لقد قرأت كتاب (الوظيفة العمومية الترابية بالمغرب) للدكتور مصطفى الصديقي باهتمام كبير وذلك لسببين، أولهما لأنني مقتنع منذ عقدين من الزمن بضرورة إصلاح الإدارة المحلية ،محاربة الفساد الذي أصابها. وثانيهما أن مؤلف هذا الكتاب بذل مجهودا فكريا كبيرا لطرح هذه الإشكالية في المغرب وتوضيحها من خلال فهم أي مشكل كما يقال، يعتبر نصف حل له. لقد استطاع المؤلف أن يتعمق في دراسة موضوعه أولا، لأنه اطلع على عدد كبير من الدراسات الجامعية التي عالجت جوانب مختلفة لموضوع كتابه الذي شكل في أصله أطروحة لنيل الدكتوراة. إلا أن ما انفرد به المؤلف هو أنه مارس العمل في الوظيفة العمومية الترابية عندما عين كاتبا عاما بجماعة تطوان ، بعبارة أخرى، اكتسب خبرة كبيرة ميدانيو قبل تناوله الموضوع بالبحث، فجمع بين البعدين النظري والممارسة الإدارية.
خلافا لجل الدراسات التي ينجزها أصحابها بالجامعة ثم يلتحقون بالعمل الإداري، أو على الأصح ينجزون أطروحتهم الجامعية لتمكنهم من الوصول إلى المناصب الإدارية، فإن الدكتور مصطفى الصديقي أنجز أطروحته بعد اكتسابه خبرة كبيرة في جماعة تطوان. و ما زاده خبرته الميدانية التحاقه مؤخرا بجهة طنجة-تطوان-الحسيمة لتصبح تجربته تجربة جهوية.
إن الذي دفع المؤلف اختياره موضوع كتابه كما جاء في تعبيره هو (أن الوظيفة العمومية الترابية أصبحت اليوم تحتل مكانة مميزة داخل منظومة الوظيفة العمومية، إن على مستوى عدد الموظفين التابعين لها أو على مستوى التأطير القانوني والتنظيمي الذي ينظمهما، لذلك فهي مدعوة إلى مزيد من التعبئة ومضاعفة الجهود للرفع من أدائها والاستجابة التي تعرفها البلاد والتحولات المتسارعة والعميقة التي يعرفها عالمنا المعاصر).[1]
تكمن أهمية الوظيفة العمومية الترابية في كونها تنظم إدارة الجماعات الترابية فإن (تحديد آليات عملها وتطوير استراتيجياتها وبرامجها أصبح أمر ملحا لا يقبل التأجيل).[2]
لقد انخرط المغرب في مسلسل لإصلاح نظامه اللامركزي الإداري فركز على الجانب القانوني والمؤسساتي وعلى إصلاح شامل لنظام اللامركزية وبناء على ذلك استنتج المؤلف (أن نجاح هذا الورش الكبير المفتوح حاليا حول تحديث الإدارة المحلية، لا يمكن أن يتحقق مالم يتم إصلاح منظومة الوظيفة العمومية الترابية، وتصحيح الاختلالات والثغرات القانونية والإدارية التي نعرفها، فالعنصر البشري هو المحرك الأساسي لكل العناصر الأخرى التي تدخل في عمليو التنمية الإدارية، لكونها تعتمد في آخر المطاف على الانسان).[3]
اعتبر المؤلف أن عملية الإصلاح. (… تقتضي العمل ليس فقط على المستوى القانوني وإنما ينبغي أن تشمل أيضا مجالات أخرى، كالجانب المؤسساتي والإداري التي تعرف هي الأخرى إكراهات وتحديات كبرى).[4]
لذلك خصص المؤلف الفصل الأول من كتابه للتحديات والإكراهات التي أصابت منظومة الوظيفة العمومية الترابية ثم خصص الفصل الثاني مناقشة آفاق الإصلاح ومتطلباته.
