سلسلة مقالات حول القيم والنموذج التنموي المغربي
الحلقة الرابعة: أهمية القـــــــــيم
بقلم: ذ. حسن الطويل
أستاذ باحث
تشكل القيم، البناء الداخلي لأية أمة، بها تقوم الحضارات وتتطور، فتكسبها الحصانة والقوة المانعة من التأثر والذوبان في الآخر، وهي قوة دافعة للتقدم وتحقيق الفاعلية والنهضة.
وتبرز أهميته البالغة، انطلاقا من أعمال المؤتمرات المتخصصة في حوار الحضارات والثقافات والمؤتمرات العلمية والتربوية …والتي تعنى بالبحث في موضوع القيم ،حيث يكاد يكون الإجماع في التوصيات والقرارات على أهمية إيلاء القيم المكانة اللائقة باعتبارها موجهة للتصورات، ومن تم التوجهات العملية للأفراد والجماعات [1]، ولذلك نجد أن كل المنظمات الدولية على اختلاف توجهاتها ومرجعياتها تركز على ضرورة ترسيخ القيم المركزية ،كالحرية والمساواة والإنصاف والتسامح والتعايش والكرامة وغيرها ، معتبرة أنها قيم إنسانية كونية لا خلاف حولها .
كما تكمن أهمية القيم و دراستها، في إبراز مكانتها ضمن اهتمامات المفكرين والفلاسفة والفقهاء وعلماء التربية المسلمين على مر التاريخ وأثر هذه الجهود في بناء المجتمع وصيانته خاصة في واقعنا المعاصر، والتدافع القيمي الحاصل في ظل غزارة وسائل التواصل والتثقيف والمعرفة والتنشئة الاجتماعية ، فالقيم [2] منطلق كل تغيير يرام إحداثه في أعماق النفس ، وأغوار الفكر ودوافع السلوك ، إذ من شأنها توجيه الإنسان في دروب الحياة وتصنع له اختياراته كلها ، وترسي عقيدته وأخلاقه ، بحيث تظل جميع إنجازاته محكومة بما تنطوي عليه من خطأ وصواب ، ومن حيوية وثبات أو عوج وقصور .
كما يشكل موضوع القيم مجالا خصبا وحساسا للنقاش في وقتنا الراهن، فهو مجال خصب باعتبار مركزيته[3] في بناء شخصية الفرد،ومن تم بناء المجتمع . فمن القيم السائدة لدى الأفراد يتشكل الضمير الجمعي للأمة، إذا صلحت القيم صلح الجسد كله وفي فسادها فساده.
لذلك، فالنقاش والكتابة والبحث في القيم ودراسة مجالاتها يحظى بالأهمية الكبيرة باعتبارها قوة دافعة للعطاء والعمل والإنتاج، تسهم في تكوين شخصية الفرد وتوجيهه داخل المجتمع محققة تماسكه وديناميته بتفاعل إيجابي لتحقيق التنمية والازدهار.
ويستمد حديثنا عن القيم أهميته أيضا من اعتبار الإنسان كائنا أخلاقيا، لأن العالم الذي يخلو من وجود الإنسان يتحول إلى عالم مغلق معتم لا يعرفه أحد، ولا يمكن أن يقال عنه شيء، كما أن القيم ينعدم تصور وجودها إلا في علاقتها به. إن الإنسان، هذا الكائن العاقل الغريب هو من أعاجيب الطبيعة ـ الأمر الذي لا جدال فيه أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش في مجتمع دون قيم تحكم سلوكه على المستوى الفردي والاجتماعي، بل وتحكم سلوكه إزاء الكائنات جميعا. [4]
من جهة أخرى فإن القيم تلعب دورا كبيرا في توجيه سلوك المواطن داخل وطنه، تشكل كيانه النفسي وترقى به إلى إصدار أحكام على كل الممارسات العملية التي يقوم بها داخل المجتمع بمسؤولية مواطنة تجعله قادرا على تقديم مصلحة المجتمع على مصلحته، وتغرس فيه روح التضحية ومحبة الغير لمصلحة مجتمعه ومثله العليا ومبادئه الثابتة ضمانا للحياة السليمة الطيبة المطمئنة.
