نحن في عام 1948، أنا القايد حدو بن حمو الكحل، المساعد السابق لوزير خارجية جمهورية الريف، مؤسس وقائد جهاز الاستعلامات، مؤسس القوات الجوية للجمهورية الريفية، اشتغلت ما بين 1921و1926 إلى جانب الأمير عبد الكريم، الرجل الذي فعل كل شيء ليستحق النجاح لكنه في الأخير خضع، كما خضعت دولته الصغيرة التي حررها، ضحية لوضعية لم يكن يتوقعها، الرجل الذي مر كنيزك مشع وأدى دوره التاريخي خلال ستة سنوات فقط والتي كانت كافية لتجعل منه أحد أهم الشخصيات في كل الأزمنة.
تم اعتقالي من طرف القوات الفرنسية يوم 27 ماي 1926 بتارجيست في نفس اليوم الذي استسلم فيه الأمير، ومباشرة بعد ذلك قامت سلطات الحماية والمخزن بمصادرة كل ممتلكاتي. قبل إرسالي إلى مخيم لسجني مع العشرات من الأسرى الريفيين، تم تقديمي أمام محكمة حربية، وبعد أن قرأ صك الاتهام لم أحاول الدفاع عن نفسي أو نفي الاتهامات، وهل ينفع ذلك؟ فقد حدد مصيري وانكسر حلمي إلى الأبد. حزن لا حدود له، عزلة وإحباط لا نهاية لهما، هكذا كان مآلي إلى آخر يوم في عمري.
في البداية ظللت سجينا ولعدة أشهر في تكنة عسكرية بأزمور، منذ أيامي الأولى كنت أعيش مهانا في عزلة وقلق، في خوف وشك. إبعادي إلى هذا الجحر لن يكون إلا مؤقتا، هذا ما كان يردده لي على الأقل حراسي في السجن.
كم من الوقت قضيت في هذه الثكنة؟ لا أتذكر، من المؤكد أنها شهور كثيرة. بعد عدة أسابيع فقدت الاحساس بالزمن، لم يتوقفوا عن خداعي بأمل، مؤكدين أني سأكون من أول المحررين، كنت كل يوم وبمرارة أرى معتقلين لم يكن لهم أمل في ذلك يغادرون هذا السجن، لكن ما كان يحز في نفسي هو أني لا أعرف إن كان لي أمل أو سيكون لي في الحصول على هذه النعمة يوما ما.
بعد ذلك فرضت علي الإقامة الإجبارية في موغادور مع منعي من مغادرتها إلى اليوم. في أحد أيام خريف 1926 ومحروسا من طرف عدد من رجال البوليس الفرنسي، حطت بي اقدامي في هذه المدينة الصغيرة بجنوب المغرب، حذرني عميد الشرطة أن هؤلاء سيقومون بمراقبتي ليلا ونهارا، وأن أي محاولة للهروب لسبب أو آخر سأقضي ما تبقى من حياتي في سجن الجزيرة وسط المحيط غير بعيد عن الخليج. جلبابي القصير من الصوف الأسود أثار حيرة الناس وهم يرون وصول غريب ليس كالآخرين، الرسالة التي تحاول الحماية بعثها وبشكل واضح: المقاومة في الريف انهزمت على يد فرنسا، حلم جمهورية الريف أجهض بالنار والدم، وأحد قادتها الكبار المهزومين سيعيش بينكم في إقامة إجبارية، عليكم الابتعاد عنه، وعليكم خاصة الحذر منه.
حين وضعت قدمي هنا، كنت أشبه مسافرا تعاقبت عليه المحن وواجه في طريقه الموت عدة مرات، تعلوني الأوساخ وبملابس رثة وبلا أمتعة تقريبا.
عندما وصلت إلى موغادور اجتاحني شعور غريب وانا أبدأ حياة جديدة في مدينة بعيدة، محاطا بأناس لا أعرفهم، معدوما لا أملك شيئا. في الأربعين سنة من عمري، في سن يصعب فيها التكيف مع هذا المكان الذي أجهل عنه كل شيء. من قبل كان لي وطنان: الريف والجزائر. وكنت أفكر وأقول دائما إذا كان علي مغادرة أحدهما فذلك للذهاب للآخر. منذ طفولتي اعتدت على العيش قريبا من البحر الأبيض المتوسط لأسبح في نوره وتأمل روعته وجماله، وأعرف أني سأشتاق إليه حين أجد نفسي بعيدا دون شمسه ورائحته القوية، أحتاج أن يتيه بصري في أفقه الصافي.
