هدفت هذه الدراسة إلى رصد التناص الديني والأدبي في شعر أبي القاسم السهيلي ت 581 ها واظهار القيم الجمالية والفنية التي برزت في تجربته الشعرية ،وفق منهج استقرائي تحليلي في نماذج مختارة ،تكشف عن اللغة الشعرية الانتاجية التي عبر بها عن العديد من جوانب الحياة المختلفة ،اعتمادا على توظيف المرجعية القرآنية والحديث النبوي الشريف والشعر والنتر ،كما تهدف الدراسة الى الكشف عن آليات استدعاء النصوص واكتشاف درجة التضمين والاقتباس ومدى امتصاصه للنصوص الدينية والأدبية .
تقديم :
ان صلتي بالأدب الأندلسي عامة ،وبالإمام ابي القاسم السهيلي خاصة أتاحت لي أن أتأمل شعره مرات ومرات ، وفي كل مرة أجدني أدهش لتراكيب عباراته الشعرية ،وبنائه المتين ، ومضامينه الخلاقة في أغراضه كلها ،وأدركت بعد طول مراجعة لهذا الشعر أن ثقافة الإمام السهيلي ومرجعيته الدينية والفكرية ،تقف وراء هذا التهذيب ،فقد كان على حد تعبير ابن الخطيب (…أديبا كاتبا ،بليغا ،شاعرا مجيدا ،نحويا ،عارفا ،بارعا ،يقظا ،يغلب عليه علم العربية والأدب …ويقول صاحب أعلام مالقة في شاعرية السهيلي (هضبة علوم سنية ،وكان في الشعر واضحة جلية ،من رجل تلقت القريض يمينه ، وانتظم له جوهره ثمينه ،عفا عن ابن الديمنة في التشبيب ،واستوى في أغراض مدحه جميع ما ابتدع فيه حبيب )
فالقارئ لشعر الإمام السهيلي يتلمس غزارة الثرات الديني والأدبي وكثافة معالم التناص ،بحيث تتعالق تلك المعالم مع رؤاه ومواقفه ،وتحمل ثراء دلاليا ،ونفسيا يستحق الدراسة ،فقد استطاع الامام السهيلي أن يصهر في أتون تجربته الشعرية ثقافات عديدة ومختلفة ، ومن هنا تنبع أهمية الدراسة من كونها تعالج ظاهرة فنية في شعر الإمام السهيلي ، لم يتم تحليلها ودراستها ،لأن الشخصية الأدبية وخاصة الشعرية لم تكن محور اهتمام بين الباحثين على الأغلب ،فقد عرف بين العلماء على أنه عالم سيرة وتفسير ونحو ولغة ، من هنا كانت الدراسة تدور حول فلك حلقة الوصل بين شخصية الإمام السهيلي العلمية والأدبية وبالتحديد فإن هذه الدراسة تحاول أن تجيب عن الأسئلة الآتية :
_ما مظاهر التناص الأدبي والديني في شعر الإمام السهيلي
_وما القيمة الفنية والجمالية للتناص في شعر الإمام السهيلي
1_مفهوم التناص :
التناص لغة :إذا ما تتبعنا كلمة النص ،فسنجدها عند ابن منظور،النص رفعك الشئ ،نص الحديث ينصه نصا رفعه وكل ما أظهر فقد نص ووضح على المنصة ،أي على غاية الفضيحة والشهرة والظهور .
ويورد المعجم الوسيط بعض الدلالات المولدة للنص ،فالنص هو صيغة الكلام الأصلية ،التي وردت من المؤلف وما لا يحتمل إلا معنى واحدا ولا يحتمل التأويل والنص من الشئ منتهاه ومبلغ أقصاه ويقال بلغ الشئ نصه وبلغنا من الأمر نصه شدته .. وعلى هذا فإن النص يرجع إلى التناص بهذا المفهوم .
