صدر حديثا للدكتور محمد أملال – عن معهد الشارقة للتراث بالإمارات العربية المتحدة– كتاب:
“الأدب الشعبي في شمال المغرب: دراسة للأمثال السائرة في شفشاون وربوعها” .
وفيما يأتي مقدمة الكتاب:
يُعد البحث في التراث الشعبي وفي الآداب الشعبية خاصة التفاتا مُنصفا، تقتضيه أهمية هذا التراث. فهو مستودع مقومات الشعوب ومكمن تفكيرها ومعتقداتها، وهو أيضا تعبيرٌ عميق وشفاف عن أصولها الحضارية والتاريخية وعن مخزونها الروحي والفني. ولعل هذا التراث لا يقل أهمية عن ما حبَّره العلماء، وعن ما حَوَته بطون الخزائن والمكتبات، في توضيح معالم كيان الأمة وملامح وحدتها وإبراز مقوماتها وقيمها، إن لم يكن أكثر منها عكسا لروحها القومية وذاتيتها الجماعية، وهو الجانب المُمثَّل في الآداب والفنون التي صدرت عن الشعب فردا وجماعة، متخذة وسيلتها في التعبير ألوانا من القول والكلام والنغم والإيقاع والحركة والإشارة…[1]
وانطلاقا من هذه الأهمية، فإن تناولنا لموضوع الأدب الشعبي في شمال المغرب وتحديدا في مدينة شفشاون وربوعها، يأتي استجابة لضرورة ملحة اقتضاها وعيُنا الأكيد بقيمة هذا الأدب؛ فهو عنصر مركزي ضمن المنظومة الفكرية والإبداعية التي تتشكل منها الهوية الحضارية لهذه المنطقة، وهو– بكل أشكاله وتجلياته– جزء من الذاكرة الحية التي تؤرخ للفئات المنسية، وتُعبر عن إبداعيتها التي صمدت في وجه الأزمنة وقاومت الاندراس. كما يأتي بحثنا لهذا الموضوع، تحقيقا لِوقفةٍ موضوعية ومنهجية توخت الإسهام في إنصاف هذا الأدب، الذي ظل لفترات طويلة محط ازدراء وتحقير، على أساس أنه نتاج بدائي للفلاحين وللطبقات المهمشة، رغم أنه– حقيقة– لا يقل قيمة وفنية عن الأدب الرسمي، وأنه كثيرا ما شكل رافدا له.
ونطمح في وقفتنا هذه، إلى إضافة حلقة من حلقات التعريف بالأدب الشعبي، استمراريةً للجهود التي اضطلع بها روادنا الذين قدروا هذا الأدب وخصوه بعنايتهم، وفي ذلك كله مساهمة في الربط بين الأدبين الرسمي والشعبي، وتجاوز للهوة الفاصلة بينهما. فضلا عن أن الخوض في هذه المغامرة العلمية هو بالنسبة لنا، استجابة لرغبة ذاتية صميمة، ارتبطت بما نرى في الأدب الشعبي من إغراء وجاذبية، جعلتنا نميل إليه ميلا غير قليل؛ فقد تملكنا الإعجاب الشديد بتراث شمال المغرب وبخصوبته وخصوصياته، لارتباطنا العميق بمنطقة جبالة وبثقافة الأهل والأجداد، التي كانت بالنسبة إلينا دائما محطَّ إثارة وتجاوب، مما أفضى إلى إدراكنا لأهمية هذا التراث وروعته وجماله، وإلى تحفيزنا إلى أن نتوغل فيه بشكل منهجي وعلمي دقيق عبر إعداد هذا البحث.