بدأت حياتي هنا وحيدا، كمتسكع، كمطرود محكوم بعدم العودة أبدا. رجل فقد كل اعتبار. أبدو فقيرا ومتقدما في السن، لا شيء يميزني عن هؤلاء الوافدين الجدد الذي فروا من الجفاف، الكوارث والأوبئة. احتفظت لنفسي بما أفكر فيه والماضي الذي تركت. قلة من الناس تعرف حقيقة من أكون، ومن أين أتيت ومن ماذا جئت فارا؟ من الديون؟ اضطهاد؟ ثأر عائلي؟
حين أخرج لأتيه في أزقة المدينة أفعل ذلك في السر، وحيدا وكأني شخص لا تدركه العيون. السكان أمروا بعدم الاختلاط بي كما لو أني مصاب بالطاعون. حين يوجه لي جار من جيراني الكلام يكون ذلك بهمس وهو يتفقد إن كان يراقبه أحد.
في بداية استقراري في هذه المدينة الصغيرة والغامضة والتي أسست وعمرت بأناس لا يملكون شيئا، جاؤوا من كل الآفاق ومن ديانات مختلفة، سكنت في غرفة معتمة بالطابق الأول من بيت لا يبعد كثيرا عن الميناء، في حي يعج بسكان معدومين. كانت أيام قليلة كافية لأرى المدينة على حقيقتها: مدينة الفقر واليأس، مدينة مجروحة ومن خراب. أسوارها في مرحلة متقدمة من التآكل، بيوتها القديمة حيث الجرذان والصراصير أكثر من البشر، الشوارع عفنة حيث تنتشر غالبا نفايات لا يتم جمعها، نصف من يجوبون الأزقة مجانين أو على وشك الإصابة بالجنون أو الدخول في نوبة منه. باب السبع هو نقطة الصفر للأرواح التائهة في موغادور، كلما مررت من هناك أصادف عشرات الرجال والنساء وهم يحاورون بشغف وبكلام غير مفهوم كائنات غريبة لا وجود لها، في كل الأحوال أنا لم أكن أراها. طبعا لم يكن كل شيء هنا في موغادور سوى خرابا، شاطئها الممتد برماله الناعمة ينفتح في مشهد رائع على الخليج، ميناء الصيد الصغير الغني بوفرة الاسماك المتنوعة. كانت هناك كذلك مكتبة وبعض باعة الكتب حيث كنت أتردد عليهم من حين لآخر لأتصفح بعضها.
في أحد أيام نهاية سنة 1927، كان قد مرت على وصولي إلى موغادور اثنا عشر شهرا، قضيت السنة الأكثر عزلة ويأسا في حياتي. سنة قاسية إلى درجة اعتقدت في البداية إني غير قادر على تحملها، سنة كاملة في المنفى للقضاء علي، وإذا بي أفاجأ أن الخناق بدأ يضيق على مسكني من طرف سلطات الحماية، وأتسأل أي شيء خطير قد حصل. فقد طلب مني عدم مغادرة منزلي أو استقبال أصدقاء لمدة أسبوع، بعد ذلك علمت أن السلطان محمد بن يوسف جاء في زيارة لموغادور. تساءلت إن كان هذا الرجل البسيط الذي أصبحته لازال يشكل خطرا حقيقيا. هذا الجحود في المعاملة التي عانيته خلال أيام أثار فضولا، كما أثار تعاطفا من طرف جيراني وبعض من أصدقائي البعيدين. بفضل وجودهم ودعمهم لم يكن ينقصني شيء. مباشرة بعد هذا الحادث قررت الخروج من العزلة التي فرضتها علي الشرطة وما عاقبت به نفسي برفضي الانفتاح على الآخرين.
