يجمل بنا أثناء البحث عن الدور الجهادي الذي اضطلع به أهل جبل الحبيب في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين (1415 – 1578م) تقسيم الفترة إلى مرحلتين، الفاصل بينهما سنة احتلال كل من أصيلا وطنجة عام 1471م، ويرجع هدا الفصل بين المرحلتين إلى الفرق الواضح الطارئ على الحركة الجهادية بأقاليم الشمال الغربي المغربي من حيث التنظيم الذي عرفته خلال المرحلتين، حيث سينتقل الجبل من المرحلة الأولى فاعلا مشاركا في الحملات العسكرية المرينية والمواجهات التحريرية الإقليمية إلى رباط جهادي بقرية الخروب بالجبل لانطلاق الغارات والمواجهة التحريرية ضد سبتة والقصر الصغير إلى احتلال أصيلا سنة 1471م، ومن ثم مركزا عسكريا بالشمال الغربي في ظل الإمارة الراشيدية الشفشاونية ضد أصيلا وطنجة مند احتلالهما إلى معركة وادي المخازن الفاصلة بين الطرفين المغربي والبرتغالي سنة 1578م.
- جبل الحبيب أثناء تبعيته لطنجة مند احتلال سبتة إلى حين سقوط طنجة (1415 – 1471م).
في « عهد دولة بني مرين (…) كان في سبتة والقصر الصغير وطنجة وأصيلا وجبل الحبيب كله، علاوة على سهول شاسعة حاكم كبير ينتسب إلى بني مرين (صالح بن صالح الياباني العزفي)، ولما استولى الملك (دون جواو) على سبتة (818ه – 1415م) وكانت أهم مدن مناطق نفوذه انتقل إلى طنجة وأمضى ما تبقى من عمره في الانتقال بين تلك المدينة وأصيلا »[1]، فانتقل جبل الحبيب من تبعيته لسبتة إثر سقوطها إلى حكم طنجة.
ويعد الجبل خلال هده الفترة من الجهات التي شعرت بخطورة وقوع مدينة سبتة بيد البرتغاليين، إذ أن أهله كانوا من السباقين إلى التضامن مع ما بقي من جهات الشمال الغربي المغربي مند اللحظات الأولى التي شمر فيها جبل مجكسة (ما بين تطوان وسبتة) عن تنظيم مقاومة ضد الوجود الايبري، فقد كان لسبتة مخطط واضح في التوسع نحو الداخل المغربي واستهداف قبائله وقراه عاجلا أو آجلا، حيث نقف على ما يعبر عن ﺫلك من خلال مقتطف من خطاب حاكمها الكوند الأول (دون بيدرو دو منزش) في اجتماع مع نبلاء المدينة وقواد جندها في الشهر الأول من الاحتلال قائلا: « لن نتردد في الخروج لإبعاد أولائك الكفار عن السور كلما كانت الظروف مواتية، أظن أنهم سيضطرون كلما مكننا الله من الانتصار عليهم إلى الابتعاد أكثر وأكثر، مما سيمكننا من اقتحام أراضيهم، كما لو كانت ملكا لنا، سنظل – إن لم نفعل ﺫلك – طوال أيامنا في حالة استنفار»[2].
ومن جهة فإن مسلمي الجوار السبتي « لم يتوقفوا خلال عشرين يوما عن المجيء لمهاجمة رجالنا، دون أن تسفر تلك المعارك عن انتصار طرف على الآخر »[3]، فقد « خاضوا يوميا حروبا ومناوشات تحققت فيها منجزات »[4]، ولم أقف على سطور برتغالية مؤرخة تثبت وجود جبل الحبيب من جهة في هجمات العشرين يوما هده، حيث لا أستبعد مشاركته، ولم أعرف قائده الجهادي أيضا، لكن سرعان ما سنعلم أن محاربي الجبل سينضوون تحت الرئاسة العسكرية لقائد بالشمال الغربي، فحسب (زورارا) مؤرخ البلاط البرتغالي أنه « لما انتبه المسلمون إلى صعوبة تحقيق ما أتوا من أجله بدؤوا يبتعدون تدريجيا عن المدينة، وبما أنهم لاحظوا أن عليهم خوض معركة طويلة النفس في انتظار أن يبتسم لهم الحظ، فقد انتبهوا إلى ضرورة اختيار قائد يوجههم، لدلك نادوا على مريني كان يقيم في المنطقة يسمى عبو، قائد منطقة تسمى مجكسة (جبل ما بين تطوان وسبتة) وهو رجل جمع فضيلتي الحكمة والكرم »[5]، وحسب المؤلف « لم تكن سلطة عبو تقتصر على مجكسة، منطقة نفوذه، بل كانت تشمل كذلك بني يجم [بنو حزمر] وبني مكان، وبني كرفط، وجميع سكان منطقة غمارة الممتدة إلى الغرب »، وحسب هدا الامتداد الجغرافي فإن جبل الحبيب يدخل ضمن نطاق محمد عبو باعتباره القائد الأعلى لمحاربيه، وكل شيوخ القبائل يخضعون له ويأتمرون بأمره ضمن نظام المشيخة.