لقد استفدت كثيرا من هذا الكتاب لأنه يوضح جميع الجوانب التي تؤكد ضعف إدارة الجماعات المحلية ومع ذلك لا أرى في المدى القريب أو البعيد احتمال تطبيقها علي أرض الواقع أن المؤلف يقول ( فإن أغلبية النصوص القانونية والتنظيمية التي تطبق على الموظفين الجماعيين موجهة أساسا للوظيفة العمومية للدولة، ولا تشير بتاتا للجماعات الترابية[5] )
ويشرح المؤلف سبب الاهتمام، خصوصية الوظيفة الجماعية في قوله ” … إلا أن هناك بعض الخصوصيات التيس تميز الوظيفة الجماعية والتي ينبغي أخذها بعين الاعتبار هند إعداد النصوص القانونية والتنظيمية… لذلك وجب التفكير في آلية جديدة تمكن من الاستجابة لخصوصيات الوظيفة الجماعية…”[6] إلا أن احتمال التغيير ضعيف على أرض الواقع فمن الصعب التعويض. ” … الابتعاد ما أمكن من المقاربة الأحادية التي وضع بها مرسوم 1977، والتي نتج عنها توسيع مجال السلطة المركزية على حساب السلطة المنتخبة.” [7]
ويشرح المؤلف ما جعل فشل مبدأ وحدة النظام بين الوظيفة العمومية للدولة والجماعات إذ ” … قد أفرزت التجربة الجماعية مجموعة من الثغرات القانونية سواء فيما يخص تنظيم الحياة الإدارية للموظفين أو فيما يخص التشجيع والتحفيز …”[8].
ومما يزيد الطين بلة الحاجة الملحة للإصلاح ” … النظام الانتخابي وجعله مسايرا لتطور المجتمع ولنظام اللامركزية التي يتطلب وجود كفاءات عالية داخل الجهاز التنفيذي للجماعات الترابية … “[9] . ومن عواقب هذه الوضعية في بعض الحالات إلى التزوير. ” … أذت إلى تعطيل عمل المجلس مع ما يترتب عن ذلك من تعطيل لمصالح المواطنين والمرتقبين”[10]. عرف هذا النظام إصلاحا مؤخرا، نرجو أن يمكنه من مواكبة التنظيم الترابي اللامركزي وتفعيل آليات التعاون والشراكة بينه وبين مختلف الإدارات اللامركزية. لقد كانت فرنسا تعيش وضعية مماثلة إلى تم إصلاحها.
تعتبر الإكراهات التنظيمية من العراقيل الكبرى في الإدارة الترابية لأن هذا التنظيم ” … يسمح للإدارة بتحديد حاجياتها الحقيقية في مجال الوظائف والموظفين، فلا يمكن له إلا أن يساهم في تعميق الاختلالات والعيوب التي تصيب الجهاز الإداري لذلك لجأت غالبية الإدارات الحديثة …………………
خصص المؤلف فصله الأول لتحديات وإكراهات الوظيفة العمومية الترابية ” سواء في جانبها القانوني والتنظيم والمؤسساتي، أو الجانب المتعلق بالإدارة التي تحتضنها وبنيتها الإدارية. وخاصة ما يتعلق بمواردها المالية والبشرية وبحكامة تسييرها وتدبيرها” [11]
لقذ ركز الدكتور مصطفى الصديقي في الجانب القانوني التنظيمي على ” ملامسة مختلف أوجه الضعف التي تعاني منه النصوص القانونية والتنظيمية المنظمة للوظيفة العمومية الترابية، ولخصوصياته. كما أشرنا الإكراهات التي تعرفها بنيتها التنظيمية خاصة ما يتعلق ببيروقراطية التنظيم المعتمد، وطغيان وتعدد الوظائف التنفيذية داخله، فضلا عن سوء التوزيع بين مختلف أصناف الوظائف والجماعات الترابية[12]
وحاول المؤلف في الجانب المؤسساتي التعرف على واقع المؤسسات المتداخلة في الوظيفة العمومية الترابية، الوطنية منها والمحلية، وإبراز مختلف الإكراهات التي تعرفها، ومدى تأثيرها على تنمية تطوير هذه المنظومة، خاصة في ظل تباين اختلاف الرؤى وصعوبة التنسيق والتعاون بينهما، بسبب غياب محاورين أو هيئات خاصة تعنى بكل ما يهم تنظيم وتدبير وتنمية الوظيفة العمومية الترابية، كما هو الشأن في بعض الأنظمة المقارنة. [13]
وعالج المؤلف أيضا الجانب المؤسساتي إذ حاول ” التعريف على واقع المؤسسات المتدخلة في الوظيفة العمومية الترابية، الوطنية منها والمحلية، وإبراز مختلف الإكراهات التي تعرفها، ومدى تأثيرها على تنمية تطوير هذه المنظومة خاصة في ظل تباين واختلاف الرؤى وصعوبة التنسيق والتعاون بينها، بسبب غياب محاورين أو هيئات خاصة تعنى بكل ما يهم تنظيم وتدبير وتنمية الوظيفة العمومية الترابية، كما هو الشأن في بعض الأنظمة المقارنة [14] .