تمكنت من النجاة والتغلب على الصعوبات وعدم الخضوع لأني كنت مقتنعا أن هذا النفي الذي حوكمت به لن يكون دائما، ولم يكن لدي أدنى شك أن وجودي هنا ليس سوى مرحلة طويلة ومعقدة من حياتي يجب الاستعداد لها، وأنه عاجلا أو آجلا سأجد طريقي وأتابع رحلتي. هيأت نفسي لتحمل الضربات وحتى لا أجعل عنفهم يحطمني، الصمود عوض الفرار، اعتبرت وضعي في هذه اللحظة كحصار طويل في حرب الخنادق. قوة هذه القناعة جعلتني أقضي ثلاث سنوات من الفراغ والعزلة، رافضا الاستسلام لنداء الرأفة بمصيري كما كنت أفعل دائما منذ البداية، رغم ندمي على أيام من حياتي القديمة في بور-ساي كان لي انطباع هنا أن الناس لا يفهمون وضعي ولا أفهم وضعيتهم، يشعرون أنهم ليسوا بمسؤولين، ولا بمتهمين، ولا بمقتنعين، كانوا يعيشون خارج الزمن، خارج الحدث، ولم تكن مسألة مناقشة هذه المواضيع مع أحدهم مطروحة لدي. الاحتلال الاستعماري، يتحملونه ويعانون من ثقله، فظاعته هنا أكبر من المدن الكبرى، وقد انتهوا إلى الاعتياد عليه. لقد فقدوا بكل تأكيد كل ما يذكرهم بالحرية إلى أن أدركوا اني بدوري حرمت منها وكان ذلك هو الثمن الذي دفعته مقابل مقاومتي في الريف للجيوش الاستعمارية. هذا الحرمان من الحرية دفعهم إلى اللجوء إلى الصوفية، الشعوذة والدين. حرموا من التخطيط وبناء المستقبل، يعيشون على الكفاف حاضرا مشوها غيبيا، محافظين طبعا على زواياهم، مساجدهم وأعيادهم الدينية كما كانت منذ قرون. شعرت أنه منذ أن أوجدوا هذه الأشياء لم تتغير حياة هؤلاء الناس، لم يحدث شيء متميز يستحق الاهتمام وأن أرويه هنا. بعد ذلك لم يتطلب مني الأمر وقتا طويلا للتآلف مع الأشخاص والأمكنة في مدينة الرياح، مالك الغرفة، شيخ أمازيغي كان يأتي باستمرار للاطمئنان علي، وليرى إن كنت في حاجة إلى شيء ما، كان رجلا لطيفا، كريما وصاحب نكتة، رغم أن حواري معه كان مقتضبا ولا يتعدى كلمات قليلة.
في الزقاق بدأت أشعر أني لم أعد منبوذا، أحظى بحب واحترام قلة من الناس يحاولون تحطيم الحاجز الذي وضعه امامهم من يراقبونني، يقومون بالخطوة الأولى في اتجاهي للتعرف علي أكثر. رغم هذه التطورات لم يكن في نيتي المكوث إلى الأبد هنا بين الجدران الأربعة لهذه القلعة الكبيرة.
جاء يوم 20 غشت سنة 1930، وصل عندي في موغادور الكاتب الفرنسي الشاب ميشيل فيوشانج ليغير مجرى حياتي على الأقل لمدة، جاء لرؤيتي في منزلي الجديد حيث أقمت قريبا من باب الجهاد بالقصبة، يحمل رسالة في يده. كانت مفاجأة كبيرة، باعث الرسالة كان صديقي العزيز بوجدة الدكتور ماريون جالوا، يطلب مني مساعدة حامل الرسالة على تنظيم رحلته عبر الصحراء حتى السمارة، المدينة العجيبة التي أنشئت عام 1898 من طرف الشيخ ماء العينين. طيلة يوم كامل قام ميشيل بعرض تفاصيل مشروعه، استمعت إليه بإعجاب يشوبه القلق، خائفا من الأخطار التي يمكن أن يتعرض لها، وحاولت بكلمات قليلة أن أصرف نظره عن المشروع لكنه لم يكن يرغب في الاستماع إلي، مستعدا للتضحية بحياته من أجل تحقيق حلمه. الحماس الذي أبداه ميشيل وهو يعرض مشروعه، وقبوله نزع التاج الذي يحمي أحد أسنانه بسهولة، بل حتى استعداده لختان نفسه، وتحديه لمتاعب السفر وإمكانية الوقوع في الأسر، التعرض للجروح أو الموت، دفعني إلى مساعدته. أعجبت بشجاعة وعزيمة هذا الشاب المنتمي لعائلة عريقة، والموعود بمستقبل زاهر، والذي اختار أن يضع نفسه طواعية أمام محك صعب. أخبرته أن ثلاث طائرات فرنسية وإسبانية حلقت مؤخرا فوق السمارة وأنه لم يسبق لأي أوروبي أن دخلها. هذه المعلومات جعلته متعجلا. بفضل بعض اصدقائي الذين يعرفون جيدا الجنوب المغربي أطلعته بشكل دقيق على الحالة الأمنية الهشة في المنطقة بسبب حالة التمرد التي تعيش فيه جل القبائل هناك، كما وضحت له أنه ليس من مصلحته السفر وحيدا أو في قافلة كبيرة، ووجدت له الرجل الذي سيرافقه في رحلته، التاجر احمد المهبول، رجل ذكي وموهوب من نواحي تمنار.
