إن أصل الكتابة التاريخية عن جبل حبيب القرن التاسع عشر سنوات (1872- 1895م) في المؤلف المعنون ﺑ ” المغرب المجهول”[1] في الجزء الثاني (اكتشاف جبالة) جاءت في إطار فكرة دراسة العالم الإسلامي بشمال إفريقية – اثنوغرافيا وأنتربولوجيا – من قبل فرنسا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي من أصعب المهمات في المعارف الإنسانية التي تناط لعلماء الاجتماع، وإذا كان أوجست مولييراس Auguste Moulieras))[2] أراد المساهمة في بناء صرح الجغرافيا المغربية، فالغرض من ﺫلك هو منح الفضول الأوروبي والفرنسي خاصة جانبا من تفكير المعيش اليومي لمنطقة هامة غير معروفة داخل التراب المغربي وهي قبائل جبالة[3] بشمال المغرب، فإذا كان الأستاذ مولهاوزن (Mulhausen) ألف كتاب (المغرب المعروف) فإن أوجست مولييراس ألف كتاب (المغرب المجهول)، وهي حسبه « المنطقة التي شكلت يوما جزء من أوروبا ولكنها التصقت فيما بعد بالشاطئ الإفريقي »[4]، ورغم أنه اعتبرها من أغنى المناطق المغربية الا انه عدها – تحاملا منه – من « المناطق التي لجأت إليها عائلات من رجال الدين المتعصبين والمقاتلين والمستمتعين بالحياة في نفس الوقت من أجل البقاء والدفاع عن النفس »[5]، وبالتالي وجب – فيما يراه – « أن نرسل الى المغرب مبعوثين يمثلون الفكر الحر، لأنهم الوحيدون القادرون على هزم التعصب الديني..»[6]، ولم يرى في معرفة الجار الفرنسي كفاية، بل يراهم في حاجة إلى الهداية ومنطقتهم – المغرب المجهول بما في ﺫلك جبل الحبيب – في حاجة الى إصلاحه إدراجه ضمن الدائرة الخاضعة لتأثير فرنسا، ولم يكن أوجست مولييراس الا واحدا ممن سخروا لهدا الغرض، وقد تولى دلك بالنيابة عنه مخبره محمد بن الطيب المدعو بالدرويش[7] من القبايل الجزائرية، ودلك في رحلة استكشافية عجيبة بربوع شمال المغرب مدة ثلاث وعشرين سنة (1872 – 1895م)، نقل على إثرها كل ما سجله في ذاكرته من معلومات حول القبائل الريفية والجبلية، ومكن من مولييراس من كنوز ملاحظاته واكتشافاته الجديدة[8]، وقد كان لهاته المعلومات أو حكايات وقائع الحياة اليومية للمناطق التي زارها في إطار ما يمكن تسميته ﺑ ” شخصنة الحدث ” بحيث يصبغ السارد ذاتيته على الوقائع السوسيو- تاريخية، ويقدم لنا قراءته الخاصة لهده الوقائع، وهدا يدفعنا الى القول أن نص جبل الحبيب في المغرب المجهول في حاجة الى تمحيص مضامينه بشكل منهجي ونقدي، في سعي لبناء معرفة عميقة بالتاريخ الاجتماعي والسياسي لهدا الجبل المتجهة أنظاره الى المحيط الاطلنتي، كما لا يمنعنا الاعتراف أنه رغم ما حواه “المغرب المجهول” من مضامين وخلفيات ومفارقات عديدة فإن ما قام به مولييراس له أهميته كوثيقة إثنوغرافية وتاريخية حول منطقة جبالة – ذات التاريخ الحافل – ومن جملتها جبل الحبيب، حيث خاض سكانها صراعات مريرة ضد الغزاة التي جعلت القوى الغازية مند القدم إلى القرطاجيين والرومان وصولا الى فترة الاستعمار تحسب الف حساب قبل الإقدام على مهاجمة الثغور والسواحل المغربية، وليس على أدل من دلك ما قام به جبل الحبيب في القرنيين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين ضد الاحتلال البرتغالي بثغور الشمالية المغربية مند احتلال سبتة الى معركة وادي المخازن الفاصلة.
