها في عين المكان حتما.
4 – تأثيرات في تكوين الوفر المحلي:
إن كل هذه الظواهر قد قللت كثيرا من سرعة نمو الوفر القومي، ولهذا نرى أن الوفر المحلي الذي هو أهلي بالذات، وفر ينجذب خاصة إلى تجارة الوسيط والمتاجرة في الأرض نظرا للمنافسة التي يلقاها من طرف الصناعة الأجنبية ثم إن دائرة تشغيل رؤوس الأموال القومية في تجارة الوسيط دائرة تتسع على الخصوص باستمرار كلما تكاثرت المستوردات من المنتوجات المصنوعة.
د.إسماعيل شارية