وفضلا عن هذه الدوافع، فإننا في حاجة– اليوم– إلى تثمين دور هذا التراث في ربط حاضر الأمة بتاريخها، وفي التعبير عن هويتنا وأصالتنا، خصوصا وأنه مكتنز بالحمولات الفكرية والقيمية والفنية التي تبرز معالم الكيان الحضاري للمجتمع؛ فالأدب الشعبي صورة للشخصية المحلية والوطنية والقومية، وهي بدون شك أوضح من الصورة التي يعكسها الأدب الرسمي المدرسي. كما أن البحث المتأني في الأدب الشعبي وأشكاله المتنوعة، لمن شأنه أن يمكننا من بناء مفهوم واضح ودقيق لهذا الأدب وللتراث الشعبي عموما، يبتعد عن ما التصق به من مدلولات القدح، ويُزكي الصحوة الواعية التي جعلته – في السنين الأخيرة – جديرا بالاحترام والتقدير والمدارسة.
وعندما نقصر دراستنا لهذا الأدب على منطقة محددة هي شفشاون وربوعها، فَلِرغبتنا في اكتشاف ما عبرت عنه الطبقات الشعبية في هذه المنطقة عبر العصور، عبر أشكالٍ طريفة أمسكت عنها المصادر وسكتت عنها النخبة المثقفة نتيجة هيمنة “الرسمي” وسيادته. وهو ما سيتيح لنا إمكانية الكشف عن علاقة هذه الفنون والأشكال بمناخها التاريخي والثقافي والاجتماعي الذي أفرزها، وسيسمح لنا– في الوقت نفسه- ِبناء تصور واضح عن خلجات ساكنة هذه المنطقة واهتماماتهم الروحية. إضافة إلى أنَّ من شأن دراسة الأدب الشعبي في هذه المنطقة أن يُبرز معالم البيئة المحلية وأصباغها وتأثيراتها، وهو ما يُسعف في ملامسة خصوصيات هذا الأدب المرتبطة بأبعاده المحلية والإقليمية والجهوية.
من هذا المنطلق، كان اختيار المهمة التي اضطلعنا بها خلال بحثنا، ألا وهي التعريف ببعض الأجناس والأنواع الأدبية الشعبية وتقريب مفاهيمها، انطلاقا من مجموعة من النصوص الرائجة في منطقة شفشاون وربوعها، مع التركيز على الأمثال الشعبية موضوع بحثنا الأساس، وذلك بالعمل على تصنيفها وتحليلها. فالعيطة الجبلية باعتبارها من فنون الشعر والغناء الشعبيين، والحكاية بمختلف أنواعها شعبية وخرافية وعجيبة ومرحة، والعروبيات، والأحاجي، والمثل الشعبي…إلخ، كلها أنواع أدبية شعبية تُميز المنطقة، ويظهر بعضها في الأدب الشعبي المغربي وحتى العالمي، ولكنها ولا شك أشكال تختلف عن بعضها اختلافا جوهريا، وإن كانت مرتبطة بوجدان شعب هذه المنطقة وصادرة عن الوعي واللاشعور الجمعي لأهاليها، وهو الأمر الذي يُكسبها صفة الشعبية. علما بأن مردَّ اختلاف هذه الأنواع هو كونها نابعة من مجالات اهتمام مختلفة، يحدد كل واحد منها شكل النوع ووسيلة التعبير فيه.[2]
وفي هذا السياق، آلينا على أنفسنا جمع الكثير من النصوص، وهو عمل ميداني لا يخفى ما يتطلبه من جهود شاقة، كما لايخفى أيضا ما قد يفرزه من نتائج علمية مطلوبة، ليكون هدف بحثنا هو الكشف عن غنى المنطقة تراثيا وفلكلوريا، وتأكيد احتضانها لمختلف الأجناس والأنواع الأدبية الشعبية، إضافة إلى الكشف عن الفرادة التي يتمتع بها المثل الشعبي السائر في المنطقة موضوعيا وجماليا، وعن أدواره ووظائفه في الحياة الروحية الشعبية. لذلك حرصنا على أن نُوفر نصوصا شفهية شعبية حمَّالة لقضايا كثيرة، وعاكسة للحياة الجماعية بكل مكوناتها، ومُجليَّة لمحطات عديدة من تاريخ المنطقة ولِقيم سكانها وخصوصياتهم. لكون هذه النصوص هي بالتأكيد جزء من ثقافتهم الشعبية، التي لابد من الانتباه إليها والاعتناء بها قبل فوات الأوان.
