كتابات في تاريخ منطقة الشمال ..
الجمعة 06 ينايـر 2017 – 16:22:39
ظلَّت مدينة طنجة، وعلى امتداد تاريخها الطويل، منارة للعمل وللمعرفة، ومركزا للإشعاع الثقافي والرُّوحـي الّــذي أرخــى بظِلالهِ الوارفَـة علـى مُجملِ بـلاد المغرب وعلى عُمــوم الضفـة الغـربية للعـالم الإسلامـي.
وظلَّت المدينة تُنتج أسمـاء على أسمــاء، وتجَارب على تجارب، ومَسارات على مسارات، إلى أن تَحوَّلت إلى قِبلة للمريدين وللباحثين عن سكينة الروح وعن زهد الملمح وعن وجد النزوع. إنه ميسم التصوف الذي أعطى للمدينة ألقها داخل العالم الإسلامي الواسع. وداخل هذا الألق الأخاذ، كان للزاوية الصديقية دور كبير في رسم معالم الهوية الروحية للمدينة ولكل المنطقة الغربية من بلاد المغرب، من خلال الإسهامات الكبرى التي خلفها أعلامها الأفذاذ وشيوخها الكبار. ونتيجة لذلك، أضحى من المؤكد أن الباحث لن يتمكن من التوثيق لمسارات التراث الديني ولأدوار علماء المدينة في رسم الكثير من وقائع الماضي وتوجيه السلوك الديني للمجتمع وتقويم المسلكيات اليومية للفرد وللجماعة، بدون العودة المتجددة للتأمل في ذخائر التراث العلمي والسير العطرة المرتبطة بأعلام الأسرة الصديقية وعلمائها الكبار.
في هذا الإطار، يندرج صدور كتاب “نجم من أعلام علماء السلف في علماء الخلف – في ترجمة محدث المغرب فضيلة الشيخ الحافظ السيد عبد العزيز بن محمد بن الصديق” (1338/1418 –1920/1998)”، سنة 2014، لمؤلف الأستاذ عبد اللطيف بن عبد الغني جسوس، وبتقديم للأستاذ عبد المنعم بن عبد العزيز بن الصديق، وذلك في ما مجموعه 213 من الصفحات ذات الحجم الكبير. والكتاب تجميع دقيق للسيرة الشخصية والعلمية والجهادية للفقيد عبد العزيز بن الصديق، حسب ما استطاع المؤلف تدوينه وضبطه وتصنيفه. وبهذه الصفة، فالعمل يشكل إضافة هامة لرصيد كتب التراجم التي اهتمت بالتنقيب في خبايا التراث الديني والتعبيرات الرمزية المرتبطة به، سواء في مستوياتها الرمزية المجددة المؤثرة في النظم المعيشية للفرد وللجماعة، أم في مستوياتها المرتبطة بضرورات توسيع آفاق الاجتهاد وملمح التصوف وقيم الزهد داخل السلوك الديني المهيمن داخل المجتمع.
وفي هذا الجانب بالذات، يبدو أن البحث التاريخي أضحى أكثر انفتاحا على كتب المناقب والكرامات وطبقات الصوفية ورجال العلم، في علاقة سيرهم بالامتدادات الاجتماعية والثقافية والسياسية المؤطرة لسلوك الدولة من جهة، ثم المجتمع من جهة ثانية. ومعلوم أن أفراد الأسرة الصديقية وعلمائها الأبرار قد ظلوا يضطلعون بدور مركزي في توجيه عمل الجماعة وفي الدعوة الخالصة لله، مسجلين مواقف مشرفة يحفظها لهم التاريخ، عندما اختاروا الانحياز لكلمة الحق مهما كلفهم ذلك من ثمن، مما جعلهم يكتسبون وضعا اعتباريا قلما يمنحه المجتمع لعلمائه الكبار، العاملين الذين لا يخشون في الحق لومة لائم. وسيدي عبد العزيز بن الصديق واحد من هذه الكواكب التي ارتبط اسمها باسم طنجة التاريخ، طنجة العلم والمعرفة، طنجة الوفاء والجهاد. ولنقل إن سيرة هذا العالم الجليل قد تحولت إلى جزء لا يتجزأ من سيرة طنجة العلمية التي صنعها رجال عظام على امتداد التاريخ الطويل للمدينة.
