- 1. لم تكن زهرة المدائن وبهيّة المساكن، مدينة القدس، المدينة الوحيدة التي أقام بها الإمام القاضي أبو بكر بن العربي من المدن الفلسطينية؛ بل نزل بمدن مباركة أخرى، استهوته بأجوائها وهوائها وساحلها وبركة تربتها، ومجالس العلم والأدب فيها، ومن تلكم المدن الفلسطينية مدينة عسقلان، المدينة التي يقول فيها:” ألفيتُ بها بحر أدبٍ، يَعُبُّ عُبَابُه، ويَغِبُّ ميزابُه، فأقمتُ بها لأرتوي منه نحواً من ستّة أشهر”.
- وما كَفَّهُ عن ارتوائه، وأيقظه من نشوته، إلا صوت جارية سمعها تغنّي في طَاقٍ وتقول:
أقـــولُ لها والعـــيسُ تحْدِجُ للنّوى ** أعدّي لفقدي ما استطعتِ من الصّبر
أليس من الخــــــــــسران أنّ لــــــــــيالياً **تمــــرُّ بلا نفعٍ وتُحســــــــــــــــــــــــــــــــــبُ من عُمُري
يقول إمامنا القاضي: “فقلتُ لنفسي: محمّد، هذا بشهادة الله وحيٌ صوفيٌّ، وهاتفٌ دينيٌّ، أنت المرادُ، وعليك دار هذا التّردادُ، ارحل من حينك إلى نيّتك الأولى، وخذ بنفسك إلى ما هو الأحرى بك والأَوْلى، وبادرتُ إلى داري، وقلتُ لأبي: الرّحيل الرّحيل، فليس هذا المنزل بمَقيل”.
- وهكذا شدّ الرّحلة من جديد، سائحاً في أراضي الشّام؛ فمن عكّا إلى طبرية إلى حوران إلى دمشق، وهي المدينة التي أناخ عيسه بها، وقصد مجلس فقيهها ومحدّثها أبي الفتح نصر بن إبراهيم المقدسيّ [ت. 490هـ]، بجامع بني أمية الكبير، فسمع منه صحيح الإمام محمد بن إسماعيل البخاري من لفظه. وقد عبّر إمامنا عن بالغ سروره وسعادته بمقامه بأراضي الشام فقال: ” وكان من صنع الله الجميل بي، توفيقه لي إلى الإقامة بأرض الشّام، في بقعة مباركة وبين علماء، حتّى صار درجاً للقاء المحقّقين الذين ينتقدون ما حصّلت، ويفسّرون ما أجملت، ويوضّحون ما أبهمت، ويكمّلون ما نقصت”.
- ومن دمشق أرض الياسمين إلى بغداد مدينة السلام، المدينة التي دخل إمامنا القاضي مشارفها منسلخ شهر شعبان سنة: (489هـ) وهي يومئذ مركز العلم وملتقى العلماء من الشرق والغرب والعرب والعجم، فأقام بها قرابة السنتين للدّراسة على جلّة أعلامها ومشاهير علمائها، منهم: الإمام أبو عبد الله الحسين بن علي الطّبري [ت. 498هـ]، والإمام أبو سعد الحلواني [ت. 520هـ]، والإمام أبو بكر محمد بن أحمد الشّاسي [ت. 507]، مع شدّة حرصه ومحافظته على وقته، وقد كان يقول كما روى عنه الضّبي في « البغية»: ” وكنت أحفظ بالعراق في كلّ يوم سبع عشرة ورقة، وكان يقول: عندي مسائل ألفية، درست في كلّ يوم مسألة ألف مرّة بعد أن حفظتها”، بالإضافة إلى ملازمة خزانة المدرسة النِّظامية والاطّلاع على نفائس كتبها، ومن جملة ما اطّلع عليه كتاب: « المختزن» للإمام أبي الحسن الأشعري، حيث يقول عنه في «العواصم»: ” وانتدب إلى كتاب الله، فشرحه في خمس مئة مجلّد، وسمّاه بالمختزن، قرأناه في خزانة المدرسة النّظامية بمدينة السّلام”.