يوم 8 شتنبر (1930) اجتمع في بيتي ميشيل فيوشانج وأخوه الدكتور جان والمهبول بهدف وضع اللمسات الأخيرة على تنظيم وخريطة رحلتهم. نصحته بالانطلاق في أسرع وقت ممكن، فاجتماعاتهم المتكررة معي هنا في موغادور قد تثير انتباه سلطات الحماية.
وصل ميشيل الى السمارة في اليوم الأول من شهر شتنبر منهوك القوة ومتألما جسديا، لم يمكث سوى ثلاث ساعات. عاد مريضا محتضرا الى تزنيت حيث كانت تنتظره طائرة نقل سريعة والتي أقلته الى أكدير، وتحت عناية أخيه أسلم الروح. وقبل ان يصدر الدكتور جان كتاب سفر أخيه “السمارة” بعثه لي عبر البريد لتصحيح وضبط كتابة الأسماء العربية للأمكنة المشار إليها على خريطة كبيرة أو المخطوطة في الكتاب، صدر الكتاب في فرنسا سنة 1933.
بعد وفاة ميشيل فيوشانج تغير كل شيء حولي، بدا لي ان التغلب عن الصعوبات التي كانت تقف امامي ممكن. لم أعد أشعر بالحزن كما كان الحال في البداية. جيراني بدأوا يبادلونني الحديث، وهي إشارة إلى أنه أصبح بإمكانهم مخالطتي. كان بمقدوري الامتناع ورفض اليد الممدودة إلي، تاركا الدم الريفي العنيد يتكلم، لكن لم أفعل، فالتخفيف الجزئي والمؤقت للعزل المفروض علي أراحني. وضعي كمنفي ريفي لم يكن سرا خافيا على أحد، وأصبحت قريبا من الناس كما لم أكن من قبل منذ وصولي إلى هنا. بدأوا ينظرون إلي بود بل حتى بنوع من التقدير. من جهتي توقفت عن النظر إليهم بارتياب، وبذلت ما في جهدي لأبدي تسامحي واحترامي لهم. هذا التحول أنقذني الى درجة أني قررت الزواج وبداية حياتي من جديد في هذه المدينة.
في سنة 1943 وأنا اعيش حياتي بسلام رغم كوني تحت إقامة مراقبة، جاءت سلطات الحماية لاعتقالي بدون سبب ونقلي من جديد الى مركز الاعتقال الرهيب في أزمور. ظللت مسجونا هناك لعدة أشهر، ولم اعرف أسباب هذا الاعتقال إلا بعد أن تم إطلاق سراحي. فحسب حكومة فيشي كنت أشكل خطرا على فرنسا وهي تحت سيطرة النازية، ورغم سني كانت تخشى انخراطي في المقاومة الى جانب الجنرال ديغول، وتحريض الوطنيين المغاربة على استعمال السلاح للمطالبة باستقلال بلدهم.
منذ عودتي الى موغادور بدا خناق سلطات الحماية يضيق علي من جديد، وتعرضت لعدة اعتداءات جسدية، وتم اقتحام بيتي باستمرار. وتساءلت لماذا كل هذا العنف من طرف السلطات الفرنسية والتي تهدد حياتي بهذا الشكل. لماذا ترغمني على العيش في عزلة؟ احتجاجي المستمر لم يؤد لنتيجة، وللتخفيف من توتري ومعاناتي سقطت دون أن أنتبه لذلك في فخ الكحول. هذه السنوات كانت بالنسبة لي الأكثر شقاء، بدأت أرى حياتي رتيبة، حزينة وغريبة بلا أفق. وعلي أن أعترف انه بمرور الشهور والسنوات تركت نفسي تسير نحو الفشل وتنزلق ببطء الى الشك واليأس. وجدتني أرتمي شيئا فشيئا في حياة اخرى، نحو موت بطيء لكنه محتمل. لم أكن أرغب في شيء سوى أن يتوقف الزمن وأختفي. وأدركت أنه حتى لو تمكنت من الخروج سالما من هذه الهاوية فلا شيء سيكون كما كان من قبل. في بعض الاوقات تبدو لي الحياة دون قيمة، ونادرا ما تكون لي رغبة في ان تستمر الحياة وتتسارع قليلا لأجد إيقاعي المعتاد، وأتخلص من قلقي وعزلتي. عبر هذه السنوات الطويلة كان الكحول طوق نجاتي والكتب رفقائي.