وبما ان أي عمل جغرافي (رسم طوبوغرافي) لا يكتسي أهميته الا من خلال الخريطة التي تقترن به فقد توفرت لدى مولييراس إشارات الى الجغرافيا المائية والطبيعة لجبل الحبيب، وهي معطيات غير مسبوقة، مما جعله يحقق امنية (بول شيل)، وهي رسم خرائط القبائل الجبلية بما فيها جبل الحبيب، وقد فعل مولييراس – اجتهادا – بما يتفق ومعلومات مخبره الدرويش[9]، ودلك في سياق إبراز نتائج عمله الذي بدل فيه مجهودا جبارا، والحق أنه مجرد تخطيط أولي مؤقت للمسار الذي قطعه الدرويش الرحالة، وتؤكد ﺫلك المعطيات الجغرافية اليوم، وقد صرح هو بدلك بالأساس، والحق انها مجرد تصميم لرحلة الرحالة المسلم الدرويش المجذوب والمزاجي – على حد تعبير مولييرس – الذي كان يتحرك بدون هدف محدد حيث تدفعه أحداث معينة إلى هدا المكان أو ﺫاك، وهدا حتما لن يجعله في محط اهتمام بكل قبيلة والوقوف على مجمل تفاصيلها وخريطتها، التي تتطلب عدة تقنية مرافقة للدراسة الجغرافية (الفيزيائية) لمنطقة ما، وهي معطيات دقيقة صعبة ومهمة فوق طاقته حقيقة، وإنما رسمها في سياق الحصاد الجغرافي لجبل الحبيب من قبل الدرويش والحصاد الممزوج بالفضول والحس السليم والحماس فجغرافية جبل الحبيب اليوم مختلفة الى حد ما عن ما رسمه المؤلف في ملحق كتابه.
وفي سياق إظهار الحصاد الجغرافي والسوسيولوجي لجبل الحبيب فقد انطبعت في دهن الرحالة الدرويش فكرة عامة عن هدا الجبل الأمازيغي الذي تعرب تدريجيا حسب مولييراس، فبعد أن كان الدرويش بشاطئ البحر بحوز تطوان قرر فجأة الصعود جنوبا باتجاه الجبال الغابوية لقبيلتي وادراس وجبل الحبيب، وحسبه أنه « إﺫا أردنا المرور من وادراس الى جبل الحبيب وهي قبيلة واقعة جنوب غرب القبيلة الأولى – ولها نفس المساحة – فإننا سنضطر الى صعود الجبال المليئة بالدواوير وبالباستين، ويتميز الطقس في هده المنطقة ببرودته، بحيث تظل الثلوج متواجدة بجبالها الى أن يحل فصل الربيع »[10].
كما انه لم يفت الدرويش الالتفاتة الى جانب عن المجال الفلاحي بجبلي حبيب ووادراس والإشارة الى إحدى موروثيهما الغذائي، حيث يقول : « والزراعة الرئيسة والوحيدة هي زراعة الدرة البيضاء والحمراء، لدلك فإن الطعام السائد هو الكسكس والخبز، وفي الحقيقة فإن طعام القبيلتين لا يستساغ، وقد اشمأز منه الدرويش لأنه مطبوخ بشكل رديء ولأن حبوب الدرة تعلق وسط الأسنان كحبات الرمل، وقد أكد لي محمد دلك بقوله : من المؤسف أن يكون الطبخ في هده المنطقة رديئا، لأن أهالي جبل الحبيب يحبون الطلبة الأجانب كثيرا »[11].
ويزيد مولييراس حيث يقول عن جبل الحبيب من خلال حكي الدرويش : « بين لي كيف أن جبل الحبيب هي قبيلة الشرفاء والصلحاء، وهي خاضعة تماما لمخزن طنجة، وقد جعل أولاد البقال وحفدة مولاي عبد السلام بن مشيش والعديد من الصلحاء الأحياء والأموات من هده المنطقة معبدا كبيرا، تكثر فيه المساجد والمدارس والزوايا، ويمكننا أن نلتقي أيضا ببعض الناسكين anachorètes)) الدين يعيشون في عزلة تامة إما بالكهوف أو بالغابات، ويقتات بعضهم بالنباتات والخضروات والفواكه الموجودة حولهم، في حين يتلقى البعض الآخر الصدقات المقدمة من طرف المحسنين (…)، غير أن العبادات ليست هي الشغل الوحيد لأهالي جبل الحبيب، ففي جل العائلات يوجد رجال أقل تعلما و ورعا، حيث يقومون بالأعمال اليدوية التي تجلب لهم ولصلحائهم القوت الضروري للعيش في هده الدنيا الفانية.