التناص اصطلاحا : التناص مصطلح نقدي أطلق حديثا وأريد به تداخل وتقاطع النصوص في أشكالها ومضامينها ،والمقصود بالتداخل النصي هنا :الوجود اللغوي ،سواء كانت أوضح صور التداخل ، الاستشهاد بالنص الآخر في النص الحاضر .
يقول بارت أن (كل نص هو تناص والنصوص الأخرى تتراءى فيه بمستويات متفاوتة وبأشكال ليست عصية على الفهم بطريقة أو بأخرى ..)
ومفهوم التناص لم يكن خافيا على النقاد العرب القدامى فهم أول من أدركه وأوضحه في انتقاداتهم لشعر الشعراء إلا أنه لم يعرف بهذا المسمى (التناص)، وإنما أطلق عليه (السرقات ،الأخذ أو الاغارة أو التأثر والتأثير ).
فالنقاد القدامى أمثال أبي هلال العسكري وابن رشيق القيرواني وابن طباطبا توصلوا إلى حقيقة هذا المفهوم ،ولو بشكله البسيط على الرغم من تنوع التسمية التي أطلقوها عليه ،إذ أشار الكثير منهم إلى ما يفيد بتعالق النصوص الأدبية ،وتداخلها لفظا ومعنى كليا أو جزئيا ، ولكن بمسميات عصرهم ،ثم ظهر مصطلح التناص أخيرا متأثرا بالمفاهيم النقدية الغربية التي تعد التناص مفتاحا لتصورات نقدية تفتح ما أغلق من النصوص الساكنة .
وكان الإمام السهيلي ممن احتفى شعره بتلك الظاهرة ، إذ استحظر نصوص غائبة امتصها وعيه ،وانتشى بها وجدانه ، وقد تعددت مصادر تلك الظاهرة ومرجعياتها،كما تنوعت أشكال توظيفها وطرقها ،وأثرت على نظام بناء شعره .
2-التعريف بالامام السهيلي :
أبو القاسم السهيلي هو عبد الرحمن بن عبد الله بن الخطيب بن أصبع بن حبيب بن سعدون بن رضوان بن فتوح الخثعمي السهيلي، والسهيلي نسبة إلى قرية من القرب من مالقة في الأندلس اسمها سهيل، ولد سنة 508هـ في مالقة ،وتكاد تتفق المصادر أن بصره كف وهو ابن سبع عشرة سنة ،وذلك لمرض عضال ألم به ، وعاش الامام عبد الرحمان بن عبد الله السهيلي بالأندلس معظم حياته ولسان حاله (شغلنا بكسب العلم عن مكاسب الغنى ،كما شغلوا عن مكاسب العلم بالوفر ) ، وكان في بلده يتسوغ بالعفاف ويتبلغ بالكفاف ، حتى نمي خبره إلى صاحب مراكش فطلبه إليها وأحسن إليه وأقبل بوجه الاقبال عليه ، يقول ابن دحية :(فأمروا بوصوله إلى حضرتهم ،وبذلوا له من مراكبهم وخيلهم ونعمتهم ،وقوبل بمكارم الأخلاق وأزال الله عنه علام الإملاق )
كان من أسرة علم ودين وفقه ، جمع الخصال الحميدة والأخلاق الفاضلة والصفات النبيلة ،وانعكس على سلوكه ،أثنى عليه العلماء وأشادوا بذكر منزلته ،فكان على حد تعبير ابن الخطيب (..أديبا ،كاتبا ،بليغا ،شاعرا ، مجيدا ،نحويا ،عارفا ،بارعا ،يقضا ،يغلب عليه علم العربية والأدب ..) ،وفاق أقرانه في العلم ، واشتهر بسعة الاطلاع ، وأجمع كل من ترجم له ،على أنه كان يتوقد ذكاء ، مقدما في الفهم والفطنة ن صاحب اختراعات واستنباطات ،دلت على ثقافة فكره ونباهة علمه وسعة حفظه ..