1947 جاء اليوم الذي التقيت فيه صدفة في أحد أزقة المدينة صديقا قديما من فترة حرب الريف، المراقب المدني السابق لتاوريرت، ليون جابريالي، الضابط الفرنسي الوحيد الذي كان قد استطاع الوصول الى قلب الريف ذات يوم أحد 28 يونيو 1925 بهدف ملاقاة الأمير في أوج الحرب. لم أره منذ عشرين سنة، بالتأكيد تقدم به العمر لكنه لم يتغير كثيرا. حافظ على ملامح وجهه: المكر والانشراح الكبير، وعلى هيئة الرجل الفجور الذي يسير واثقا من نفسه. لم يفقد شيئا من حركته، ولا جاذبيته وبالأخص من أناقته. كنت اسير منهكا وعلى غير هدى، وبمجرد ما لمحته توجهت نحوه دون تردد، حييته باحترام وقد عرفني بسرعة، تساءلت كيف تمكن من ذلك وأنا على هذه الحالة. فتحنا ذراعينا وتعانقنا، سألني وهو ينظر إلي بقلق:
-من اين أتيت وأنت على هذه الحالة ؟
– أسكن هنا وممنوع من التنقل منذ عشرين سنة, أأنت تجهل ذلك ؟
لم يرد، لاحظت أن عينيه اغرورقتا بالدمع ثم دعاني إلى مرافقته لتناول الغداء في مطعم للسمك. تحدثنا عن الماضي والذي اشتغلنا فيه سوية من أجل اتفاق سلمي بين دولتينا والذي كان دون نتيجة. حين سألني عن ماذا فعلت منذ افتراقنا أجبته أن حياتي توقفت في اليوم الذي خانني فيه أصدقائي الفرنسيون، اليوم الذي سلمتهم فيه أسراهم الذين كانوا في عهدتي، وعوض أن يكافئونني على الخدمات التي قدمت لفرنسا قاموا بمصادرة حريتي وممتلكاتي، أبعدوني عن عائلتي وعن موطني إلى الأبد.
تأسف لما حدث لي دون أن يعطيني مبررا. كيف لهذا الرجل أن يفهم ما آلت إليه حالي ويشعر بما أعانيه ؟ لقد أظهر تعاطفا كبيرا بدا لي أكثر مما أستحق: تلك النظرة الأبوية العطوفة التي ظل ينظر الي بها مدة طويلة توحي لي إلى أي درجة كان يشعر بما اكابده، كنت واعيا اني اقدم له مشهدا يستحق الرثاء. كان صعبا عليه أن يرى ما أصبحت عليه. قبل هذا اللقاء اعتقدت أن الماضي اختفى، لكن في لحظة أدركت أنه لم يختف حقيقة. صدفة، لقاء، وها هو يعود مسرعا ليشدني وليوقظني.
حين عاتبته لماذا لم يرد على الرسائل التي بعثتها له انقبضت ملامحه فترة ثم رد:
– أرجوك حدو، أتركني أبرهن لك أني لم أعد كما تعتقد، أرجوك، لنعد اصدقاء من جديد، سامحني، كنا في حالة حرب، ولم تكن في يدي اية سلطة لتغيير الأشياء.
– لكن انا أعيش دائما في الماضي ولم أتمكن من مغادرته، أشعر كما لو أني لازلت في حالة حرب، فأنا تحت إقامة مراقبة ولا أستطيع مغادرة موغادور، والآن عليك انت أن تحكي لي كيف حطت بك الرحال في هذه المدينة.
شرع يحكي لي عن نفسه. بعد مغادرته لتاوريرت سنة 1926 وحصوله على وسام جوقة الشرف مقابل الخدمات التي قدمها في الريف، عين رئيسا لمركز في وجدة، ثم الانتقال إلى سلا والحصول على تقاعده بالرباط سنة 1935. اثنا عشر سنة بعد ذلك تمت المناداة عليه من طرف المقيم العام الجديد بالمغرب، نظرا لعلاقاته القديمة مع الأمير، بهدف تنظيم عملية استقرار هذا الاخير بالجنوب الفرنسي. كانت فكرة الحكومة الفرنسية هي جعل منفي لاريونيون ورقة ضغط سياسية مربحة ضد السلطان محمد الخامس الذي أصبح مزعجا للحماية لما يبديه من عطف اتجاه الوطنيين المغاربة.