هكذا، نجد من بينهم تجار العجول الدين يشترون هده الحيوانات من أسواق قبيلتهم أو من بني عروس ليبيعوها في طنجة، ويكتفي التجار الصغار ببيع الدجاج والبيض بنفس المدينة، أما النساء فيتوجهن إلى عاصمة جبالة لبيع جبن البقر والماعز المصنوع بطريقة جيدة أفضل من طريقة الفحص وأنجرة، وفضلا عن الجبن فهن يبعن السواك والفوة ونباتات أخرى تهبها الجبال الغنية بغاباتها، وبهدا الصدد فإن قمم جبل الحبيب مغطاة بأشجار السنديان والجوز والفستق والعرعر، وبمنحدرات هدا الجبل تتكاثر الدواوير المغطاة بالأشجار أو المعلقة بالصخور، وتشير وجهة الجبل صوب طنجة شمالا وقبيلة البرانص شرقا، وقد أخبرني الدرويش بأن هدا الجبل هو أكبر حاجز بجبالة من جهة الغرب »[12].
القرى الرئيسة بجبل الحبيب حسب ملاحظات الرحالة الدرويش :
« هناك أربعة أقسام وهي :
دار جعاﺫة : [ التسمية عربية وأمازيغية، وتعني منزل الرطوبة ]، بني امحمد، العنصر، وأولاد علي[13].
العنصر : 100 منزل عند منبع وادي بني كرفط، وينبع واد آخر بجبل الحبيب وهو واد العنصر[14].
القوى العسكرية : 1500 من المشاة.
العدد المحتمل للسكان 10500 نسمة.
وتوجد مناجم الفضة والحديد بالجنوب »[15]
كما أن الدرويش سيقف بنا على معطيات أخرى لجبل الحبيب من خلال مقارنته بجاره القبلي بني كرفط، حيث لاحظ اختلافا جغرافيا واجتماعيا وسياسيا بينهما – حسبه -، حيث يقول بخط مولييراس : « عند مغادرتنا لقبيلة جبل الحبيب الهادئة والوعرة نلج أراضي جيرانها وهم بني كرفط، ويلاحظ المرء تغيرا مفاجئا، سواء على المستوى الجغرافي أو على المستوى الشروط الاجتماعية والسياسية، فبدل القمم الشاهقة لجبل الحبيب نجد تلالا متوسطة العلو، تفصل فيما بينها أودية فسيحة، من أبرزها وادي بني كرفط الرائع »[16]، كما اعتبر شرق بني كرفط وشماله – كجبل الحبيب – ذا الغابات الكثيفة والمياه المتدفقة والخضرة الدائمة.
ومقابل الخاصية المسالمة والورعة لأهالي جبل الحبيب فإن أهالي بني كرفط يتميزون بمشاكستهم وحيويتهم، ويشتهرون في كل مناطق جبالة بأنهم نهمون[17].
وعند حديثه عن الجغرافيا الطبيعية لبني عروس وذكر جبله العلم باعتباره أعلى قممه الجبلية المرتبطة – حسبه – بجبال بني حسان من جهة ومن جهة أخرى بجبال الأخماس اعتبر أن جبل بوهاشم ينبثق من كتلة جبل الحبيب بجبل مولاي عبد السلام، وداخل هده الجبال العديدة تتكاثر العيون والانهار والغابات في كل مكان.
هوامش :
[1] – حسب الأستاذ عز الدين الخطابي مترجم الجزء الثاني (اكتشاف جبالة) من كتاب المغرب المجهول ﻟ ” أوجست مولييراس ” أن الكتاب صدر بجزئيه الأول والثاني (اكتشاف الريف وجبالة) – بأزيد من ألف صفحة بالنسبة للجزأين معا – في أواخر القرن التاسع عشر، أي في مرحلة تنامي الأطماع الاستعمارية وتكالبها على المغرب خصوصا.
[2] – كان أوجست مولييراس Auguste Moulieras)) جاسوسا فرنسيا بالجزائر، وقد اشتغل أستاذ كرسي اللغة العربية وآدابها بوهران.