فَكَمْ من ذخائر شعبية رحلت مع حُفَّاظها، وكَمْ من مرَّةٍ سألنا عمنْ هُم أهلٌ للرواية والحكي، فنُخبَر بأنهم انتقلوا إلى رحمة ربهم، فاندفن معهم إرثٌ عظيم من تلكم التُّحف والدُّرر الحِسان، وأنَّ الباقين منهم أضرَّ الخَرَف بذاكراتهم وما ينبعث منها من أصوات الماضي. فبالتأكيد فقدنا ذاكراتٍ طافحَةً بالسرود الرائعة، والأمثال الحكيمة، وبالخبرات والتجارب والأسرار، وبالأخص الشيوخ حملة هذا التراث الثري ورعاته المحافظون عليه. وهو ما يجعل تراثا شعبيا هائلا مهددا بالضياع والاندثار، لاسيما وأنَّ الجهود المبذولة في هذا المجال تبقى دون المطلوب والمنشود، ولم تتجاوز محاولات معزولة لبعض المهتمين، في حين أن هذا المجال يتطلب فِرَقا للعمل الميداني، الذي يقتضي تخصيص الكثير من الوقت وإعداد كل الجهد والمال والخبرة العلمية، حتى يتم وفق خطة بحث مدروسة، وحسب منهج علمي دقيق يضمن سلامة النتائج. ومن هنا تكتسي الأبحاث والأطاريح الأكاديمية المشتغلة على الأدب الشعبي وأجناسه أهميتها الخاصة.
ولأن كل مغامرة بحثية لا تسلم من متاعب، فقد صادفْنا مجموعة من الصعوبات، بعضها مرتبط بمصادر الدراسة، وأغلبها يتصل بعمليتي الجمع والتصنيف. ففيما يتعلق بالمصادر التي تتصل مباشرة بموضوع البحث، فهي جد قليلة وأغلبها باللغة الإسبانية، ولا يتعدى ما هو منها بالعربية بضعة مجاميع ومقالات أسهمَ من خلالها ثلة من الرواد في لفت الانتباه إلى المثل الشعبي وأهميته وأدواره، ونخص بالذكر إسهامات كلّ من محمد بن عزوز حكيم ومحمد داود وعبد القادر زمامة… والواقع أن مجال الدراسات العلمية للمُتون الشعبية مازال حقلا بكرا في المغرب وفي معظم أقطار العالم العربي، وباستثناء بعض المحاولات المطبوعة بالقِلَّة والنزر، فإننا لا نقف- لحد الآن- على انكباب علمي موسع ودقيق، يروم جمع ودراسة مختلف أشكال الأدب الشعبي بالمغرب عامة وبمدينة شفشاون وربوعها خاصة. وهو ما حفزنا على الاهتمام بالجمع الميداني المباشر، وإلى أن نُوسع انفتاحنا على مختلف المصادر والمراجع والدراسات التي تناولت موضوعات الأدب الشعبي، عسانا نُفيدُ منها بعض ما قد يُساعدنا فيما نحن بصدده من دراسة لموضوع جديد.