بعد ذلك، علم جابريالي بأن السفينة التي تقل الأمير وعائلته نحو مارسيليا وصلت إلى ميناء بورسعيد في مصر، وقد استغل الأمير القيام بجولة صغيرة ولم يعد للسفينة، وأنه استقبل من طرف محافظ المنطقة قبل التوجه إلى القاهرة، ويستقبله ملك مصر بمجرد وصوله الى القاهرة بكامل الحفاوة.
أنهى جابريالي حكاية هذه العودة التي لم تتم متسائلا لماذا فضل الأمير البقاء في مصر عوض الرجوع إلى فرنسا حيث كانت تنتظره مهمة سامية في بلده المغرب. حين لم أرد عليه أخرج ورقة صغيرة ومدها إلي لأقرأها:
كانت فقرة من رسالة طويلة بعثها الأمير سنة 1932 وهو في منفاه بلاريونيون لرئيس البرلمان الفرنسي. ترددت في قراءتها، ثم أخذت الورقة وشرعت في قراءة الأسطر التي وضع تحتها خط أحمر : ” سأكون ممتنا كثيرا لسيادتكم ولفرنسا لو قمتم بمراجعة وضعي بعطف وعدالة، أرغب في العودة إلى المغرب الخاضع لفرنسا، وإذا لم يكن ذلك ممكنا فإلى الجزائر أو تونس، وبإمكانكم اختباري، وفائي وامتناني لفرنسا العظيمة لا يتزعزعان، مشاعر إخلاصي الجاد لم تتغير منذ استسلامي” .
وانا أقرأ هذه الأسطر المليئة بالتواضع وحسن النية عادت بي ذاكرتي عشرين عاما إلى الوراء، وأنا أرى صورة الأمير الحزينة وهو يستسلم للجنود الفرنسيين الذين ينتظرونه في تارجيست. كنت أريد أن أصرخ من الغضب والإهانة لكن تمالكت نفسي وسألت صديقي:
– ولماذا لم ترد فرنسا على هذا الطلب المفعم بعزة النفس والاعتدال؟ ولم تريد بهذه السرعة نقله الآن إلى فرنسا؟
جابريالي الذي تأثر بما قلته له قرر الانصراف، تركني مع فكرة أننا سنلتقي قريبا، وقبل المغادرة أسر لي:
– في المرة القادمة لك عندي مفاجأة، سأعود ومعي نسخة من تدويناتي ومذكراتي حول حرب الريف خلال الفترة التي اشتغلت فيها كمراقب مدني في تاوريرت وحيث كنت أنت شاهدا على ذلك.
– أعرف ذلك، التاريخ يرويه المنتصرون، كما يقولون.
– يا لها من جملة غريبة، ربما الجملة الأكثر غرابة التي سمعت.
نظر أحدنا للآخر وبدأنا نضحك.
– كما ترى، حدو، منذ لقائنا الأول في تاوريرت عند بداية 1924 استخلصت أنك شخص متميز ومتفرد، وقد حافظت على طبيعتك كما أنت، والرجل الذي يظل وفيا لنفسه هو أفضل من أغلب الناس الآخرين. رغم أكثر من عشرين سنة من المنفى والحرمان لم تتغير، عرفت كيف تصون كرامتك، فخورا بنفسك، فخورا بكونك ريفيا.
أجبت مبتسما:
– بالطبع، كان ذلك دائما قاسيا علي منذ طفولتي، هكذا كنت باستمرار أمام مفاجآت الحياة، لكن خيانة أصدقائي الفرنسيين كانت ضربة قاضية، سلمتهم نفسي، لن أنسى ذلك قط ولن أسامحهم إلى أبدا.
افترقنا بنية أننا لن نلتقي مرة أخرى، علمت بعد ذلك أنه سقط مريضا وتم نقله إلى الرباط ليقضي أيامه الأخيرة. ونحن نفترق كنت ممتنا له، فلم يحاول أن ينكأ جراحي أو يجرؤ على تقديم نصيحة لي، أو يحثني على تجميع شجاعتي، أو نذرف الدمع معا.