تأتى هذا النبوغ للإمام السهيلي من خلال حياة الطلب التي أفناها في الترداد على العلماء ، ذلك أنه تلقى العلم عن مجموعة من الحفاظ والأئمة المشهور لهم بالعلم والفضل . هكذا أخذ عن الحافظ أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري ت 543 ها ، كما أخذ النحو عن سليمان بن محمد بن عبد الله بن طراوة ت 528 ها ، وأخذ الأدب عنه أيضا ،والقراءات عن أبي داود سليمان بن يحي ، هكذا نهل من علم هؤلاء الجهابذة ، حتى عد من كبار أهل العلم ونال بذلك شهرة واسعة وذاع صيته بين الأنام، مما جعل أبناء عصره يلتفون حوله ، وينهلون من علمه ، قال ابن الأبار(تصدر للإقراء والتدريس واسماع الحديث ،فبعد صيته ،وجل قدره وكان من أهل الرواية والدراية ) ، فتخرج على يديه جم غفير من أبرزهم:
ابن دحية : عمر بن الحسن أبو الخطاب بن دحية الكلبي ت633ها ،وهو أديب ومؤرخ وحافظ للحديث ،صاحب المطرب في أشعار المغرب ،قال فيما أخذ عنه : قرأت عليه وسمعت كثيرا من أماليه .
الأزدي : أبو الحسن سهل بن مالك الأزدي الغرناطي ت 639ها :أخذ عنه الموطأ والسيرة والقراءات وسمع عليه كتابه الروض الأنف وغيره من كتب اللغة والأدب .
الأموي :أبو القاسم أحمد بن زيد بن عبد الرحمان بن بقي بن مخلد ت 625ها سمع عنه كتابه الروض الأنف .
وخلف الإمام السهيلي العديد من المصنفات الجليلة القدر ، العظيمة الشأن وذلك في فنون مختلفة وقضايا متنوعة ،أهمها في السيرة والحديث واللغة والفقه ،إلى جانب شعره الجيد الرقيق في موضوعات المدح والزهد ، ومن أهم كتبه :
-الروض اأنف والمشرع الرّوى في تفسير ما اشتمل عليه حديث سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتوى
– كتاب نتائج الفكرفي النحو
– التعريف والإعلام فيما أبهم في القرآن من الأسماء والأعلام
– الفرائض وشرح آيات الوصية
– حلية النبيل في معارضة ما في السبيل
– كتاب الأمالي
إن هذه الآثار والمصنفات العظيمة لتنبئ عن نبوغ صاحبها ،هذا الإمام الفذ الذي اشتهر بين الناس بورعه وتقواه وصلاحه ، عاش فقير اليد غني النفس وأقام بمراكش نحو ثلاثة أعوام وتوفي رحمه الله سنة 581ها
3- التناص الديني والأدبي في شعر الإمام السهيلي :
عرف الإمام السهيلي بتأليفه في اللغة والسيرة والفقه ،إلى جانب ذلك اشتهر بموهبته في صناعة الشعر ونظمه ،ومأبدعه من شعر توسلي صوفي جعل شعره يلقى إقبالا كبيرا على مر العصور ،فقد أوتي رحمه الله مقومات الشاعرية من موهبة الإبداع وملكته ومن فنون العلم ،ومختلف مؤثرات البيئية والثقافية ، فكان شعره من الجانب العلمي ، ومن ثقافته المتنوعة الضاربة في ميادين العلم والثقافة ، وقد أجمع من ترجم للإمام السهيلي أنه كان على منزلة رفيعة من حسن تأليف الكلام ونظم القريض ، فهذا صاحب أعلام مالقة ينوه بمدحه للموحدين في قوله : (فخلع على أهله من منمنم أمداحه خلعا ، وابتدع من مليح قريضه بدعا ، صارت إليه منهم قلوبا وأنالت من أكفهم مأمولا ومطلوبا )، وهذا ابن الأبار يقول : (له حظ وافر من قرض الشعر والتصرف في فنون العلم ، يغلب عليه علم العربية والغريب )..