على أننا ألفينا خلال هذه المهمة عدة صعوبات مرتبطة بعملية الجمع، يَتَّصلُ أبرزها بــــ”الشفهية” التي تُعد من المشاكل الرئيسة في الفنون القولية الشعبية؛ فالنص الشفهي مُتحوِّلٌ وغير ثابت جغرافيا، وقابل للتغيير والتحريف وأيضا للابتداع. كما أن استدعاءه رهين بقوة الذاكرة التي تختلف من راوٍ إلى آخر، وَرَهين أيضا بثقافة الرواة ومدى أصالتهم، وهو ما يُنتج اختلافا بين بعض الروايات وتعددا في صيغ بعض النصوص، مما أدّى بنا إلى أن نُقدم- في بعض الأحيان- أكثر من صيغة للمثل الواحد، حتى نَضع بذلك أمام القارئ بعض جوانب التغيير اللغوي الذي يرتبط في الغالب باختلاف المناطق ولهجاتها. مع أننا كُنّا– في عملية الجمع– نجنح دوما إلى المسنات والمسنين من ذوي التجارب الطويلة والخبرات العديدة، لأنهم أعرف من غيرهم بالأمثال الشعبية وأدرى بمقاصدها ومراميها، ولأنهم– كما ألمحَ إلى ذلك بعض روادنا- يتمتعون بسلامة الفطرة وصفاء الجِبِلَّة ونصاعة الطبع، فهم يروُون الأمثال على ما هي عليه في متونها الأصلية، دون تشدق أو اختلاق أو تحريف.[3]
وقد كُنا في لقاءاتنا الكثيرة مع هؤلاء الرواة حريصين على خلق المناسبات واصطناع المواقف، قصد تنشيط ذاكراتهم وتحفيز عملية الاستدعاء؛ فالمثل نصٌّ قصير مُسافر لا ينبعث من المخزون إلا بخلق المناسبة، ولهذا فاستدعاؤه أصعبُ من استحضار النصوص الشعبية الطويلة(الغنائية والحكائية) التي تسترجعها الذاكرة بسهولة ويُسر. كما أننا حرصنا على توسيع دائرة الجمع، ولم نقتصر على الجمع الفردي التقليدي، فعمدنا إلى أن نَشغل بعض أهلنا ومعارفنا وأصدقائنا بهذه النصوص، فضلا عن بعض تلامذتنا المُنحدرين من المناطق الجبلية، الواعين بقيمة تراث مناطقهم، والمتحمسين لِالتقاط بعض دُرَرِه القولية السائرة على ألسنة أهاليهم. وكان علينا بعد ذلك أن نُمحِّصَ ما نأخذ عنهم من نصوص ومعلومات ونُنسق فيما بينها، ونقارنها بما تَوفر لدينا من نصوص أخرى.
ولقد وَعينا منذ البداية بأنَّ عملية تصنيف الأمثال الشعبية تطرح صعوبات متعددة، يرتبط أغلبها بطبيعة النص المثلي وبِتعدد الاختيارات المتاحة في التصنيف؛ فالمثل وحدة فكرية مشبعة بالتفرد، غنية بمضامينها وأبعادها وجمالياتها وما إلى ذلك، وهو ما يُتيح إمكانية إخضاع المثل الواحد لعدة تصنيفات، كالتصنيف المعجمي والتصنيف اللغوي والتصنيف المكاني والتصنيف الموضوعي…إلخ
بيد أننا آثرنا من جهتنا، اعتماد التصنيف الموضوعي لفاعليته في إبراز إحدى أهم غايات بحثنا، وهي الكشف عن الدلالات الاجتماعية والحضارية للأمثال الشعبية، وكذا عن بعض أبعادها التاريخية والقيمية. لكن تعدد هذه الدلالات صعَّب محاولتنا التصنيفية، وحَفَزَّنا في نفس الوقت، على الاجتهاد في اقتراح موضوعات وعناوين ملائمة تتفق مع رؤيتنا الخاصة، وتُساير هوى النصوص واتجاهاتها. وهي الأمور التي سنفصل فيها القول في بداية الفصل الخاص بالتصنيف.
وكما أشرنا آنفا، لم يتأَتَّ لنا الوقوف على عدد من الدراسات السابقة حول الموروث الشعبي بمدينة شفشاون وربوعها تشفي الغليل، إذ أننا لم نعثر سوى على دراسة تاريخية مباشرة- صدرت مؤخرا- موسومة بِــــ“قبائل غمارة قراءة في المجال والتراث” لصاحبها د. معاذ البكوري،[4] التي لم تلتفت لتراث “غمارة” إلا في مبحثٍ واحد من فصلها الثالث والأخير، عَرَّفَ بِبعض ملامح الثقافة الشفوية بهذه المنطقة، بِعرض بعض الأمثال الشعبية التي تتضمن انعكاسا للتصورات العامة السائدة.
