قيض الله لي الارتباط بالصحافة منذ المرحلة الابتدائية بفضل إحضار السيد الوالد، طيب الله ثراه، إلى البيت بين الفينة والأخرى صحفا، أذكر منها “التحرير” و”العلم” و”أخبار الدنيا”، فكانت بحكم فضول الطفولة مجالا لتأمل ما كان يرد فيها من صور فردية وجماعية، ومحاولة قراءة عناوينها البارزة بشق الأنفس بسبب عدم شكلها…
ثم سرعان ما تطورت تلك العلاقة تبعا لتطور المسار الدراسي، حتى حصل نوع من الإدمان على صحف بعينها وصفحات بذاتها.
أذكر في هذا المقام صحيفتي “العلم” و”المحرر” بصفة خاصة وملحقيهما الثقافيين، وصحيفة “الرأي” بالفرنسية وصحيفة “الكواليس” الأسبوعية.
فبفضل هذه الصحف واكبت وثلة من أقراني وأقاربي أبرز الأحداث والقضايا وطنيا، وقوميا، وعالميا…
كما كانت افتتاحياتها تثير الاهتمام والرغبة في مطالعتها، نظرا لقوة مضامينها ودقة صياغتها.
وكذلك شأن صفحات الشباب، والرياضة، والسينما، والقضايا الاجتماعية… دون أن أنسى مقالات ذ. عبد الكريم غلاب في الصفحة الأخيرة بجريدة العلم كل أربعاء، فقد كنت حريصا على مطالعتها لجدتها وجودتها.
ثم عمود” بصراحة ” في صدارة جريدة “المحرر” المكتوب بطريقة أخلص وألخص، مراعاة لمقتضى الحال، مما حدا بي إلى قص ذلك كله وضمه إلى أرشيفي الصحافي الذي ما زلت أجد في مطالعته متعة غامرة.
وكان هذان الملحقان الثقافيان نافذتين مشرعتين على ما تزخر به الحياة الثقافية من فكر وإبداع، وما تموج به من نقاش مثمر.
وحتى أسترجع بعضا من ذلك، أعرض عناوين أبرز مواد ملحق ثقافي لجريدة العلم(العدد:191 بتاريخ الجمعة20 أبريل 1973) الذي تصدرته صورة جماهير تتقدم نعوش الشهداء الفلسطينيين في بيروت، وتضمن عرض الأستاذ علال الفاسي لكتابي: القرآن في ضوء الفكر المادي الجدلي، والدستور الإسلامي تحت عنوان “خداع العناوين أو الجحود والجمود”؛
وقصيدة “نقوش ملتهبة على جبين عروة” لعبد الله راجع؛
وقصيدة”أناشيد للوجه الضائع” لأحمد الجوماري؛ وحوار مع الشاعر عنيبة محمد الحمري؛
وقصة قصيرة بعنوان”حادثة شرف” لعبد الرحيم مودن؛
وختم العدد بالجزء الثاني من دراسة الأستاذ عبد الكريم غلاب “أزمة الشعر العربي: الوضوح والغموض”.
وأعرض أهم مواد المحرر الثقافي (العدد: 36 بتاريخ الأحد9 نوفمبر1980) الذي تصدرته لوحة”جسم سليم” لأحمد بن يسف، وقصيدة “التغريبة الأولى” لثريا مجدولين.
وضمن العدد نجد عرضا للأستاذ محمد زنيبر عن “الناصرية والنظام العالمي الجديد”؛
وقصة قصيرة بعنوان “وردة لتماضر” لأحمد المديني؛
ومقالا بعنوان “النص الشعري ومحاولة فك الحصار” لعزيز الحصيني؛
ودراسة عثمان أشقرا “مساهمة في فتح ملف السوسيولوجيا الاستعمارية بالمغرب”.
ولعل هذين المثالين يبينان مدى ثراء موادهما، وقيمة الدور الثقافي الذي كانت تنهض به الملاحق الثقافية، التي تعززت لاحقا بأخرى لصحف “البيان”، و”الميثاق الوطني”، و”أنوال”…
كل ذلك لن ينسيني ذكر فضل صحف محلية كانت تصدر في تطوان في تلك المرحلة، أذكر منها صحيفة “النور” ثم “الوحدة الكبرى” ثم “تمودة”…
ومعلوم أن تطوان كانت تحتضن،إبان فترة الحماية، عشرات الصحف بالعربية وغيرها، وللتأكد من ذلك يراجع كتاب النقيب الأستاذ محمد الحبيب الخراز “الصحافة بشمال المغرب من التأسيس إلى الاستقلال”، وكتاب د. أنس الحسيسن “نحو صحافة جهوية متقدمة”.
وبفضل ما وقر في القلب من حب جم للصحافة، اندفعت بأخرة، رفقة نخبة عزيزة من أبناء مدينة تطوان، صوب إنشاء صحيفة سميناها “القبس الشمالي”؛ قالت كلمتها في أربعة أعداد وثوى هلالها قبل أن يتم نوره!
ثم سلمت المشعل لمن استأنس في نفسه القدرة المادية والمعنوية على مواصلة المسيرة الطويلة!
وبعد؛
فها نحن في زمن انبثاق الصحافة الإلكترونية التي زاحمت الصحافة الورقية إلى درجة انحسار بعضها، وتوقف صدور بعضها الآخر نهائيا.
نتساءل هل بمقدور هذه الصحافة أن تقوم بما كانت تقوم به الصحافة الورقية من أدوار رائدة أسهمت في تثقيف الأجيال وتكوينها والارتقاء بدرجة وعيها؟
إن ما تتمتع به هذه الصحافة الإلكترونية من قوة التأثير وسرعة الانتشار، يضاعف مسؤوليتها في بناء أجيال قادرة على قيادة المرحلة وإدارتها بكفاءة تنقل مجتمعاتنا إلى مصاف الأمم الراقية.
ومهما تعددت أشكال الصحافة وتطورت صيغها ستظل شاهدة على قدرة أقلامها على تسخير سلطتها لخدمة القيم المكرمة للإنسان الذي خلقه بارئه في أحسن تقويم.
وستبقى”آية” كما قال الشاعر أحمد شوقي رحمه الله:
لكل زمان مضى آية وآية هذا الزمان الصحف
لسان البلاد ونبض العباد وكهف الحقوق وحرب الجنف.
د. محمد محمد المعلمي