يأتي رمضان هذه السنة في ظل ظروف إنسانية استثنائية تميزت بالدرامية، على إثر تفشي الوباء القاتل “كورونا”. ومعلوم أن الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها العديد من الدول لمواجهة خطر هذا الوباء جعلت وتيرة حياة الناس تعرف تغيرات جذرية على مستوى عادات وتقاليد مزاولتها.
ولعل أبرز مظاهر التغير على مستوى دينامية الحياة هو استراتيجية “الحجر الصحي” الذي ألزم الناس بيوتهم، وقلص من تنقلهم، بل وصلت الدروة أحيانا إلى منع هذا التنقل مطلقا.
وهكذا يواجه الناس وضعا حياتيا صعبا بين أربعة جدران يحد من أنشطتهم ويضعفها، ويدخلهم في ملل نفسي قاتل.
وقد تعارف الناس في المغرب على ممارسة العديد من الطقوس ذات البعد الجماعي، سواء على المستوى التواصل الاجتماعي، أو على مستوى مزاولة الشعائر الدينية.
غير أنه إذا استحضرنا العديد من الاجتهادات الدينية المستنيرة يتبين على أن الشعائر المقترنة برمضان مثل صلاة “التراويح” ليست بالضرورة ذات أصل جماعي.
وقد أشارت مثل هذه الاجتهادات إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يصل بالناس التراويح إلا ثلاث مرات، ثم دخل بيته ولم يخرج إليهم، وبقيت هذه سنة جارية إلى زمن عمر الذي جمع الناس على إمام في التراويح، ولا شك أن فعل النبي عليه السلام أدق حكمة وأجلى مقصدا، وهو أن صلاة البيوت أرفع وأنفع”.
من جانب آخر، فمع اجتهادات أخرى سارت في نفس الاتجاه، والتي أباحت الصلاة في البيوت استثناء، تفاديا لاحتمالات سيئة قد ينتشر إثرها الوباء، فإن الحجر الصحي يصبح فرصة عظمى، إضافة إلى ممارسة الصلاة، لمزاولة نوع من التأمل الديني العميق في قيمنا الحياتية وسلوكياتنا مع الله ومع العبد. وهي فرصة لن يمنحها للإنسان إلا مبدأ الخلوة في العبادة التي هي أصل من أصول العبودية والسير إلى الله تعالى”.
إن الحجر الصحي في مثل هذه الأجواء الروحانية قد يتحول إلى نعمة روحية يختلي فيها الإنسان مع نفسه، وإجراء مراجعة شاملة لما كانت قد آلت إليه دنياه في ظل الصخب العارم و الضوضاء الجارف الذين تميزت بهما الحياة العامة.
إنها فرصة للتقوى. والتقوى معنى قد تشتق منه دلالات الاتقاء، اتقاء ما قد يكدر سيره نحو الله. والتقوى اسم جامع لأفعال الخير الحسية والمعنوية القلبية والسلوكية؛ فيُقبل العبد على ربه بأنواع الطاعات والقربات التي ترقق قلبه وتطهر جنانه وتخفف ثقل نفسه، بذكره تعالى وقراءة كتابه الكريم وأحاديث رسوله المصطفى الأمين صلى الله عليه وآله وسلم”.
المغاربة عبر تاريخهم الطويل كانوا مزاولين لشعائرهم الدينية، ومتمسكين بها، وحريصين عليها، ومولين لها كل الاهتمام والتوقير والتبجيل، غير أن فرصة ” الحجر الصحي” ستكون اكثر ملائمة لتوطيد أواصر الصلة بالله، وتعزيزها، وشحنها بعزائم اكثر حيوية وفعالية.
بهذا سنحول حجرنا الصحي إلى مختبر روحي حقيقي، نضع فيه أنفسنا أمام أسئلة طاعة الله ونيل رضاه.