والظاهر أن الإمام السهيلي كان له باع طويل ، وقدم راسخة في نظم الشعر ، شعر يرتبط بالحياة المعيشة ، ويصور الحالة الظاهرة والباطنة للشاعر ، كما يبرز علاقته بالآخرين من خلال إخوانياته ، وان من خصائص هذا الشعر الإبداع ، وملاحة المعاني ودقة التعبير ، وجمالية الأسلوب ، ولعل هذا هو السر فيما انتخب للإمام االسهيلي من أشعار في كتاب “أعلام مالقة ” و” مختارات من الشعر المغربي والأندلسي ” المنسوب للمقري و “أدب الفقهاء ” للعلامة سيدي عبد الله كنون الحسني .
أ _ التناص مع القرآن اللكريم :
كان للبيئة المفحمة بالثقافة والعلوم الإسلامية الأثر البالغ في صقل موهبة الشعراء الأدبية ، وتشكيل تجربتهم الشعرية ، وذلك من خلاتل التعالق مع موروثهم الديني ، من قرآن كريم وسنة نبوية وسيرة نبوية ، لهذا أفاد الشعراء الأندلسيون على وجه العموم من القرآن الكريم ،والإمام السهيلي أحد هؤلاء الذين كان لهم حظ وافر من القرآن الكريم ،وتضمين ألفاظه ومعانيه ودلالته ، لأنه أدرك كغيره من العلماء ،أن التعالق مع القرآن الكريم الأخاذ المعجز هو الأسلوب الأمثل في اللغة العربية عند الأدباء واللغويين ، واتخاذ بعض صوره وأساليبه نموذجا يغني الصياغة الأدبية ، ويكسبها جمالا، ورونقا حيث يقول رحمه الله 🙁 فافهم تنزيل الألفاظ في منازلها، وإعطاء المعاني حقوقها، يلح لك سر البلاغة، ويبن لك حقيقة الإعجاز، في هذا الكلام المحفوف بالإعظام والإعزاز، المنزه عن شيئين:الإطالة وإخلال الإيجاز..)
لهذا تأثر الإمام السهيلي بنظم القرآن ورصفه ، إذ وجد فيه ما احتاج إليه من فصاحة اللفظ ، وقوة العبارة وجمال الصورة ، وجودة السبك ، لذلك كان ماثلا في شعره وحاضرا في صياغة صوره الشعرية ،وكان وسيلته التعبيرية في تقديم رؤياه الإبداعية ،مما جعل نصوصه الشعرية لها قوة وسلطة تأثيرية عجيبة ، وفاعلية في نفوس المتلقين .
وقد تنوعت استحضاراته للقرآن الكريم ما بين إيحاء لمضمون الآية أو فكرتها الأساسية ، أو استدعاء بعض المفردات والتراكيب القرآنية ، ومن تلك الاستحضارات قول الإمام السهيلي :
لك الحمد ياذا المجد والجود والعلا تباركت تعطي من تشاء وتمنع
إلهي وخلاقي وحرزي وموئلي إليك لدى العسر واليسر أفزع
هنا نجد أن البيت الأول قد تناص مع قوله تعالى :(الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر ) العنكبوت/ آية 62 وقوله تعالى : (ان ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر )الإسراء / الآية 30
فقد استمد المعنى من القرآن ،والغاية منه الاستدلال وتأكيد انتماء منحاه التوسلي إلى الشرع ، والإمام السهيلي قبل تقديم طلبه بين يدي الله عز وجل عمد إلى حمد الله وشكره والثناء عليه ، وتقديسه ، واستحظار عظمته وقدرته ، لهذا استهل قصيدته ب – لك الحمد – وهذه العبارة من أجلّ الكلام وأعظمه وأفضله عند الله ومن السور التي وردت فيها سورة الفاتحة يقول الله تعالى: (الحمد لله رب العالمين ) ،وافتتحت بها كذلك سورة الأنعام والكهف وسبأ وفاطر .