وإن كان المؤلف (زورارا) ذكر لنا – من جهة – بعض شيوخ القبائل الشمال الغربي ﻛ « ابن حدو بن أحمد شيخ بني عروس (…) بن رحو شيخ جل قبائل شفشاون، ويوسف قائد أنجرة وجميع سكان تلك المنطقة »[6]، فإنه لم يذكر لنا من كان وقتها شيخ جبل الحبيب، كما أني لم أقف على ﺫلك في الكتابات المغربية ولا الأجنبية، فمن المستبعد عدم وجود شيخ له، فقد ذكر (زورارا) أنه شارك في هده الفترة في إحدى الهجمات على سبتة « شيوخ آخرون من الجبل » دون الإشارة إلى أسمائهم إلا ما سبق ذكرهم، وإلا قد يكون آنذاك ضمن النفوذ الترابي لشيخ بني عروس أو أنجرة وقتها، وإن كان هدا غير وارد في سياق النظام المشيخي القبلي المغربي عهد بني مرين، الذي يستوجب شيخا على رأس كل قبيلة، وإن غاب عنا شيخ الجبل فإنه لم تغب عنا مشاركات محاربيه في الهجمات على سبتة تحت قيادة قائد ما، حيث نجد عند الحملة المرينية الأولى على سبتة شهر غشت من سنة 1419م محاربي الجبل وبني حزمر وطنجة والقصر الصغير ومصمودة يهاجمونها رفقة حاكم طنجة صالح بن صالح الياباني من جهة البحر، فيما هاجم سبتة من ناحية باب فاس محاربو بني عروس وبني كرفط ومناطق شفشاون وأنجرة وجوارها، وهدا يدل على أن جبل الحبيب لم يكن ضمن مشيخة بني عروس، بل كان له شيخ وقائد عسكري مستقلين، ويخضع لحاكم طنجة صالح ابن صالح، لكن نتساءل عن من كان يقود محاربي جبل الحبيب سنوات (1415 – 1419م) هل شيخ الجبل أم قائد معين من قبل صالح ابن صالح ؟ فهدا ما لم تشير إليه المصادر المغربية ولا البرتغالية.
وأما عن أولى المشاركات الجهادية للجبل ضد سبتة وإسهاماته التحريرية تجاهها فلا ندري بالضبط، وما نعلمه عن الجبل بعد العمليتين العسكريتين الأولى والثانية لعبو أنه كان من ضمن الاجتماع المعقود من قبل الجوار السبتي المسلم وبحضور ممثلين من جبل الحبيب وغيره من قبائل الشمال الغربي، حيث « اتفقوا على مساعدة عبو فيما سيخوضه من حروب، وتمكينه من الرجال الدين قد يرغب في تجنيدهم، وأن يقبلوا عليه يوميا من جميع الجهات »، وعلى الابتعاد عن سبتة قدر ما يحميهم، وسيقود « ﺫلك المسلم الفذ الشيخ عبو، أفضل رجالات تلك المنطقة وقتذاك (…) ألفي محارب من جبال غمارة [كجبل الحبيب] كانوا يطيعونه وينفذون أوامره كلها »[7].
وسيظهر جبل الحبيب في ساحات القتال – مسطرا حسب الكتابات البرتغالية – بعد هدا الاتفاق كما سنرى.
- مشاركة جبل الحبيب في الحصار المريني الأول على سبتة سنة 1419م ودوره من جهة بحرها.
يعود تصريح المصادر التاريخية البرتغالية بالمشاركة الأولى لأهل جبل الحبيب في ميدان سبتة إلى الإعلان عن مساهمته في الحصار المغربي الأندلسي (الغرناطي) الأول على سبتة في اليوم الرابع من الحصار الموافق للسادس عشر من غشت سنة 1419م، وقد وفد جبل الحبيب بفرقته وقائده الذي كان رفيق رئيس المجاهدين بجبل مجكسة والقائد الأعلى لمجاهدي الشمال المغربي عبو بن محمد المجكسي، تلبية لندائه، وكان دور الفرقة بارزا في ساحة القتال بانضمامها إلى الجناح الأيمن المكلف بالهجوم على برج الماء المريني « من جهة البحر، فقد كان المقاتلون تحت قيادة شيخ الشاوية المسمى أبا بكر، وكان إلى جانبه محاربون من بني حزمار وجبل حبيب وجزولة وطنجة والقصر الصغير ومصمودة »، فلقد هاجم أهل جبل الحبيب – إلى جانب إخوانهم الجهة التي كلفوا بها – « السور في نظام بديع، بيد أن عددا كبيرا منهم سرعان ما أسقطتهم النبال التي لم تكن تخطئهم أبدا لكثرتهم وتراصهم ». وربما حظي محاربو الجبل بالاستفادة من تجربة قاسم بن مكان، كبير ربابنة مدينة سبتة وأسيرها بها عند احتلالها، وقد صادف فراره منها عند هاته الحملة يومها ليلا، فكان هو من تولى وقائع جهة البحر التي كان عليها محاربو جبل الحبيب ومن معهم، وسيعرف الحصار رمي المدعو (فرناو رودريكش) « عبو برمح كبير، وأصابه في ﺫراعه »[8] دون أن يستشهد إلا في الحصار المغربي الأندلسي الثاني من نفس السنة شهر دجنبر.