عند مجيء الليل، أطفأت نور المصباح، وبمجرد ما وضعت رأسي على الوسادة لأنام وحدي في الظلام حتى غرقت في أحداث اليوم المنصرم الذي قضيته مع جابريالي. تذكرت كيف أثار وبنوع من الكبرياء دوره الاستعماري. من أين استمد كل تلك الشجاعة ليدعي ويدافع عن مكانته في هذه الآلة العسكرية الجهنمية التي جاءت ضد رغبتنا لتعيش على أرضنا كرجال أحرار وبسلام؟ دافع عن الاستعمار في المغرب بصرامة كبيرة حتى المارشال ليوطي لن يفعلها. لم ينس أن يدافع وبعناد عن مزاياه ويذكرني بمحاسنه أمام الفوضى والهمجية التي تعيش فيها قبائلنا حسب رأيه.
كيف لم يشعر بالعار ويعترف بمسؤوليته عن المصير الذي انتهيت اليه أو على الأقل يعتذر ويتأسف؟ لكن ما حز في نفسي أكثر هو أنه لم يكن فقط فخورا بالنصر الذي حققته قوات بلده بل إن هذا النصر لم يوف حقه في كتابات ومذكرات من كانوا وراءه والفاعلين فيه. كنت مقتنعا أن هؤلاء الجنود الذين انتصروا على جيشنا الأسطوري الصغير وهم يحكون عن تقهقرنا، لم يكونوا يريدون إقناع الآخرين فقط بل حتى إقناع أنفسهم. تعطشهم لتبرير جرائمهم وتنظيف أيديهم منها يرغمهم على تزوير التاريخ. هدفهم هو تحويل عدوانهم وغصبهم إلى شرعية، إلى مجد.
تساءلت كثيرا بعد ذلك إن كانت هذه اللحظات التي قضيتها معه قد شحذت ميولاتي لأفقد روحي وأنهي حياتي في المنفى وأمسح من ذاكرتي انتمائي وجذوري، أو على العكس أيقظت داخلي ألم الحنين إلى زمن ماض لم أتمكن من الحزن عليه حتى اليوم. كنت على وعي أن النسيان نعمة لم أحصل عليها، ولم أسعى في طلبها، أنشد المصالحة. أحلم دون توقف بالثأر الذي سآخذه يوما. أفكر وأعيد التفكير في اليوم الذي ارتكبت فيه الخطأ القاتل في حياتي، اليوم الذي جعل فيه الفرنسيون مني أسيرا في تارجيست، انا الذي جئت إليهم بأسراهم الذين قمت بكل ما في وسعي لحمايتهم والمحافظة على حياتهم. منذ ذلك الأربعاء 26 ماي 1926 لم أتوقف عن تخيل ماذا كان علي أن أفعل في ذلك اليوم، لم أستمع لنصيحة عمي علوش الذي دعاني للفرار معه ؟ هل كنت ساذجا إلى ذلك الحد حتى أصدق أقوال الكابتن شميدت الذي وعد بضمان حياتي لو سلمته الأسرى؟ كل هذه الاسئلة وأخرى ظلت حاضرة مع كل نفس أتنفسه لأعيش.
الحل الذي كنت أبحث عنه للخروج من التيه الذي أعيشه تجلت للحظة في ذهني: الكتابة لأحكي وأشاركم حكايتي، حكايتنا. منذ هذا اللقاء مع جابريالي، أصبحت الرغبة في الكتابة تخالجني كل يوم، وكنت على وعي أن الكتابة هي أفضل وسيلة لكسر عزلتي، التخلص من وحدتي وكذلك لأخذ ثأري.
في الصباح استيقظت باكرا، شعرت برغبة في الكتابة، تسجيل وبلمسات سريعة كل ما شاهدته أو عشته وأثر في نفسي، فاجأني أو صدمني. أخيرا تناولت دفترا وبدأت في تسويد صفحته الأولى. لم أكن متأكدا إن كانت لي القوة والوقت للذهاب حتى نهاية أملي، لكن انا متأكد انني سأفعل كل ما في وسعي.
