2ـ الشاعر أبي العباس سيدي أحمد بن الرضي بن عثمان المكناسي
رحمه الله
وصفه العلامة عبد الرحمان بن زيدان في كتابه ” إعلام الناس بجمال حاضرة مكناس ” بأنه: ” نابغة زمانه، علامة مشارك محدث، نقاد فصيح بليغ، ذو ملكة واقتدار. ناظم ناثر محاضر، محبر تحرير، وجيه نزيه. ”
ولقد كان كاتبا للسلطان سيدي محمد بن عبد الله ، وكان محترما عنده، مقدرا في بلاطه.
وفي كتاب ” البستان ” لأبي القاسم الزياني وصفه بالمشاركة.
وقال عنه سليمان الحوات : ” الأديب البليغ الهمام “.
وكان من جملة العلماء المحدثين الذين نقلهم محمد بن عبد الله إلى مراكش، وفرقهم على مساجد لها بقصد تدريس العلم. وهذا يدل على سعة علمه ومبلغه من أفانين البلاغة وحسن الصياغة.
وقال عنه ابن زيدان: ” لم أقف على تاريخ وفاته ” وذلك بعد اطلاعه على ما كتبه عنه من سبقه.
نظم الأديب البليغ، الشاعر أحمد بن الرضي بن عثمان المكناسي، قصائد شعرية في مختلف فنون القول.
ومما قاله يخاطب الشريف الوزاني مولاي التهامي المعروف :
مستطلعا أن يرى في أفقنا قمرا | ما حيلتي في هلال المجد أرقبه |
رأيت في العدل كالصديق أو عمرا | لو أكمل الله في الأحكام إمرته |
طير يغرد في أغصانه سحرا | إلى شمائل في الأوراق يسردها |
سحبان وائل أو قس الذي سحرا | هذا وكم خطب من فكره سحرت |
في روضة الطرس من أوراقه زهرا | وكم تحول مج الحبر من قلم |
فأجابه بقوله: ” ولما وصلت هذه الأبيات إلى الشريف المذكور، أعمل في جوابه جهد المستطيع، وإن لم يدرك شأو الضليع. فقال من أبيات:
سرى في فنون المنتشين سرورها | أطاسات راح راح يشدو مديرها |
من العسجد السامي المذاب شذورها | يواقيت سحر أحكم النظم نسقها |
دجا ليلها لولاك ما بان نورها | لك الله كم أبدعت كشف غوامض |
يشرف أعلام الرجال صغيرها | فلا زلت محمودا بكل فضيلة |
في هذه القصيدة يسير الشاعر مع المعروف المتبادل في القصيدة المادحة القديمة. حيث تستحضر القصيدة في روحها الشعر المدحي القديم، لغة وقالبا وموسيقى. هكذا يفتتح الشاعر قصيدته بمطلع فخم، على عادة القدماء يجلب به انتباه القارئ ، متمنيا فيه زيارة المولى التهامي الذي يشبهه بهلال المجد أفق حاضرته. ذلك أن المجد من حيث كونه لا يتأتى لجميع الناس، فهو لا يبزغ إلا قليلا كالهلال، يزين السماء من أول الشهر إلى أول الشهر. ثم يشرع الشاعر في تصوير خلال ممدوحه؛ هذه الخلال التي تناسب المقام الشريف الذي يتمتع به الممدوح، والذي يجعل له مكانة خاصة عند العارفين به.
وهو ينتبه إلى نفس الصفات التي رددها الشعراء قديما في أمداحهم: فهو في العدل علم بارز كالصديق أو عمر. وهو ذو فكر ثاقب ولسان فصيح، طالما سحر بهما الناس في خطبه، بل سحر بهما قطبين من أبرز أقطاب هذا الفن من القول في شخص سحبان بن وائل وقس بن ساعدة.
وهو يجمع بين الخطابة والشعر، فيبرع في النثر كما يبرع في الشعر، وتلك ميزة لا تجتمع للكثيرين. إنه على الجملة بحر من المعارف.
وقال متغزلا في قصيدة:
فما يزداد بي إلا أوارا | هوى يعلو فأخفضه اصطبارا |
فتستهويني الذكرى افتكارا | وأضرب عن حديث الحب صفحا |
وقيس حازه ثوبا معارا | لبس الحب فوق العظم جلدا |
يرى أهل الهوى فيه اعتبارا | فإن تعجب فأمري عجيب |
ويقول أيضا متغزلا:
لا تفتن الورى من لحظك الحور | استر جمالك عنا أيها القمر |
من فوق منبره إذ حفت الزمر | أسمعت خطيب الناس خاطبهم |
فإنما أصل داء العشق النظر | أن حاذروا كل من يسطو بمهجته |
ذاك البهاء الذي حارت به الفكر | فراقب الله واضرب بالنقاب على |
في القصيدة الأولى يسير الشاعر على غرار القدماء في تصوير شدة حبه وهيامه بممدوحه. ويردد معهم أنه كلما عمل على التخفيف من حدة هذا الحب، كلما ازدادت ناره اشتعالا في نفسه، وكلما أضرب عن الحديث عنه، كلما استهوته ذكراه.
ويأتي هنا بمعنى عجيب، حين يعتبر أن قيس بن الملوح، إمام المحبين، لايعادله في إحساسه بعذاب الحب. فقد لبسه الحب كما يلبس الجلد العظم، في حين أن قيسا استعار هذا اللباس ممن سبقوه. وتلك مبالغة، وإن بدت غريبة على القارئ بحكم المكانة التي لا يجهلها أحد لقيس من في ميدان الغرام، وارتباط هذا الإسم عند القراء بأجمل معاني الحب، فإنها مبالغة ممدوحة في هذا المجال.
