تتشكل منظومة القيم من مجموع الأخلاق الحميدة والمبادئ السامية التي تجعل من الفرد إنسانا مكتمل الإنسانية يسعى لتحقيق مبدإ الاستخلاف الذي من أجله خُلق وله أنزل على هذه الارض. وجاء الإسلام الحنيف منذ كان لتثبيت هذه القيم في المجتمع خدمةً للفرد والجماعة وسعيا لحياة كريمة تليق بخليفة الله فوق أرضه. لذلك وُجه إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتسود التقوى بين الناس أجمعين. وهذا لا يتأتى إلا بزرع الخير وتجنب الشر مما ينتج عنه سريان المحبة بين الخلائق سريان النور المبدد للظلام. وما يعرفه العالم اليوم من ارتجاج وتصدع إلا نتيجة انزياحه عن المنظومة القيمية خاصة في المجتمعات العربية والإسلامية التي تعرف اليوم ظواهر هجينة ما أبعدها عن العربي الموسوم تاريخيا بالكرم والنخوة والنجدة والوفاء… فضلا عن المسلم الذي يفترض فيه كل خير. لذا، نعرض عبر هذه الصفحة لبعض القيم تذكيرا بها وإبرازا لبعض مظاهرها ومزاياها بالنسبة للفرد والمجتمع.
1/ تحديد مفهوم الإيثار من المنظور الإسلامي:
الإيثار لغةً: مصدر من فعل آثر يؤثر إيثارا بمعنى التقديم والاختيار والتخصيص. يقال: آثره إيثارا أي اختاره وفضَّله. ويقال: آثره على نفسه أي فضله على نفسه.
والإيثار اصطلاحاً: يعني أن يقدم المرءُ غيرَه على نفسِه في النفْع له والدفْع عنه، وهو النهاية في الأخوة…
فالإيثار من المنظور الإسلامي قيمة من القيم العظيمة، وخلق رفيع من الأخلاق السامية؛ لأنه أعلى مراتب السخاء والجود، كون المؤثر يعطي حتى لو كانت به خصاصة، أو كان يحب الشيء الذي سيعطيه. وبما أن الإسلام دين أخلاق، حرص على غرس قيمة الإيثار في نفوس المسلمين جميعا من أجل زرع روح المساعدة والتعاون والتآزر بصورة راقية تجعل المؤثر ينتبه للآخر قبل نفسه، ويراعي احتياجاته قبل أناته، وكأنه بذلك يجاهد هذه النفس التواقة لذاتها، المتجاهلة لغيرها في أغلب الحالات التي تصادف الإنسان في حياته وفي علاقاته مع الآخر. وبما أن الإيثار يحقق التغلب على النقائص الأخلاقية، والرذائل السلوكية كالأنانية مثلا، لم يكتف القرآن الكريم بنشر روح المودة والمحبة والتعاون بين المسلمين لكي يحبَّ المسلم لأخيه ما يحبُّه لنفسه، بل ارتفع بأخلاق الإنسان، وسما بسلوكه إلى الدرجة التي يؤثر فيها أخاه على نفسه تحقيقا للأخوة الصادقة، وحفاظا على الإنسانية الراقية.
2/ قيمة الإيثار في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف:
ذُكر الإيثار في القرآن الكريم تنويها بالمؤثرين ومدحا لمقامهم وتحفيزا لباقي الناس على التخلق به. قال الله سبحانه وتعالى في الأنصار عندما آثروا المهاجرين على أنفسهم: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالاِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُوثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، سورة الحشر: الآية 9
وقال سبحانه كذلك: ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾، سورة آل عمران: الآية 92
وقال سبحانه أيضا: ﴿ لَّيْسَ ٱلْبِرُّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ، وَلَٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنَ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ الآخِرِ وَٱلْمَلَٰٓائِكَةِ وَٱلْكِتَابِ وَٱلنَّبِيّينَ وَءَاتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينَ وَبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِى ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ، وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَٰهَدُواْ ۖ وَٱلصَّٰبِرِينَ فِى ٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلْبَأْسِ، أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ، وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ ﴾، سورة البقرة: الآية 177
كما ورد الإيثار في العديد من الأحاديث النبوية الشريفة التي حث فيها الرسول الأكرم عليه؛ فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الأشعريِّين إذا أرْملوا في الغزو، أو قلَّ طعامُ عِيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوبٍ واحدٍ، ثمَّ اقتسموه بينهم في إناءٍ واحدٍ بالسَّويَّة، فهم منِّي، وأنا منهم». فإيثار الأشعريين بعضَهم بعضا جعلهم يحظون بالنسبة المشرفة لأشرف الخلق أجمعين. وهذا دليلٌ على عِظم هذا الخُلق الرفيع، وحثٌّ على التخلق به أسوة بهؤلاء الفضلاء الكرماء الأسخياء الأخيار.