اليوم سأبدأ في تنفيذ هذا الامتحان العسير، وأعدكم أن أدون في دفتري كل ما لازالت ذاكرة هذا الرجل العجوز تتذكره من وقائع حياة مضطربة، رغباتي وهواجسي، انطباعاتي حول الأشخاص الذين التقيت بهم طيلة ستين سنة من التنقل والمخاطرة. حياة تميزت بستة سنوات لا تنسى قضيتها إلى جانب رجل خارق للعادة السي محند، ومن أجل قضية مقدسة: أمل شعبي في العيش بسلام وحرية. عدد كبير من الأجانب، خاصة من العسكريين والصحفيين وغيرهم كثير، كتبوا عن هذه الملحمة. لماذا يحتكرون الكتابة عن هذه الحرب التي هي حربنا من البداية، حرب فرضت علينا؟ أعترف أني لا أملك براعتهم وتجربتهم وأن صفحاتي ليست في قيمة كتاباتهم ومذكراتهم، لكن وجدت من واجبي وبكل وفاء أن أقدم تقريرا لتجربتي الشخصية. كثير من هذه الكتب، الشهادات والمذكرات تحدثت عني بشكل أو بآخر بطريقتها ومن زاوية نظرها وحسب ما تفتضيه مصلحتها. بكل تواضع أتساءل معكم لماذا كثير منهم تجاهلني، أحجموا عن ذكر اسمي، مكانتي ودوري؟ عن كل ما كتب عن شخصي في كتب التاريخ، في دفاتر حرب العسكريين وشهاداتهم وتقارير الصحفيين في تلك الفترة، هناك جوانب ظلت مظلمة ولم يزدها الزمن إلا غموضا. سأعمل بكل ما في وسعي وبكل موضوعية لأسلط عليها الضوء لإبراز الحقيقة.
حقائق كثيرة، أو أجزاء منها وربما حقائق مضادة تتلاطم في عقلي. بعيدا عن الأسطورة حاولت البحث عن الحقيقية، وحين اعتقدت أني وصلت إلى قلبها لم يكن هذا القلب مصنوعا إلا منها، ولا أخشى أن تعمل حكايتي على استمرار هذه الأسطورة، أسطورتي، وإلى الذين يحرصون ولا يريدون سوى معرفة الأحداث التي تم التأكد من صحتها اقول لهم أن الحياة والتاريخ علماني أن: ” الأحداث تتغير مع الزمن وأن الأسطورة تبقى كما هي، كالروح حين يفنى الجسد، كعطر امرأة جميلة تتركه وراءها بعد مرورها امامك بسرعة”.
وأنا أتقدم شيئا فشيئا في مشروعي انتبهت لنفسي، وجدت شبابي، عافيتي وحب الحياة. حاولت جهد الإمكان تجاهل متاعبي اليومية. امتحان الكتابة سمح لي أن أتعلم من جديد الانتظار، الصبر والتشبث بالأمل، وإعادة تفعيل معنى الزمن، أيامي أصبحت أقل وطأة وتنساب بسرعة كبيرة. ساعدتني الكتابة ليس فقط على استرداد حيوية الروح لكن كذلك على الخروج من عزلتي والانفتاح على الاخرين، وتوطيد علاقتي معهم، شعرت أني إنسان ذو قيمة.
خلال هذه الحرب، الدور الذي لعبته والمناصب التي شغلتها مكنتني من التواجد في واجهة المشهد، في قلب الاحداث وفي اتصال مباشر مع الفاعلين الرئيسيين فيها. اكتب إذا انطلاقا مما عشته فعلا ومن تجربتي الشخصية مما سمح لي بالغوص عميقا في الماضي، ماضينا المشترك، من أجل مراجعته وبالتالي الحديث عنه بأكثر ما يمكن من النزاهة والحياد.
الكتابة مكنتني كذلك من التصالح مع عائلتي في الريف التي عاودت الاتصال بها. اكتشفت ان عمي علوش الذي اعتقدت أنه قتل في المعارك ضد اسبانيا لازال حيا. وحين علم بمكان وجودي لم يتردد في الاتصال بي وإرغام ابنه حدو على تحمل عبء السفر الطويل من إزمورن حتى الصويرة في شاحنته المرسيدس، للاطلاع على حالي.
وأنا أروي حكايتي لا أريد سوى شيئا واحدا، ان اتغلب على النسيان، أن يتم الاستماع إلي، وأن يتم فهم قصدي قدر الإمكان ومسامحتي. وإذ أتعهد بمجرد أحداث حياتي فهدفي هو محاولة فهم نفسي أولا، وأعيد ترتيب أحاسيسي وأفكاري، مع الأخذ بعين الاعتبار أن تكون الأحداث منسجمة إلى أقصى حد ممكن. وعلي الاعتراف أن هذا العمل الشاق مكنني من تشخيص مكانتي ومسؤوليتي في حرب الريف الأسطورية هاته، وذلك من أجلي ومن أجل كل الآخرين.
د. أمحمد لشقر