لم يسترجع العالم بعد صحوه بالكامل، فكلما انطفأ الوباء هنا اشتعل هناك. قبل اللقاح كانت كل الأيدي مرفوعة إلى السماء داعية للعلماء بالنجاح في مسعاهم غير المسبوق، ولم تكتف الدول بالانتظار بل مدت أيديها إلى خزائنها، ولم تتريث المختبرات و تتخلف شركات الأدوية بل شمرت عن سواعدها في سباق مع الزمن مصرة على صنع الممكن من “شبه المستحيل”؛ فاستثمرت إمكانياتها البشرية والعلمية والمالية دون اكتراث بالمجاهيل التي تدخلها، وهي ما هي حيث تضع نصب أعينها كأولوية الأرباح التي ستجنيها، لأن الربح والخسارة هما كفتا ميزان كل استثمار. بعد ولادة االلقاح الذي عده كل العالم المتحضر ومعه البشرية جمعاء إنجازا باهرا في زمن قياسي، عضت كثير من الدول و مختبرات على أيديها لأنها لم تكن ضمن كوكبة المتصدرين لهذا السباق العلمي والمتوجين بمنافعه التي تقطر ذهبا.
مع اكتشاف اللقاح التي استعملت في طريق اكتشافه تقنيات قديمة وحديثة، دخل العالم زمنا آخر، لكن هذا الزمن و إن كان البعض وصفه بشعاع الضوء في النفق المظلم و فاتحة لانفراج الأسارير، فقد انبلجت عن صبحه الأعاجيب التي لا زالت تتوالد كالأرانب.
بدأ سلسل الأعاجيب باللهاث على اللقاح و احتكاره حتى أمكن القول إن الدول الفقيرة لم تدخل زمن اللقاح بعد، ولا زال هذا اللهاث قائما. و بعد تجاوز ندرة اللقاح ظهرت عيوب بعض اللقاحات فخاف الناس منها وهجروها، ولم يكن أمام حكوماتهم إلا الانصياع بالجري لتوفير اللقاحات التي يرتاحون لها، وتعب الحكومات الديموقراطية راحة للشعوب.
و بعد توفير اللقاحات المرغوب فيها ظهرت التخوفات منها على المستوى البعيد لدى شرائح من المتوجسين فتباطأ في خضم الشك والتشكيك، و الخلط و التغليط الإقبال على التلقيح، ولما استرجعت عمليات التلقيح لأنفاسها ظهرت محدودية اللقاح في الحماية من الإصابة خصوصا مع ظهور متحورات جديدة، ثم بان أن مدة الحماية تنقص ولا تطول كما هو الشأن مع بعض اللقاحات المضادة لفيروسات أخرى و التي منها ما يبقى مستمرا مع الإنسان في وجوده، كما اتضح أن اللقاح لا يحمي بالكامل من نقل العدوى، فلزم لذلك إقرار جواز التلقيح كما لزم أخذ الجرعة الثالثة بعد ستة أشهر لقصر مدة الحماية، و تلقيح جل الفئات العمرية من أجل تحقيق المناعة الجماعية بسبب سرعة انتشار المتحورة الجديدة، و لا أحد يعلم ما يخبئه الغد مع وباء جديد، غامض، غير شرس في معظم الأحيان، لكنه مزعج، مراوغ و قاتل أحيانا أخرى.
هذا الوباء علم العلماء ومعه العالم التواضع والأخذ بالنسبية في النظر إلى الإنسان و ما يحيط به، لكن الوضع الذي تمخض عن الوباء يتميز بالزئبقية، بالمد والجزر الاقتصادي اطرادا مع موجاته، بالشد والجذب بين الحكومات والشعوب انطلاقا مما تمليه العلاقة القانونية و الديموقراطية بين الإثنين من احترام للحقوق والحريات، وإعمال مبدأ التناسبية في الإجراءات والتدابير في ظل استمرار حالة الطوارئ الصحية أي “مبدأ” Stop and go. لهذا يطالب الناس أن تنتهج الصرامة الجماعية دون انتهاك لكرامة الإنسان الفردية عند تصاعد وتيرة الوباء، و أن تنتهج المرونة و تخفيف القيود إلى الحد الأقصى عند نزول وتيرته، لكي تستمر المجتمعات في العمل والإنتاج والتبادل و تلبية الحاجيات، و في السعي و الاستمتاع بالحياة و الفرح، ثم التطور…
وإذا كان الوباء عامل إرباك لحياة الشعوب، فإن هذه الأخيرة لا تقبل أن يتحول إلى أداة لدى أولي الأمر للتراجع عن مكتسبات حققتها بالعرق والدموع.
عبد الحي المفتاح