[3] – منطقة جبالة حسب مولييراس هي تلك « المنطقة الشاسعة الموجودة بضفة البحر الأبيض المتوسط التي يحدها الريف من الجهة الشرقية ببلاد جبالة، وهي منطقة تمتد من الريف الى طنجة عبر الأجراف التي يلي بعضها بعضا » 594 والتي تقدر مساحتها حسبه بحوالي 36 الف كيلو متر مربع، وتضم حسبه 52 قبيلة مقاتلة، ويبلغ عدد سكانها مليوني نسمة تقريبا، و « جيشا قوامه 300 ألف رجل » .
[4] – المغرب المجهول، الجزء الثاني، اكتشاف جبالة، أوجست مولييراس، ترجمة وتقديم : د. عز الدين الخطابي، منشورات تفرازن، اء ريف، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى 2013م، (المقدمة)، ص 14
[5] – نفسه، (المقدمة)، ص 14
[6] – نفسه، ص 6
[7] – يدعو المؤلف مخبره تارة باسمه (محمد بن الطيب)، وتارة بالدرويش، وتارة بالجوال، وأخرى بالفيلسوف المعوز، ولم يكن هو المخبر المسلم الوحيد الذي اشتغل معه، بل اشتغل معه مسلمون مخبرون آخرون .
[8] – مد المخبر الدريوش أوجست مولييراس كنوز ملاحظاته واكتشافاته الجديدة رغم انه لم يكن « يدون أية ملاحظة، فكل المعلومات الغنية كانت مسجلة بداكرته ». ص 16، ولا يخفى أن مولييراس أدرك عدم الدقة والصرامة العلميتين حول ما أقامه مخبره الدريوش عن معطيات المغرب الشمالي – بما في دلك جبل الحبيب – جغرافيا وسوسيولوجيا، مما جعله يقول : « على هواة الدقة والصرامة العلميتين ألا يقلقوا، دلك أن بول شنيلp. Schnell يهيء حاليا دراسة معمقة حول المغرب الشمالي (…) وأتمنى أن تصحح بعضا من أخطائي وأن تعزز من جهة أخرى ما ورد في اكتشافات الدرويش والمخبرين المسلمين الاخرين الدين اشتغلوا معي » 590، وهو يقصد بدلك مؤلف ” الاطلس المغربي ” الذي صدر بالالمانية كملحق ضمن العدد 103 من مجلة Mitteilungen de patermana ( gotha, justus, perhes, 1892) ، وترجمه بدقة الى الفرنسية أوغستين برنار، استاد جغرافية افريقيا بكلية الاداب بالجزائر، وقد صدرت الترجمة بباريس سنة 1898م.
[9] – انظر : المغرب المجهول، اكتشاف جبالة، ملحق الكتاب عن خريطة دائرة جبالة، ص 604 – 605.
[10] – نفسه، ص 576
[11] – نفسه، ص 576
[12] – نفسه، ص 576
[13] – إن القرى التي أدرجها مولييراس في مؤلفه من ضمن قرى جبل الحبيب غير صحيحة، حيث لا يوجد أي اسم من أسماء القرى تلك اليوم بجبل الحبيب، ومن المستبعد جدا أن تتغير أسماء القرى من القرن التاسع عشر الى حدود اليوم، فهدا غير وارد، بل يظهر أن هناك خلطا واضحا بين القرى حصل للمخبر الدرويش، فدار اجعادة أو ظهر الجعادة قرية تقع اليوم بقبيلة بني عروس، وأما قرية العنصر فتوجد في ثلاث قبائل تقرب جبل الحبيب، فتقع فرقة العنصر بقبيلة بني يدر، وأيضا بقبيلة وادراس بفرقة ربع الوسطي، وبقبيلة الساحل الجنوبي بفرقة مدشر الرواح، وأما عن قريتي بني امحمد وأولاد علي فلم أقف عليها في جبل الحبيب، ففي الأغلب أنهما بالجوار القبلي لجبل الحبيب.
[14] – ليس هناك وادي بجبل الحبيب يحمل اسم واد العنصر، وربما يشير الدرويش هنا الى الوادي الكبير.
[15] – نفسه، ص 577
[16] – نفسه، ص 577
[17] – نفسه، ص 577، وللإشارة فإن نظرة مولييراس الاثنوغرافية في الحكم على أهالي جبل الحبيب – وأهالي جبالة عامة – تختلف بالمقارنة مع ما صدر من أحكام على أهالي الريف، حيث اعترف بأصالتهم وشهامتهم وتمسكهم بالحرية والاستقلالية من جهة، وبقسوتهم وانطوائهم وحذرهم من الأجنبي من جهة أخرى،