- إلا أنّ أشهر شيوخ إمامنا ابن العربي ببغداد، ومن افتخر بالأخذ عنهم في كلّ محفل وناد، حجّة الإسلام، زين الدّين أبو حامد محمد بن محمد الغزالي [ت. 505هـ]، ” الإمام الذي باسمه تنشرح الصّدور وتحي النفوس، وبرسمه تفتخر المحابر والطّروس، ولسماعه تخشع الأصوات وتخضع الرؤوس”، على حدّ تعبير الإمام الأسنوي في «الطبقات»، و”النجم الذي تُشرق الأوراق بذكراه، ويعبق الوجود بريّاه، والضّرغام الذي تتضاءل بين يديه الأسود وتتوارى، وبدراً تماماً إلا أنّ هُداه يُشرق نهارا، وبَشَراً من الخلق، ولكنّه الطّود العظيم، وبعضَ الخلق، لكن مثل ما بعضُ الحَجرِ الدُّرُّ النّظيم”. على حدّ تحلية الإمام ابن السبكي في «طبقاته».
- قُدّر لأمامنا أبي بكر ابن العربي أن يلتقي بحجّة الإسلام أبي حامد الغزالي ببغداد سنة: (490هـ)، بعد أن رجع من خلوته وعزلته بمدينة دمشق، تلك الخلوة التي يقول عنها في «المنقذ»: ” أقمتُ بها قريباً من سنتين، لا شغل لي إلا العزلة والخلوة، والرياضة والمجاهدة، اشتغالاً بتزكية النفس، وتهذيب الأخلاق، وتصفية القلب بذكر الله تعالى، كما كنت حصّلته من كتب الصّوفية، فكنت أعتكف مدّةً في مسجد دمشق، أصعد منارة المسجد طول النّهار، وأغلق بابها على نفسي”. وقد صوّر لنا مشهد دخول شيخه إلى بغداد بقوله:” ورد علينا « دَانِشْمَنْد» – تعني الحكيم أو الماهر، باللغة الفارسية- فنزل برباط أبي سعد، بإزاء المدرسة النِّظامية، مُعرضاً عن الدّنيا، مقبلاً على الآخرة”.
- والمقصودُ “برباط أبي سعد” الذي نزل به الإمام الغزالي، هو رباط أبي سعد النيسابوري الصّوفي: أحمد بن محمّد بن دوست دادا، الملقب بشيخ الشيوخ [ت.479هـ]؛ فقد كان رباطه من أشهر رباطات التّصوف ببغداد، يجتمع فيه كبار الأعلام من الصّوفية والفقهاء والمحدّثين القادمين إلى بغداد والنّازلين بها، وقد أشار إليه غير واحد من المؤرخين المشارقة، منهم ابن الجوزي في «المنتظم»، وابن كثير في «البداية والنهاية». والملفتُ هو أنّ الإمام الغزالي نزل بهذا الرباط الصّوفي القريب من المدرسة النِّظاميّة، وهي المدرسة التي كان إلى عهد قريب ملء السّمع والبصر فيها، وشيخها الأول، ودرّس فيها لأربع سنوات (488-484هـ) وعُزل من التدريس بها لأجله كبار العلماء، وكانت معقل المذهب الأشعري وأعلامه، “وصارت الأمثال تُضرب بحسنها” على حدّ تعبير الرّحالة الطّنجي ابن بطوطة في «تحفة النّظار».
