… منذ سنوات و سنوات خلت ، من حوالي سبعة عقود من الزمان ، كانت مدرستي الابتدائية هي دُنيايَ ، كان يُتاح للأطفال ثمَّة كلَّ شيء ، إذ كنا نشترك في ذلك الطفل الذي يسكننا إلى يوم الناس هذا ، وهو الذي ألف بيننا . ألفتنا اليوم هي انعكاس لفترات تاريخية لمخزون ذاكرة مُشرقة ، انبجست مياه عيونها في حقل مؤسسة تربوية تأسست في العشرينيات من القرن العشرين بمدينة تطاون ، و قد حملتْ إذاك اسم المدرسة الفرنسية-الإسلامية ، محادية لضريح سيدي السعيدي بحوْمة “التشريتشار” . فمرحلة الميْل تبدأ بخطوة أولى . و أتذكر منهج التلقين بأريحية لمصطلحات غريبة و دقيقة تأخذ طريقها إلى أدمغة الصغار بأسلوب يسهُل معه الفهم . و أراني في باكر الطفولة نتواثب وراء الفراشات المُلوَّنة كالزهور ، و نقطف المشمش من أشجار ساحة المدرسة ، و الفراولة من أرضيتها . و نحن في رحلة بين أزهار البريَّة بمنطقة الزرقاء ، نسبح في مياهها الزلال العذبة . بتلك الفطرة البشرية ، و من خلالها نستسمع لهمسات الذكرى ، لاسترجاعها في مسامعنا ، لكي نستنشق عبير هذا اللقاء ، وهو يتخطى بنا الزمان و المكان . و لأني أرى وجوها صغيرة طيبة بالأمس البعيد ، أمامي كأوَّل عهدنا يوم التقينا ، لنتعارف على فضاء المدرسة الابتدائية و في أقسامها . فمن ذا الذي قرأ مُساجلاتنا ، إنْ لم يكن إلا معلمنا الأوَّل . حيث كان يُغالبنا النُعاس في الصباح الباكر ونحن نتثاءب عند اصطفافنا مثنى مثنى على أبواب الأقسام ، مستمعين لصوت المعلمة و المعلم ، لتحصيل أبجدية العلم . و قد نسعى في هذه اللحظة السعيدة ، لنصل يومَنا بماضينا ، و لنْ نسأل الزمان أنْ يرُدَّ علينا ما فات من أحداث ؟ و إني لأرى أطياف الحبّ ترفُّ رفيف الحياة بيننا . فالفضل لله سبحانه ثمَّ لتلك المعْلمة للتعليم العمومي ، و التي كانت تحمل اسم المدرسة الفرنسية-الإسلامية ، و التي أضحتْ اليوم مدرسة سكيْنة بنت الحسيْن رضي الله عنهما . وهي اللبنة الأولى في بناء عمارة الطفل تربويا و علمياً . من خلال فعل الأمر “إقرأ” ، و لم يكن ذلك بفعل الماضي أو المضارع ، من الله جلَّ و علا ، في مُحكم كتابه قائلا : إقرأ باسم ربك الذي خلق ..إلى آخر الآية . وهي كلمة كقطرة الندى التي روتْ و أنعشتْ العُشب الذابل . فأصبحت و أضحت و أمست ، قبل أنْ تكتمل أضراس “عقولنا” بعدُ . فكان المعلم الأول يقيم للأطفال وازعاً ، و غراما و هُياما مزمناً للقراءة ، في مراحل ذلك الزمكان . – من هنا ، أيْ في ابتدائية “التشرتشار” تعلمنا القراءة و الكتابة على أيدي معلمين مُخلصين أكفاء ، الذين لا يحدُّهم لا الزمان و لا المكان . عُلمنا منطق التفكير لتترسخ في عقولنا أفكار دون إخفاء المعاني (باب علم الكلام) . اكتشفنا بعذئذ أنَّ الرياضيات بشقيها ، نبغ فيها أبو عبد الله الحاج المُرْسي ، و في علم الهندسة لابن عبدون الجبلي . أساتيذ مربين بامتياز نفضوا الغبار عن عقولنا و الغشاوة عن أعيننا ، و كنا يومئذ فتيان لم نبلغ حدَّ الشباب .و تلقين التلاميذ بأسلوب معرفي يعتمد العقل ، ثم لملموا صفوفنا حتى استوى عودُنا . كالبستان الذي تنفجر المياه من تربته لسقي زهور ترفُ رفيفها ، و لتتفتح لاستنشاق الهوى و للاستمتاع بأشعة الشمس ، فتزهر الورود اليانعة . في هذا الصرح كان رمز الحياة بين رموز الأمية التي كانت تسطع في مجتمعاتنا . – هؤلاء الأطفال هموا الأطفال بألوان الربيع ، وقد أصبحوا عطرا يُستنشى ، و جمالاً يُشتهى . فمنهم الأستاذ و الطبيب و المهندس و الصانع و التاجر ، و المكافح . كلٌّ منا اتخذ طريقه آخذا بيده خطام و زمام خيله ، فكان القدر أقوى منا . و لا ضيْرَ إذ الحياة ، أنْ يكون الإنسان شيئاً في الحياة . – فنحن جزْءٌ من صانعي الحدث ، كما قال “فرانز روزينطال” ، المؤرخ الباحث : فالتاريخ رواية و جوْهرها أسلوب الحكي ، الذي يُروى به الحدث ، و في مجموعة من الحقائق لا يتجاوز الحدّ الأدنى من الصنعة الأدبية . و على لسان ابن الحزم ، القائل بالاعتزاز بحرْمة الفكر . – فقد تعلمنا ، عند استرجاعنا بعضاً مما اسوْعبنا في هذا الصرْح المعرفي ، كيفية التلاقح الفكري و التعددية اللغوية في صياغة الدلالة الأصلية و المجازية أيضاً . فبعدما اشتعل الرأس شيباً و نلنا من الكبر عتياً ، اهتدينا إلى هذا اللقاء لما بقيَ فينا بما ينضح من حيوية للحفاظ على ذاكرة هذه المعلمة ، حتى نُسلم المشعل لتلميذات و تلاميذ مدرسة سكيْنة بنت الحسين ، و إنْ هموا إلا خيرَ خلف لخير سلف ، و في أجواء من الحبّ و التقدير و المسؤولية . – وقد استوْقفتني خاطرة لحينها ، تفرض علينا واجب العرْفان و الشكر لأيادي بيضاء ما فتئتْ تتكرَّمُ على جمعيتنا كل حين ، كما قال صلى الله عليه وسلم : إنَّ لله تعالى عباداً اختصهم بحوائج الناس ، يَفزع إليهم ناسٌ في حوائجهم . أولائك الآمنون من عذاب الله ..(رواه الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنهما ) . و قد اجتمعنا اليوم ، سعداء القلب لصلة الرحم ، قبل أنْ تهبَّ نسمةُ الوداع ، فإذا بزهور الأمس البعيد ، وُرَيْقات منثورةٌ على التراب .. فالجنة طيّبة لا يدْخلها إلا الطيب ، اللهم اجعلنا منهم ، و السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته . – أبدع الشاعر دعبل بن علي الخزامي حين نظم هذا البيت قائلاً : يموتُ رديء الشعر من قبل أهله ~ و جيّدُهُ يبقى و إنْ مات قائلهُ ..
عبد المجيد الإدريسي .