ولكن أمكننا في هذا السياق، أن نقف على منجَزات توثيقية لِثُلَّةٍ من الرواد الذين اهتموا بجمع وترتيب ذخائر مهمة من أمثال شمال المغرب، ونخص بالذكر مجموع الأمثال الذي نشره معهد الدراسات الإفريقية بمدريد سنة 1954 لصاحبه محمد بن عزوز حكيم، المعنون بـِ“مجموع أمثال مغربية”(REFRANERO MARROQUI) الذي اطلعنا على جزئه الأول الذي يضم ألف مثل مرتبة ألفبائيا[5]، وبحث المؤرخ محمد داود “ألف مثل ومثل من أمثال تطوان” الذي نُشر في مجلة البحث العلمي،[6] وكتابه “الأمثال العامية في تطوان والبلاد العربية” الذي صدر جزؤه الأول في أواخر التسعينيات.[7]
ويمكن أن نشير في هذا الجانب أيضا، إلى بعض المحاولات التي بُذلت- في فترة الحماية- من طرف بعض الأجانب، أو بالتعاون بينهم وبين بعض الباحثين المغاربة، ومن ذلك، الكتاب الذي نشره المستعرب الإسباني “خِنيس بِيرِكرين بِرِيكرين”(Ginés Peregrin – Perigrin) بتطوان سنة 1947، الموسوم بــِـ“الأمثال المغربية: باقة من الأمثال العامية” (Paremiologia Marroqui – Florilegio del Refrano Vulgar )[8] وهو يشتمل على قسمين يضمان مجموعة من الأمثال، أدرجها المؤلف بعامية شمال المغرب، مُرتبة حسب الحرف الأول. ثم الكتاب الذي أشار إليه الأستاذ محمد داود، الذي ألفه الفينلاندي “إدوارد وسترمارك”(Edwar Westermarck) بتعاون مع الأستاذ عبد السلام البقالي، حول الأمثال المتداولة في مدينة طنجة وقبيلة أنجرة والنواحي القريبة منهما.[9]
كما نُصادف أعمالا مبكرة أخرى، همَّت جمع وتبويب بعض متون القصص الشعبي لمنطقة شمال المغرب، وأبرزها “حكايات شعبية ليهود شمال المغرب” لِــــ“أَركاديو دي لاريا بالاسين“Arcadio De Larrea Palacin) ).[10] و“من أجل الوردة الحمراء سال دمي”[11]، وهي حكايات باللغة الإسبانية، جمعها “رودولفو خيل” “Gil Rodolfo“ ومحمد بن عزوز حكيم في منطقتي “جبالة” و”غمارة” بشمال المغرب. وسوف نتوسع لاحقا في التعريف بهذه الكتابات عند حديثنا عن واقع الأدب الشعبي في المغرب، وعن اهتمام المغاربة بالمثل الشعبي.
ورغم أن هذه الكتابات لم تتعدَّ أدوار الجمع والترتيب والتعريف الأولي بالنصوص، فإنها لفتت الانتباه إلى غنى التراث الشعبي لمنطقة شمال المغرب، في مرحلة كان فيها هذا التراث يعاني التهميش والإقصاء، أي أنها شكلت لبنات الاهتمام الأولى بالأشكال الأدبية الشعبية للمنطقة، ووفرت زادا خامّا مُهما يمكن الإفادة منه، وإخضاعه للتمحيص وللتناول المنهجي المناسب.
ونشير فيما يخص الأدوات المنهجية المقترحة لبحثِ الموضوع، إلى أنه لم يكن من اليسير أن نختار منهجا ملائما، يستوعب خصوصيات المادة المدروسة، خصوصا وأنَّ أشكال الأدب الشعبي تُتيح مادةً ثريَّةً للبحث من منظورات منهجية متعددة ولغايات مختلفة. وهو الأمر الذي استوجب مِنّا تأملا دقيقا، لحسم نوع الإحاطة المنهجية التي تمكننا من دراسة الأدب الشعبي في شفشاون وربوعها، وخاصة الأمثال الشعبية السائرة في المنطقة، وفق غايات بحثنا التي عبَّرنا عنها سابقا، وَوفق الإطار والمنظور الأكثر مراعاة لموضوعات النصوص وجمالياتها.