ومن ناحية أخرى، تطرق المؤلف ” … للاختلالات التي تعرفها إدارة الجماعات المحلية الترابية باعتبارها جزء من منظومة الوظيفة العمومية الترابية وخاضعة لها، وحاولنا إبراز الإكراهات والمشاكل التي تعيشها هياكلها التنظيمية، سواء من حيث توزيع وتقسيم المهام بين مختلف بنياتها الإدارية والسياسية أو من حيث الإمكانات المادية والبشرية الموضوعة رهن إشارتها، فضلا عن الاختلالات المرتبطة بنظام الحكامة المطبق داخلها “[15].
خلاصة القول أن الوظيفة العمومية الترابية ليست وظيفة مستقلة ” لها من المميزات والخصوصيات ما يجعلها فاعلة في مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وقادرة على استقطاب أطر وكفاءات عالية يمكنها من تحسين مردوديتها وفعاليتها، ما لم يتم القضاء على هذه الإكراهات[16] . فلابد للبحث عن مقاربات جديدة أي لابد من إصلاح إداري.
خصص المؤلف الفصل الثاني للكتاب ” … للمداخل الممكنة لإصلاح وتطوير منظومة الوظيفة العمومية، بما يضمن مسايرتها النظام اللامركزي الذي يعرف تحولات عميقة بسبب التحديات والرهانات التي يعرفها نظام العولمة” [17]، ثم يضيف المؤلف قائلا ” وقد خلصنا إلى أن الرؤية الإصلاحية لهذه المنظومة لا يمكن أن تكتمل ما لم تشمل مختلف الجوانب القانونية والتنظيمية والمؤسساتية، بالإضافة إلى الجانب التدبيري الذي يلعب دورا حاسما في عملية التحديث والتغيير … “[18]
اقترح المؤلف ” في الجانب القانوني” مختلف السبل والآليات القانونية ومعالجة الاختلالات والنواقص التي أفرزها تطبيق النظام القديم، بما يسمح بمواكبة المستجدات الدستورية المتعلقة بالمساواة في الولوج إلى المناصب العمومية وإقرار مبدأ المناصفة وعدم التمييز بناء على الجنس أو اللغة أو المعتقد. فضلا عن تطبيق مبادئ الحكامة الجديدة الجيدة ، وربط المؤسسات بالمحاسبة، كما حاولنا ملامسة إصلاح نظام الوضعيات وأنظمة التوظيف والترقية وتقييم، فضلا عن نظامي الحركية والتكوين، وقدمنا بعض المقترحات “[19] .
…………….. صفحة 10. ناقصة ؟
تكمن نقطة القوة في هذه الدراسة في التجربة الإدارية الغنية التي اكتسبها الدكتور مصطفى الصديقي قبل إنجازه هذا العمل القيم. إلا أن عقلية الرجل الإداري تطغى على عقليته وانعكست في الدراسة بطبيعة الحال.
فلو حللنا إشكالية إدارة الجماعة الحضرية من زاوية المواطنين ومن زاوية المجتمع المدني، لوضعنا أيدينا على جوانب أخرى من الإشكالية. أذكر بعض المشاكل التي يعاني منها المواطن وهي تعقيد الإجراءات الإدارية مما يؤدي إلى ضياع الوقت والمال. ثم هناك مسألة الرشوة والفساد الإداري التي يضر بمصالح المواطنين، وتنعكس وضعية إدارة الجماعة سلبيا على تدبير المدينة عموما والمدن العتيقة على وجه الخصوص. من الواضح أن إدارة الجماعة والإدارة المحلية بحاجة إلى إصلاح عاجل، ولكن من سيحقق ذلك وكيف ومتى؟.