وفي الحث على العطاء والإيثار، ورد بلفظ مسلم: «طعام الواحد يكفي الإثنين، وطعام الإثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثَّمانية». ولذلك همَّ الفاروق عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه سنة المجاعة أن يجعل مع كل أهل بيت مثلهم، وقال: «لن يهلك أحد عن نصف قوته».
3/ من مظاهر الإيثار ومزاياه بالنسبة للفرد والمجتمع:
رسم ديننا الحنيف للفرد المسلم صورة أخلاقية وسلوكية مثالية، هدفها بناء شخصية قوية لا تزعزعها نوائب الدهر ولا تقلبات الزمن. سلاحها منظومة قيمية أخلاقية سلوكية متينة جميلة تتماشى مع جمال الكون وعظمة خالقه. قدوته سيد الخلق الذي بعثه الله بكل ذلك: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «إنما بعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق»؛ فهو الرحمة المهداة إلى الناس أجمعين. وهذه الرحمة – واقتداء به واهتداء بنهجه – يُفترض أن تتجلى في قيمة الإيثار الذي يجعل الفرد معطاء متعاونا مضحيا متفانيا في خدمة الآخرين قبل نفسه. وهذا ما يخلف آثارا طيبة عليه وعلى المجتمع الذي يوجد فيه على حد سواء نذكر منها على سبيل المثال:
- الإيثار أبلغ وسيلة لتعبير العبد عن محبته لربه، وخير دليل على صدق إيمانه وكماله.
- الإيثار أضمن طريق لحصول العبد على محبة الله ورضاه. فتظهر بذلك ثمار الإيثار على المؤثر في الدنيا والآخرة معا.
- الإيثار يجعل الفرد ينجح في التخلق بالأخلاق المحمدية كما كان يفعل الصحابة رضوان الله عليهم حتى شكل مجتمعهم أفضل المجتمعات.
- الإيثار يطرح البركة في حياة الفرد وفي طعامه وماله وكل ما يملك.
- الإيثار سبيل لجعل الفرد يتغلب على أنانيته وبالتالي تقدير باقي أفراد المجتمع.
- الإيثار يضرم فتيل المحبة بين الناس مما يثمر جوا نقيا ومريحا للجميع.
- الإيثار يدفع العبد للتخلق بأخلاق حسنة أخرى كالرحمة وحب الخير والسعي لمنفعة الناس والابتعاد عن البخل والطمع.
- بالإيثار يسود التعاون والتآزر والمحبة بين أبناء المجتمع الواحد، مما يسهم في تقدم البلاد وتطور المجتمع فردا وجماعة.
ومن مظاهر الإيثار التي تترجم فعليا المزايا المذكورة سلفا إيثار الوالديْن أبناءهما على نفسيهما في كل شيء من باب إدخال الفرحة عليهم وإسعادهم وتربيتهم على التضحية والجود والسخاء. وهذا كفيل بخلق مزيد محبة وتقدير واجتهاد مستقبلي لرد المعروف والإحسان وإن كان ذلك واجبا على الأبناء تجاه والديهم. علاوة على فعل نفس الشيء مستقبلا مع زوجاتهم وأزواجهم وبناتهم وأبنائهم.
ومن مظاهر الإيثار المؤثِّرة الموجودة بمجتمعنا أن يؤثر أحدُ الأبناء إخوتَه على نفسه فيشارك في مساعدة الأب على توفير وتدبير مصاريف البيت مساهمة منه في دراسة بقية الإخوة وعونا لهم على بناء مستقبلهم. أو أن تؤثر الأختُ الكبرى أختَها الصغرى لغرض مشابه لذلك. وقد كنا نسمع عن بعض الجيران يؤثرون بعضهم بعضا في كثير من الأمور المعيشية كشراء أضحية العيد للجارة الأرملة – أم الأيتام على الخصوص – قبل أضحيتهم. أو إيثار تجهيز عروس فقيرة على السفر للاصطياف مثلا… وغيرها من الأمثلة الكثيرة التي نكاد نفتقدها اليوم، ومعها سنفقد روح الإحساس بالآخر والشعور بمعاناة الآخرين.
دة. لطيفة الوزاني الطيبي