من أجل ذلك يعتبر علماء التربية أن غرس القيم وإدراجها في المناهج التربوية، صمام أمان يضمن ضبط علاقة الفرد بخالقه ونفسه وأسرته ومجتمعه، لذلك، فجدير بالمجتمع ومؤسساته العامة والخاصة أن تتعاون على نشرها وتثبيتها في النفوس لتصبح جزءا أصيلا في سلوكهم وتعاملهم مع بعضهم البعض.
وقد جاء الإسلام برسالة القيم والأخلاق حتى صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق » [5] ولا غرو أن ربط الإسلام الأخلاق بالعقيدة ،فحصر رسالته في هذه المهمة الأخلاقية ، حتى نفى الإيمان عمن لا أمانة له ، وعمن بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع ، وعمن زنى أو سرق أو شرب الخمر ..وجعل من لوازم الإيمان : صلة الرحم ، وإكرام الجار ، وقول الخير : « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت»[6].
كما ربط الأخلاق بالعبادات[7] ، وجعلها من ثمراتها وفوائدها ، فإقامة الصلاة ( تنهى عن الفحشاء والمنكر )[8].
والزكاة: (تطهرهم وتزكيهم بها) [9] والصيام ( لعلكم تتقون ) [10] والحج لا ينال الله منه هدي ولا لحم ولا دم ( ولكن يناله التقوى منكم ) [11].
وإذا لم تؤت هذه العبادات أكلها في الأخلاق والسلوك فقد فقدت قيمتها عند الله: «رب قائم ليس له من قيامه إلا السهر، ورب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع»[12] «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» [13].
كما ربط الإسلام المعاملات بالأخلاق أيضا[14]، من الصدق والأمانة والعدل والإحسان والبر والصلة والرحمة
وربط الحياة كلها بالأخلاق، فلا انفصال بين العلم والأخلاق، ولا بين السياسة والأخلاق، ولا بين الاقتصاد والأخلاق، ولا بين الحرب والأخلاق، فالأخلاق لحمة الحياة الإسلامية وسداها.
ومثل الأخلاق: القيم، سواء أكانت قيما دينية ربانية، وعلى رأسها الإيمان بالله تعالى، وبرسالاته، وبالجزاء العادل في الآخرة، وما يثمره هذا الإيمان من قيم أخرى مثل حب الله تعالى والرجاء في رحمته، والخشية من عقابه، والتوكل عليه، والإخلاص له.
يقول الكاتب الإسلامي محمد قطب: ” لقد أحسست، بطبيعة الحال، أن في القرآن توجيهات تربوية كثيرة وأن لهذه التوجيهات أثر في النفس، وأن الإنسان حين يتدبرها ويتأثر بها يصبح سلوك معين وشعور معين هو أقرب إلى الصلاح والتقوى، ويصبح الإنسان أكثر شفافية وأكثر إنسانية “[15].
إن الإسلام باعتباره دينا وثقافة، يحمل منظومة متكاملة من القيم ذات أبعاد إنسانية وكونية تنطلق من رؤية فلسفية للكون والحياة والمصير، وتصاغ في الواقع نظريات وأفكارا ممتزجة بخبرات الناس وأساليبهم في تنزيلها إلى أرض الواقع، وتصاغ في شكل مسلكيات أخلاقية تحكم تربية الأجيال من أجل استمرارها وتفاعلها وتطورها واتساع تمثل الناس لها[16] ويتم التركيز في كل ذلك على الشباب وتكوينهم وتنمية كفاءاتهم وقدراتهم باعتبارهم حملة التغيير والتطوير والمدخل إلى كل ذلك بناء برامج ومناهج التعليم.