إذا اكتسب الدكتور تجربة طويلة في التدبير الإداري ، فلقد اكتسبت بدوري تجربة طويلة كفاعل جمعوي في صفوف جمعية تطاون أسمير منذ تأسيسها سنة 1995. لقد عايشت فشل السلطة المحلية وأطر الجماعة والمنتخبين بها في تعاملهم مع التراث الثقافي للمدينة العتيقة منذ ربع قرن وما زالت مطروحة وبحدة إلى اليوم.
فيما يلي بعض الملاحظات في هذا الشأن:
أولا، إن المسؤولين لا يأخذون ممثلي المجتمع المدني بجدية. وإن بعضهم يرفضون الحوار معنا لأنهم يرفضون اعتبار اقتراحاتنا مع أنها في مصلحة مؤسساتهم في نهاية المطاف. غن عدد منهم دون مستوى المهام التي كلفوا بإنجازها.
ثانيا، مازالت المشاكل الكبرى مطروحة لأن الرشوة والفساد منتشرة إلى حد يصعب معالجتها الآن. أبني هذه الملاحظة كباحث متخصص وكفاعل جمعوي وكمستثمر داخل المدينة العتيقة وخارجها.
ثالثا، مادام الاعتراف بوجود المشكل وتحديد عناصره والرغبة في معالجته غير موجودة فمن باب المستحيل أن تتغير الأوضاع في المدى القريب.
رابعا، هناك مجموعات ضغط، ومافيات تتصرف في إدارة الجماعة وتساهم في تمويل الانتخابات فلها وزن كبير. خصوصا في الجانب العقاري وهو قطاع يحرق مبالغ مالية كبيرة جدا. ؟
خامسا، كيف يمكن أن ننتظر من إدارة الجامعة أن تخدم مصالح المواطنين وهي تفتقر إلى أدنى شروط لتحقيق هدفها. تفتقر هذه الإدارة إلى الاستقلال المالي بسبب ديونها الثقيلة. لقد أصبح ذلك مرض مدمن. وما دامت نفس الشروط التي أدت إلى الوضعية الراهنة لم تتغير، لن تتغير هذه الوضعية.
سادسا، لقد رأينا من خلال دراسة الدكتور مصطفى الصديقي ان وضعية الجماعة الإدارية خطيرة، وما دامت الحلول المقترحة غير قابلة للتطبيق على مستوى شمولي فمن المحتمل أن الوضعية ستستمر خصوصا وأن عدد من العناصر الإدارية المدبرة لم تتغير وأن هذه العناصر تطورت مع تطور إدارتها فأصبحت قادرة على حماية نفسها وحماية مصالح شركائها في مؤسسات أخرى رسمية وفي القطاع الخاص، بدل حماية مصالح المواطنين والمصالح العمومية، يظهر هذا في تناقض الخطاب بين الخطاب الرسمي من جهة والسلوك الرسمي من جهة أخرى. مادام هذا التناقض قائما لا يمكن أن ننتظر من الذين كانوا وراء تطور الأوضاع ان يحققون إصلاحا جذريا لأن ذلك ليس في مصلحتهم الشخصية، ولا في مصلحة عدد من مجموعات ضغط غلى الصعيد المحلي والجهوي والوطني.
الأمل الوحيد بالنسبة إلي هو أن تظهر تيارات مفاجأة من شأنها أن تغير جميع الحسابات. هذا ما نترجاه.
[1] ص.3.
[2] نفس المرجع، ص.3.
[3] نفس المرجع، ص.4.
[4] نفس المرجع، ص.4.
[5] نفس المرجع، ص.16.
[6] نفس المصدر س. 16
[7] نفس المصدر ص. 16
[8] نفس المصدر ص. 17.
[9] نفس المصدر ص. 18.
[10] الهامش رقم 18 ص. 18
[11] ص. 131
[12] ص.131
[13] ص. 131
[14] ص. 131
[15] ص.131
[16] ص.132
[17] ص. 247
[18] ص.247
[19] ص. 247