- اهتبل إمامنا ابن العربي بعودة الإمام الغزالي من رحلته العرفانية، ومن الفور قصده في رباطه، عارضاً عليه أمنيته، ومُقرِّباً لنا وصفه وحالته، ومُظهراً مكانته لديه، يقول: ” فمشينا إليه، وعرضنا أمنيتنا عليه، وقلت له: أنت ضالّتنا الذي كنّا نَنْشُد، وإمامنا الذي به نسترشد، فلَقيَنا لقاءَ المعرفة، وشاهدْنا منه ما كان فوق الصّفة، فإنّه كان رجلاً إذا عايَنتَهُ رأيتَ جمالاً ظاهراً، وإذا عالَمتَهُ وجدتَ بحراً زاخراً، وكلّما اختَبرْتَ احتبَرْتَ، فقصدتُ رباطه، ولزمتُ بساطه، واغتنمتُ خَلوته ونشاطه، وكأنّما فرغ لي لأبلُغ منه أملي، وأباح لي مكانه، فكنتُ ألقاه في الصّبح والمساء، والظّهيرة والعشاء، كان في بَزَّته أو بذلته، وأنا مستقلٌّ في السّؤال، عالمٌ حيث تُؤكل كتف الاستدلال، وألفيتهُ حفيّاً بي في التّعليم، وفيّاً بعهدة التّكريم”.
- جالس القاضي أبو بكر الإمام الغزالي في رباطه مدّة تقرب من السّنتين، متعلّماً ومستفيداً وسائلا ومريداً، وإن كان لم يبين لنا كثيراً نوعية الكتب التي درسها عليه غير إشارات منثورة في كتبه، كقوله في «العواصم»: ” قرأت عليه جماعة من كتبه، وسمعت كتابه الذي سمّاه: الإحياء لعلوم الدّين، فسألته سؤال المسترشد عن عقيدته، المستكشف عن طريقته، لأقف من سرّ تلك الرّموز التي أومأ إليها في كتبه على موقف تامّ المعرفة، وطفق يجاوبني مجاوبة النّاهج لطريق التّسديد للمريد”.
- بعد هذه المدّة التي جالس فيها القاضي ابن العربي شيخه الإمام الغزالي سيتلقيه مرة أخرى في طريق عودته على ما رواه ابن العماد الحنبلي في «شذرات الذّهب» عن علاء الدّين بن الصّيرفي أنّ القاضي أبا بكر ابن العربي قال: ” لقيتُ الإمام الغزالي بصحراء الشّام، وبيده عكّازة، وعليه مرقّعة، وعلى عاتقه ركوة، فسلّمت عليه، وقد كنت رأيته ببغداد يحضر مجلس درسه نحو أربعمائة عمامة من أكابر الناس وأفاضلهم، يأخذون عنه العلم، فدنوتُ منه وسلّمتُ عليه وقلت له: يا إمام: أليس تدريس العلم ببغداد خير من هذا؟ قال: فنظر إليّ شزراً وقال: لما طلع بدر السعادة في فلك الإرادة، وجنحت شمس الوصول إلى مغارب الأصول:
تركتُ هوى ليلى وسُعدى بمعزل ** وعُدتُ إلى تصحيح أوّل منزل
ونــــــــادتْ بي الأشـــــــــــــواقُ مهلاً فهذه** منــــــازلُ من تهوى رويدك فانزل
غــــــــــــــــــــــــــــــــزلتُ لهم غزلاً رقيقاً فلم أجدْ** لغزلي نسّاجاً فكسرتُ مغزلي
يقول المرحوم الأستاذ سعيد أعراب: ” ولا ندري مدى صحّة هذه الرّواية، وأمارات الصّنعة بادية عليها؟، أمّا من حيث الزّمان فيجوز ذلك، وقد مرّ ابن العربي ببادية الشّام في طريقه إلى الإسكندرية أواخر سنة (491هـ).
- ختام جولتنا الفكرية مع القاضي أبي بكر بن العربي في رحلته المشرقية بيان الغاية العظمى والهدف الأسمى من وراء رحلته هاته التي استمرت زهاء العشر سنوات، وهو الهدف الذي تكفّل ببيانه لنا إمامنا حيث قال:” وكنتُ إبّان طلبي في الأقطار، ودرسي آناء اللّيل والنّهار، ولقائي أولي البصائر والأبصار، لا أمَلَ لي إلا التّشوف إلى المقصد الأسنى، الــمُنتحى في كلّ معنى، وهو معـــــــرفة اللّـــه تعالى”.
د. محمد شابو