وبخصوص التأليف موضوع هذا التقديم، يقول الأستاذ عبد المنعم بن عبد العزيز بن الصديق في كلمته التقديمية: “هذا الكتاب… والذي ترجم فيه المؤلف لشيخه، استاق جل مواضيعه من ترجمة الوالد لنفسه في “تعريف المؤتسي بأحوال نفسي”، حيث كان مولاي الوالد رحمه الله تعالى يملي منه على المؤلف للإجابة عن أسئلته التي كان يطرحها عليه حين تصنيفه لهذه الترجمة. بالإضافة إلى ما استفاده المؤلف بحكم المخالطة والمصاحبة له رحمه الله في الحضر والسفر. وبما أن أوان الفراغ من هذه الترجمة تلته أمور وأحداث كثيرة عرفتها الأمة الإسلامية كان السيد الوالد رحمه الله تعالى قد قام فيها بإدلاء رأيه وتبيين حكم الشريعة فيها، فقد استدرك المؤلف ذكر أهم الأحداث في ملحق بآخر الكتاب، أرخ فيه لبعض الأحداث ومواقف المترجم منها، كحرب الخليج والفتوى الصادرة من بعض العلماء في السعودية ومصر وغيرهما، والتي تجيز الاستعانة بجيوش الكفار. وتطرق في ملحقه أيضا لبعض مقالاته، وللرد العلمي الشهير الذي أفحم به المترجم له وزير الأوقاف المغربي الدكتور عبد الكبير العلوي في موضوع حديث: “السلطان ظل الله في الأرض”، التي استشهد به الوزير وبنى عليه موضوع درسه الرمضاني…” (ص. 12).
ومع أهمية مجمل جهود التوثيق لمواقف سيدي عبد العزيز بن الصديق في مجال الدعوة، مما كان مصدر إزعاج لقطاعات معروفة سواء داخل أجهزة الدولة أم داخل بعض الهيآت المدنية، فإن الكتاب لم يغط إلا الجزء اليسير من السيرة الذهنية للشخصية المترجم لها. دليل ذلك، أننا لا نجد أي أثر لمجال العطاء السياسي الذي ارتبط باسم عبد العزيز بن الصديق خلال عهد الاستعمار. فالرجل كان وطنيا مخلصا، ومجاهدا صادقا، كانت له صولاته في مجال العمل الوطني التحرري والتأطيري لعقود الاحتلال الاستعماري لبلادنا. وإضافة إلى ذلك، لا نجد في الكتاب أي تفاصيل عن مشاركته في العمل الحزبي بعد الاستقلال وجهوده لخدمة مصالح مدينته وساكنتها بعد فوزه الساحق في الانتخابات البلدية الأولى التي عرفها المغرب. لقد كان سيدي عبد العزيز بن الصديق من الأطر المشرفة على المظاهرات الاحتجاجية التي عرفتها مدينة طنجة خلال عهد الاستعمار، مثلما هو الحال مع المظاهرات التي أعقبت الأحداث الأليمة لمدينة الدار البيضاء سنة 1947، أو مع المظاهرات التي اندلعت عقب نفي السلطان محمد بن يوسف سنة 1953 في الظروف التاريخية المعروفة.
كان هذا العالم يعتبر مقارعة المستعمر جهادا في سبيل الله وعملا واجبا على كل مسلم. لذلك، فقد كان منخرطا بالكامل في هذا المسار الذي لابد أن ينال اهتمام باحثي مغرب اليوم ومؤرخيه، إكراما لذاكرة الرجل ولسجله النضالي الثري والخصب. وبعد الاستقلال، ظل سيدي عبد العزيز بن الصديق يمثل سيف الحق الذي لم يساير المسؤولين في أهوائهم المنحرفة، فكان يرفع صوته عاليا كلما تطلب الأمر ذلك. وقد خلف الكثير من المقالات الإصلاحية الفريدة التي انتقد فيها مسؤولين سياسيين انتقادات شديدة لا يقدمها إلا السياسي الخبير، مما جعلها تلقى رواجا في مختلف الأوساط السياسية والثقافية، وهي المقالات التي شكلت البعض منها مضامين كتاب “الطغيان على العالم الإسلامي”.
وبعد، فهذا غيض من فيض سيرة عالم مشارك، استحق تكريما خاصا من مدينته طنجة التي باذلت عطاءه وجهاده بالحب الكبير وبالامتنان العميق وبالاعتراف الخالص بنبل الرسالة التي حملها، إنسانا ومناضلا وعالما وأديبا.