وفي موضع آخر يقول الإمام السهيلي :
إلهي أذقني طعم عفوك يوم لا بنون ولا مال هناك فينفع
إلهي لئن لم ترعني كنت ضائعا وإن كنت ترعاني فلست أضيع
هنا نجد سلسلة من التوسلات المتتالية التي يتلمس من ورائها العفو، والمغفرة من الله، يوم لا ينفع إلا هو أو العمل الصالح ، ويقع التناص هنا مع قوله تعالى :_(يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ) الشعراء /الآية 88/89
وفي موضع آخر يقول :
إلهي فلا تقطع رجائي ولا تزغ فؤادي فلي في بحر جودك مطمع
إلهي لئن خيبتني وطردتني فمن ذا الذي أرجو سواك فيدفع
يلاحظ تناص في البيت الأول مع القرآن الكريم في قوله تعالى :(ربنا لا تزغ قلوبنا بعد أن هديتنا ) آل عمران /الآية 8 حيث اقتبس بعض المفردات القرآنية مع بعض التحوير في قوله ” ولا تزغ فؤادي ” ووظفها توظيفا يتلائم ومغزى النص الذي يناجي فيه ربه ، ويلاحظ انسجام هذه المفردات وتفاعلها مع غيرها من عناصر النص اللغوية والصوتية .
ومن ذلك أيضا قوله في قصيدته التوسلية :
صرفت إلى رب الأنام مطالبي ووجهت وجهي نحوه ومآربي
إلى الملك الأعلى الذي ليس فوقه مليك يرجى سيبه في المساغب
هو الصمد البر الذي فاض جوده وعم الورى طرّا بجزل المواهب
حيث استخدم تقنية التناص في الأبيات ، فاقتبس بعض المفردات القرآنية ووظفها لتتلائم مع سياق النص ،فجاء وقعها على السمع أشد وأقوى ، وقد تعدى التناص إلى أكثر من آية ، فتناص الشاعر في البيت الأول مع الآية القرآنية في قوله تعالى :(إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا ) الأنعام /الآية 79 ، ومع قوله تعالى 🙁 وأن أقم وجهك للدين حنيفا ) يونس /الآية 105 ،وفي البيت الثالث تناص مع سورة الإخلاص ، فقد استلهم معاني هذه الآيات الكريمة من خلال اقتباس بعض مفرداتها ، التي انسجمت مع سياق النص ومغزاه للدلالة على تعظيم الخالق ،واظهار قدرته وسلطانه ،ليبرر لجوءه وتوسله إليه .
وفي موضع آخر يقول :
فما زال يوليني الجميل تفضلا ويدفع عني في صدور النوائب
ويرزقني طفلا وكهلا وقبلها جنينا ويحميني وبيّ المكاسب
ويقع التناص في البيت الثاني مع القرآن الكريم في قوله تعالى 🙁 ويكلم الناس في المهد وكهلات ومن الصالحين ) آل عمران / الآية 46 ، حيث اقتبس بعض المفردات القرآنية ووظفها في عرض أفضال الخالق عليه ، الذي رزقه في حالات ضعفه .
وفي قصيدته العينية التوسلية يقول :
يامن يرجى للشدائد كلها يامن إليه المشتكى والمفزع
يامن خزائن رزقه في قول كن امنن فإن الخير عندك أجمع
الملاحظ أن الإمام السهيلي استلهم المعنى القرآني الدال على عظمة الخالق ، واثبات قدرته ، واتساع فضله ليلتمس الخير الإلهي ، كأنه استحضر قوله عز وجل :(إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) مريم /الآية 35 ، فهذا المعنى القرآني تفاعل إلى حد كبير مع غيره من عناصر النص ، من خلال استخدامه لتقنية التناص ، بغية اعطاء النص بعدا دلاليا دون أن يفقد المتناص معناه الأصلي .