والمنهج التربوي الإسلامي حافل بالنصوص القرآنية والنبوية التي تدعو إلى القيم الإنسانية النبيلة كالصدق والأمانة والوفاء بالعهد واحترام الوقت والإخلاص والعدل والعفة والحق والشجاعة والاستقامة والفضيلة. وغيرها من القيم التي تنظم العلاقة بين الفرد وغيره، وتنظم الحاجيات والحقوق، وتوجه السلوك، قال تعالى: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا ، اعدلوا هو أقرب للتقوى ، واتقوا الله ، إن الله خبير بما تعملون )[17] ، وقوله تعالى : (إن الله يامركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها )[18] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن مسعود رضي الله عنه : « إنَّ الصِّدقَ يَهدي إلى البِرِّ وإنَّ البِرَّ يَهدي إلى الجنَّةِ وإنَّ الرَّجلَ ليصدقُ ويتحرَّى الصِّدقَ حتَّى يُكتبَ عندَ الله صدِّيقًا وإنَّ الكذبَ يَهدي إلى الفجورِ وإنَّ الفجورَ يَهدي إلى النَّارِ وإنَّ الرَّجُلَ ليَكذِبُ ويتحرَّى الكذِبَ حتَّى يُكتَبَ عندَ الله كذَّابًا »[19].
من جهة أخرى تتجلى أهمية القيم في ارتباطها بالتنمية، ــ وهذا هو مربط فرسنا ضمن هذه السلسلة من المقالات ـــ التي نقترب من تناول القيم في إطار دراسة وتحليل تقرير النموذج التنموي المغربي وعلاقته بها، منطلقين في ذلك من مقاربة التنمية في بعدها الحضاري، عبر ارتباط مؤشرات التقدم والتخلف بالقيم التي تحكم المسار الثقافي والاجتماعي والسياسي للمجتمع.
فلا يمكن لأي أمة تنشد البقاء الاستغناء عن التنمية المستدامة، ولا يمكن توجيه حركة التنمية دون منظومة قيمية، فالمشروع التنموي يسعى إلى خدمة حاجيات الأجيال الحاضرة والقادمة انطلاقا من أسس ومقومات، أبرزها: التنمية المالية والتنمية البشرية والتنمية البيئية، وهي لا تخرج عن مبادئ الإسلام ومقاصده، فقد أولى الإسلام اهتماما بالغا بالإنسان حتى جعله أكرم مخلوق، قال الله تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)[20]
وقد ذهب بعض المفكرين إلى أن غرض التنمية هو ترقية الإنسان والمحافظة على بيئته نظيفة طيبة، وإقامة مجتمع الرفاهية الإنسانية. إن من أهداف التنمية: تحقيق مستوى معين من التعليم والوعي ينعكس في السلوك الاجتماعي، وقيل: إن التنمية تهدف لسيادة قيم معينة في المجتمع. وثمار ذلك كله سيكون: الطمأنينة والاستقرار للأفراد الذين بدورهما سيؤديان للسلام الاجتماعي والرخاء الاقتصادي [21].
فالرفاهية والتعليم والتكوين والصحة وفرص العمل والاستمتاع بأوقات الفراغ … كل ذلك يهدف إلى تأهيل وتنمية الفرد المواطن ورفع قدراته وكفاءاته وتهيئة محيطه البيئي والاجتماعي الذي يمكنه من ممارسة واجب الاستخلاف في الأرض والمواطنة الحقة في المجتمع على الوجه الأكمل.
إن أخلاقيات التنمية في المشروع الإسلامي مرتبطة بما هو أبعد من تحقيق المصلحة الذاتية الفردية، إذ تعتبر العقيدة ورقابة الله تعالى، ومبدأ التقوى بوصلات موجهة لأي فعل اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي فيقاس النفع والضرر بمدى الاستجابة لأمر الله لا بالمصالح الذاتية والفردية والظرفية[22].
ويصبح مقياس حقوق الله وحقوق المكلفين (كما يقول علماء الأصول)[23] والتعارض بينهما قائم على درء المفاسد وجلب المصالح العامة، هو الموجه المتحكم. وبهذا تكون العقيدة الإسلامية كخلفية للقيم، عنصرا متحركا وليست إيمانا جامدا لا يتجاوز حدود القناعات الخاصة الداخلية غير المؤثرة في السلوك العملي، لذلك ورد في الأثر: «الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل»[24] .