ولا يخفى للمتتبع أن يدرك أن القصيدة تسير في ركاب الشعر الغزلي القديم، حين تردد نفس المعاني التي كان يقوم عليها هذا الشعر، من إشعار للقارئ بشدة الحب الذي يعصف بالشاعر، والمفاخرة بهذه الشدة على من عرفوا الحب قبله من أعلام هذا الشعر كقيس أو غيره، وتصوير محاسن المحبوب وجعله في أجمل صورة ممكنة.
وعلى صغر المقطوعة الثانية، فإنها تستوقف القارئ خصوصا بروحها المرحة، حين يطلب الشاعر من فاتنة حاسرة أن تستر وجهها الذي يشبه القمر خوفا على الناس أن يفتتنوا بسحر عينيها، مسائلا إياها إن كانت لم تسمع أن أصل داء العشق النظر إلى حسان الوجوه. وتعبر هذه الأبيات عن شاعرية متميزة، ذلك أنه من الصعب أن تستثير أبيات أربعة القارئ إلا إذا كانت كذلك !
وله في وصف رياض:
وما كان لنا الأنس ذا طوع وإذعان | وروضة راضت الأنس للشرود |
في مشيه بين أدواح وأغصان | ضل النسيم بها سكران منخذلا |
إذ حدثت عن ضبا برق وأمزان | والزهر من قصص الأطيار مبتسم |
أعينه بغزير الدمع هتان | قالت هنا السحب خاف البرق فانبجست |
والغصن في قلق ونحن في شان | والرعد يفري وخيل الرمح قد جمحت |
في هذه القصيدة الوصفية، يصف الشاعر روضة خرج إليها رفقة أصدقائه، فآنستهم وأبعدت الهم عنهم، بمحاسنها التي تعجز الوصف. وكغيره من شعراء الطبيعة، يتتبع مظاهر هذه الروعة في النسيم العليل السكران بين أشجارها وأغصانها، وفي الزهر المبتسم من حديث الطير إذ أحس المطر، هذا المطر الذي بكى بأعين غزيرة الدمع، يصاحبه رعد قوي، وريح جعلت الغصن في قلق.
والقصيدة كما نرى تستلهم أشعار الطبيعة عند القدماء في معانيها وصورها وروحها التي تكتفي بالنظر إلى الطبيعة نظرة المفتتن بها دون أن تدخل معها في علاقة أعمق من ذلك.
وله أيضا يخاطب أحد القضاة :
بحقك وفينا وما كنت وافيا | أمحتقرا قدري وعظمت قدره |
بأدون منه رتبة ومعاليا | على صاحبي سلمت دوني ولم أكن |
فرب كلام للقضاء مساويا | وجاه القضا إن كنت تبغي جلاله |
وإن لم يكن بين البرية قاضيا | ورب امرئ يقضي بهمة عزمه |
فإن سواد العين أصغر رائيا | وإن تحتقر ذاتي لقلة جرمها |
في هذه القصيدة عتاب رقيق لأحد القضاة، من نفس أبية واثقة من قيمتها، تعاف أن يستصغرها أحد، أيا كان شأنه، ومهما علت مكانته. حيث حز في نفس الشاعر أن يسلم أحد القضاة على صديقه دونه، وهو لا يقل مكانة عنه. وينبهه إلى أنه إن كان قد فعل ذلك تعاظما بمكانته كقاض بين الناس، فإن له من همة عزمه ما يجعله قاضيا بين الناس وإن لم يكن يشتغل بالقضاء. و لئن كان قد احتقره ربما لصغر حجمه، فإن سواد العين أصغر نقطة فيها وهي مع ذلك التي تمنحها القدرة على الإبصار!
وهكذا نرى أن القصيدة ناطقة بهمة صاحبها وعزة نفسه ورهافة إحساسه. وفيها من حلاوة الطبع ما يجعلها تدخل قلوب القراء من دون استثناء.
وله أيضا هذه المقطوعة مخاطبا أحد أصدقائه :
ومن خلقه كالمسك أو هو أطيب | ألا يا هلال المجد والجود والمدى |
فمثلك من وفى وذلك أنسب | وعدت مشوقا أن تزور فإن تزر |
فمثلك يا صديق للصدق أنسب | وأما إذا كنت للعهد ناسيا |
فيا عجبا حتى الأهلة تغضب | وإن كنت يا هلالي مني غاضبا |
في هذه المقطوعة من الإخوانيات عتاب رقيق من الشاعر لصديقه. ذلك أنه صديق طيب الخلال، ماجد كريم، خلقه كالمسك أو أطيب. ولقد وعده أن يزوره ليبرد نار شوقه إليه، لكنه لم يفعل، وقد كان به أولى أن يفعل، فمثله جدير أن يفعل.
وفي القصيدة شاعرية جميلة وروح مرحة، حيث ينهيها مسائلا صديقه إن كان غاضبا منه، ويتعجب كيف أن الأهلة تغضب! وعلى الرغم من قلة عدد هذه الأبيات، فإن ما فيها من حلاوة وفكر رصين وخلق طيب كريم، كفيل بأن يجعل صديقه يطير إليه زائرا.
وواضح من هذه النماذج التي قدمتها، أن الشاعر يملك قدرة شعرية واضحة تؤهله للخوض في مختلف أفانين القول وباقتدار واضح. وأن شعره يدور في فلك الشعر القديم سواء من حيث الأغراض كالمدح والغزل والوصف والعتاب والإخوانيات، أو من حيث طبيعة المعاني والأفكار التي عبرت عنها هذه الأغراض، أو من حيث طبيعة اللغة الموظفة، أو من حيث الوسائل التعبيرية الموظفة.
دة. نبوية العشاب