ب- التناص مع الحديث النبوي :
الحديث النبوي لا يقل أهمية عن القرآن الكريم ، فمنذ فجر الإسلام والأدباء يتمثلون ألفاظه ومعانيه وأسلوبه وتراكيبه ، فكان أحد المشارب التناصية التي رفد منها الشعراء العرب في عصورهم المختلفة ، باعتباره مستودعا لغويا بالغ الأهمية ، لهذا شكل الحديث النبوي في شعر الإمام السهيلي مادة خصبة ، ومصدرا أساسيا من مصادر تجربته الشعرية ، حيث أخذ ينهل من معينه ، مستحضرا ألفاظه وتراكيبه وموظفا أسلوبه ، توظيفا منتجا ومتداخلا مع النص الشعري ، للتعبير عن مواقفه الإنسانية والفكرية ، مما يدل على سعة ثقافته وحبه لدينه والتزامه به ،وفيما يأتي نماذج من هذا التناص :
يقول الإمام السهيلي:
إلهي ذنوبي أبدلت لي الطود واعتلت فصفحك عن ذنبي أجل وأرفع
إلهي اقلني عثرتي وامح حوبتي فاني مقر خائف متضرع
إلهي أنلني منك روحا ورحمة فلست سوى أبواب فضلك أقرع
ففي البيت الأول نلاحظ أن الإمام السهيلي في مناجاته لله تعالى ، يسترسل في نداءاته التوسلية ، التي يتأرجح فيها بين الخوف والرجاء، مع تغليب جانب الرجاء المؤدي إلى حالة الرعاية ، لأنه مهما يعظم الذنب فالله أعظم ،ورحمته أوسع ، ولطفه أشمل ، مستندا في ذلك إلى الحديث الذي أخرجه ابن ماجة عن أبي هريرة أن رسوب الله صلى الله عليه وسلم قال 🙁 لو أخطأتم حتى تبلغوا عنان السماء ثم تبتم لتاب الله عليكم )
وفي موضع آخر يقول الامام السهيلي :
إلهي بحق الهاشمي وآله وحرمة ابراهيم من لك يخشع
إلهي فاشهدني على دين أحمد نبيا تقيا قانتا لك أخشع
فلا تحرمني يا إلهي وسيدي شفاعته الكبرى فذاك مشفع
ففي هذه الأبيات ينتقل الإمام السهيلي في مناجاة الله ، من الاستغاثة بالإله وطلب عفوه وكرمه وفضله إلى التماس شفاعة الرسول الكريم مقرّا بعبوديته له ، ويشهد على ذلك شاهدين صادقين مصدقين هما محمد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم ، وهو بهذا يتناص مع حديث وارد في صحيح البخاري مروي عن أبي هريرة أنه قال :(قلت يا رسول الله أي الناس أسعد بشفاعتك يوم القيامة ؟فقال : أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه ).
وفي البيت الثاني يلاحظ أن اقرار السهيلي بذنوبه وأخطائه ، هو من باب الاستغاثة والتوسل ،إذ كان من المتقين ، إلا أنه كان مؤمنا بأن العمل والتقوى والخشوع كلها أمور لا تنجي من العقاب ،إلا أن يحظى الانسان بالشفاعة المحمدية ، وهذا يتناص مع حديث مروي في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (لكل نبي دعوة مستجابة ، فتعجل كل نبي دعوته ، واني اختبأت دعوتي شفاعة يوم القيامة ، فهي نائلة ان شاء الله تعالى من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا ) .
وللإمام السهيلي قدرة فائقة في استلهام واستحضار معاني من النصوص الغائبة ، وتوظيفها في نص حاضر ، بكيفية تحقق الانسجام والتوافق بين النصين ، الحاضر والغائب ، مثل قوله في قصيدته البائية :
فلا تخش اقلالا وان كنت مكثرا فعرفي مبذول إلى كل طالب
فسائله متى شئت ان يمينه تسح دفاقا بالمنى والرغائب
فهو يتحدث عن فضل الله على الخلق عموما ،وعطائه المحقق للآمال والرغائب ،ويحيل في البيت الأول على حديث قدسي رواه مسلم عن أبي ذر الغفاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه (..ياعبادي لو ان أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد ، فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته مانقص ذلك مما عندي الا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر ).