وتشكل قيم نظرية التنمية الإسلامية إنسانية الإنسان، ودوره المتميز كخليفة لله في الأرض …فلا تنمية إلا بحفظ الكرامة الإنسانية، وذلك لا يتم إلا بالاستمساك بقيمة إسلامية أخرى وهي العدل (خاصة الاقتصادي والاجتماعي)، تضاف إلى ذلك قيمة ثالثة هي أن العمل والكسب الحلال شرف، وتساند ذلك قيمة رابعة هي الإحسان فيما يعمل، ويؤدي في جميع أوجه المجالات، أما ناتج هذه القيم (الكسب) فيعامل بقيمة أخرى هي التزكية والتطهير والإنفاق والتوجه بكل ذلك لله سبحانه وتعالى.[25] يتبع
الهوامش:
1 -د. خالد الصمدي، القيم الإسلامية في المنظومة التربوية، منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ـ إيسيسكو ـ 1429 هـ/ 2008 م
2 -ذ. عبد السلام الأحمر ـ واقع التربية على القيم في الإصلاح الجاري ـ مجلة الفرقان ـ العدد 60 ـ 1429 هـ / 2008 م ـ ص:9
3 -د. خالد الصمدي ـ التربية على القيم في مناهج التعليم وأثره في التنمية مقاربة معرفية منهجية ـ ص: 177 ـ ضمن مجلة الإحياء العدد: 34 و35، سؤال الأخلاق والقيم في عالمنا المعاصر، أعمال الندوة العلمية الدولية التي نظمتها الرابطة المحمدية للعلماء 1432 هـ / 2011 م
4 -ذ. محمد أولحاج ـ بيداغوجيا القيم ـ أسسها ومكوناتها ومرجعياتها الأساسية ـ منشورات صدى التضامن ص: 05.
5 -رواه ابن سعد في الطبقات والبخاري في الأدب المفرد، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في الشعب، ورمز له السيوطي بعلامة
الصحة، وذكره الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (2349)
6 – . متفق عليه عن أبي شريح وأبي هريرة. رواه ابن سعد في الطبقات والبخاري في الأدب المفرد، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في
الشعب، ورمز له السيوطي بعلامة الصحة، وذكره الألباني في صحيح الجامع الصغير (1. 65) وهو من أحاديث الأربعين النووية الشهيرة
7 – . د. يوسف القرضاوي، دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي، مكتبة وهبة، 1995 م. ص: 08.
8 – . سورة العنكبوت: الآية 45.
9 – . سورة التوبة: الآية 104.
10 -سورة البقرة: الآية: 182
11 -سورة الحج: الآية 35.
12 -رواه ابن ماجة عن أبي هريرة، وذكره في صحيح الجامع الصغير (3488) وعند الطبراني عن ابن عمر، وعند الحاكم والبيهقي في
السنن عن أبي هريرة (3490)
13 -رواه البخاري في كتاب الصوم عن أبي هريرة.
14 -د. يوسف القرضاوي، دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي. ص: 08.
15 -د. محمد قطب ـ منهاج التربية الإسلامية ج 2، دار الشروق 1993، الطبعة 14، ص: 7
16 – . د. خالد الصمدي ـ التربية على القيم في مناهج التعليم وأثرها في التنمية مقاربة معرفية منهجية ـ ضمن منشورات الرابطة المحمدية
للعلماء / سؤال الأخلاق والقيم في عالمنا المعاصر ـ أعمال الندوة العلمية الدولية بتاريخ 25 ـ 26 ـ 27 ماي 2011 بالدار البيضاء. ص: 22
17 – . سورة المائدة: الآية 09.
18 -سورة النساء: الآية 57.
19 -رواه البخاري في الصحيح ـ 6094
20 – . سورة الإسراء: الآية 70.
21 – . د. إبراهيم أحمد عمر ـ فلسفة التنمية رؤية إسلامية ـ ص: 15، منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي سنة 1981 م.
22 – . د. خالد الصمدي ـ التربية على القيم مرجع سابق. ص: 193 .
23 -المرجع نفسه ص: 194 .
24 -رواه ابن النجار والديلمي في سند الفردوس ـ من حديث أنس، ورمز له السيوطي في كتابه ـ الجامع ـ بعلامة الضعف.
25 -د. إبراهيم أحمد عمر ـ فلسفة التنمية رؤية إسلامية ـ ص: 33، منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي سنة 1981 م.