- الحركة الجهادية بجبل الحبيب سنوات (1419 – 1435م) بقيادة علي أبي الحسن.
لم نجد لجبل الحبيب خبرا مند الحصار المغربي الغرناطي الأول إلى حدود سنة 1421م، لكننا نتمكن لأول مرة من معرفة اسم قائد جبل الحبيب في هاته الحملة الأولى، وهو أبو علي الحسن المريني الأنجري، الذي يمكن القول أننا تعرفنا عليه مند عام 1416م حيث كان شيخ قرية واد الرمل الانجرية حين داهمتها حامية سبتة وتم إخلاء أهلها في السنة المذكورة، وقد انتقل أبو علي إلى جبل الحبيب وبرز على رأس مجاهديه بعد استشهاد رئيسه محمد بن عبو في الحصار الثاني في دجنبر سنة 1419م – 822ه، متخذا من الجبل – الذي أضحت الظروف مواتية له ليكون البديل المركزي الجهادي بالشمال الغربي لانطلاق الحملات في اتجاه سبتة في ظل حاكم طنجة السالف الذكر – نقطة الحملات الجهادية نحو سبتة بتعاون مع جماعات جزولة المقيمة بمقربات الميدان السبتي، ونستطيع من الآن فصاعدا أن نتابع أثر أبي علي على رأس محاربي جبل الحبيب، وفي أغلب الاعتقاد أن اختيار أبي علي على رأس مجاهدي الجبل يعود إلى حاكم طنجة صالح بن صالح العزفي، إذ أنه ساعده على إعادة بناء قلعة الخروب، كما بنى صالح لنفسه هناك قصرا لإحدى زوجاته.
- هجوم ثالث لقبيلة جزولة المرابطة على سبتة بأوامر من جبل الحبيب القيادة المركزية للشمال الغربي.
نستطيع تتبع غارات جبل الحبيب ما بين سنوات 1421 – 1424م من خلال مصدرنا المعتمد، فقد عادت قبيلة جزولة لهجومها الثالث على سبتة، وكانت أوامر الغزوات تنطلق من جبل الحبيب إليها – كما هجومها الثاني – بناء على المعلومات التي وصلت إليه من مراكز مرابطة الشيخ عبد الرحمن الجزولي مقدم جماعة جزولة، فقد باغتت – الى جانب مسلمين آخرين – سبتة بعدد قدر « بألف وخمسمائة أو ألف وستمائة راجل،وبخمسة وثمانين خيالا (…) أسر من المسلمين خمسة وأربعون، وقتل منهم مائتان وأربعة وثمانون، فضلا عمن )اختفى في الغابة، وعن أولائك الدين تاهوا عبر الطرقات وهم يحتضرون »[9].
وبعد اختفاء أهل جزولة من ميدان سبتة وجدنا محاربي جبل الحبيب بقيادة أبي علي الحسن إلى جانب القوات التي زحف بها الوزير الوطاسي الوصي على عبد الحق المريني المعروف بأبي زكرياء يحيى، القادم لحصار سبتة عام 1426م، حيث ظهرت فرقة جبل الحبيب مع رجال درعة، وخاصة الواصلين إلى الميدان برفقة الوزير الوطاسي المذكور.
وسيضل أبو علي على رئاسة الجبل إلى أن تختفي عنا أخباره بالكتابات البرتغالية سنة 1435م.
يتبع (3)
هوامش :
[1] – شمال المغرب من خلال مصادر برتغالية (1415 – 1490م )، نقلا عن ( تاريخ الكونت دوم بيردرو دي منيزيش، جوميز إيانس دي زورا) طبعة ودراسة من قبل مؤسسة ماريا تيريزا بروكاردو، لشبونة، ومؤسسة كالوست جولبنكيان والمجلس الوطني للبحث العلمي والتكنولوجي، 1997، القسم الثاني، الفصل ثلاثة عشر ومائة، ص 288.
[2] – نفسه، الفصل الخامس عشر، ص 31
[3] نفسه، الفصل السابع عشر، ص 35.
[4] – نفسه، الفصل الثاني والعشرين، ص 43
[5] – نفسه، الفصل السابع عشر، 35.
[6] – نفسه، الفصل السابع عشر، 129
[7] – نفسه، الفصل الثاني والعشرين، 45
[8] – نفسه، الفصل السابع والستون، ص 130
[9] – نفسه، القسم الثاني، الفصل السابع، ص 162 – 163
محمد أخديم