ج- التناص مع الأدب :
وجد أبو القاسم السهيلي في الموروث الأدبي ماد شعرية خصبة ، تحمل طاقات فنية هائلة ، وقدرات تعبيرية تلبي أبعاد تجربته الشعرية ، ومقاصده الفنية والدلالية ، نظرا لما للنص الشعري من صدى ايجابي لدى المتلقي ، واتكاء الشاعر على هذا الموروث ، والاستعانة به ، يحقق له القبول الواسع والأثر الجميل ، حيث أن الشعر العربي القديم مادة غنية ومعينا لاينضب بدلالاته ومعانيه الفياضة ،وقد اقتبس الإمام السهيلي من صوره وأساليبه ، ما يعينه على إثراء حصيلته اللغوية ، وإذكاء تجربته الشعرية ، ومن أمثلة ذلك قوله وهو يمدح أبا سعيد عثمان بن عبد المومن بن علي :
سيف نضته يد الميمون طائره سهامه الشوك زجر الليث للنّقد
تضعضعت عصب الإشراك نافرة ولا قرار على زأر من الأسد
فالشطر الثاني من البيت الثاني فيه تناص جلي ،إذ نجد الامام السهيلي ناظرا إلى قول الشاعر النابغة الذبياني في مدح النعمان بن منذر حين قال :
أنبئت أن أبا قابوس أوعدني ولا فرار على زأر من الأسد
من خلال ملاحظة بعض الألفاظ والمعاني في البيتين ، نجد كثير من التعالق النصي بينهما ، وقد وفق الإمام السهيلي في هذا الاستدعاء للثرات الأدبي وتوظيفه ،إذ جاء تناصه منصهرا مع خطابه الشعري ، محققا هذا الانسجام الذي يوحي بتفوقه في هذه التناصية .
وقال الإمام السهيلي في قطعة لزومية :
وقلت أرجّي عطفه متمثلا ببيت لعبد صايل بردان
تغطيت من دهري بظلّ جناحه فعيني ترى دهري وليس يراني
وقع التناص في البيت الثاني مع قول أبي نواس عند قوله:
تغطيت من دهري بظلّ جناحه فعيني ترى دهري وليس يراني
الملاحظ أن ثقافة السهيلي وذاكرته المدهشة امتدت إلى بيت أبي نواس ، حين أدرج في نصه ألفاظا وعبارات من النص الغائب ، وأحيانا يأخذ البيت كاملا ، ما يكشف عن مدى تأثره واعجابه بالشعر العربي القديم .
وقال في موضع آخر :
أسائل عن جيرانه من لقيته وأعرض عن ذكراه والحال تنطق
وما بي إلى جيرانه من صبابة ولكن نفسي عن صبوح ترقق
يبدو واضحا أن الإمام السهيلي قد تناص مع قول مجنون ليلى :
أمرّ على الديار ديار ليلى أقبّل ذا الجدار وذا الجدار
ما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الدّيارا
والتناص هنا على مستوى امتصاص المعنى ، وهذا الاستحضار لمعاني الشعراء بهذه التناصية ، قد وفق إليه الإمام السهيلي في تعبيره الشعري ، الموحي بثرائه الفني وقدرته التعبيرية .
من خلال ما سبق تبين لنا أن الإمام السهيلي أفاد من تجارب الشعراء وأفكارهم وصورهم الفنية ، ووظفها من خلال آليات الاقتباس والتضمين في أشكال جلية وأخرى خفية ، وأسهم هذا التناص في انتاج كثير من الدلالات ، وتحقيق وظائف نصية وجمالية متعددة .
خاتمة :
لقد تضمن شعر الإمام السهيلي حشدا كبيرا من المفردات ذات البعد الديني والأدبي ، وهذا يدل على أن الشاعر ذو ثقافة دينية وأدبية واسعة ،وقد أجاد صياغة النصوص الغائبة واستحضارها في شعره ،وذلك لإعطاء الخطاب الشعري قيمه فنية خاصة ذات تأثير عميق في نفس المتلقي ، بعد أن يمنحها رؤيته الخاصة .
دة. عائشة الطويل