غير أننا وقفنا حائرين أمام التهافت الملحوظ في مجال المناهج المتوسل بها في الحركة النقدية المعاصرة، حيث يتم– في أحايين كثيرة- تلقف المناهج والنظريات النقدية الجديدة، من بنيويات، وسيميائيات، ولسانيات وغيرها، حتى وإن لم تكن هناك ضرورات تُسوِّغ مثل هذا التلقف. في حين أننا نعتقد أننا مطالبون بتجاوز الوقوف- فقط- عند استيعاب آليات المنهج والانبهار بجاذبيته النظرية، وبِتفادي الارتباك الحاصل في تطبيق هذا المنهج أو ذاك، مع ضرورة التركيز على قيمة مردوديته المحصَّلة، ونجاعته في تمكيننا من استجلاء خصوصيات الأشكال التعبيرية الشعبية، ورصد التشكلات المختلفة التي تصنع طرافة النصوص وتبني عوالمها، دون إغفال الحاجة إلى فهم سيرورتها التاريخية وسياقاتها السوسيوثقافية.
وإذا كانت طبيعة الإشكالات البحثية هي التي تتحكم– عادةً- في اختيار المناهج والمقاربات النقدية الملائمة، فإن النصوص– في حالات كثيرة- هي التي ترشح منهجَ دراستها، حيث اقتضت نتائج الجمع الميداني وما توفر لنا من نصوص، أن نستند إلى مناهج مختلفة وإلى مرجعيات نقدية متعددة تستوعب معظم قضايا هذه النصوص وتكشف عن أبرز خصوصياتها التاريخية والموضوعية والفنية. ولذلك ارتأينا أن تكون دراستنا تصنيفية تحليلية، تروم في المقام الأول التعريف بالأمثال الشعبية السائرة في المنطقة تصنيفا وتحليلا(لغويا وبلاغيا)، وهو الأمر الذي دفعنا إلى تصنيف هذه الآثار الأدبية الشعبية تبعا للمجالات والحقول المختلفة التي تهيمن عليها، وتكشف عن أبرز موضوعاتها، فضلا عن أننا عمدنا إلى تحليل الجوانب اللغوية لهذه النصوص، وإلى الاهتمام بجمالياتها وبجوانبها الفنية والتركيبية. دون أن نغفل أنَّ عملنا انفتح– بشكل تلقائي وطبيعي– على ما تُتيحه وظائف المنهجين التاريخي والاجتماعي، من خلال الكشف عن المؤثرات والعوامل التي أدت دورا في تشكيل بعض هذه النصوص الشعبية وأسهمت في تطورها، ومن خلال الإشارة إلى ظروف المجتمع المحلي وطبيعة العلاقات والنُّظم الاجتماعية السائدة فيه، والتي يظهر صداها في النصوص، باعتبارها تُمثلُ انعكاسا مباشرا لأساليب حياة الجماعة وتفكيرها.
ونشير إلى أننا كنا حريصين على أن لا تَجرنا هذه الجوانب التاريخية والاجتماعية وغيرها، مما تنوء به هذه النصوص، إلى تشعبات أخرى لا يتسع لها سياق بحثنا. بقدر ما كنا حريصين أيضا على أن يقوم هذا البحث على توجه حجاجي واضح المعالم، من خلال توسلنا بجملة من الآليات النقدية كالاستقراء والمقارنة والتمثيل والاستشهاد…
وبالفعل، فقد أمكننا بفضل تعدد مرجعيات هذا التناول المنهجي، أن نحدد موضوعات ومجالات النصوص المدروسة ومدى تعبيرها عن وجدان الأفراد والجماعات وعن معتقداتهم، فضلا عن نوعية دوافعها ومكامن فرادتها اللغوية والجمالية. وهذا ما أوضح التشكلات المختلفة التي تستند إليها الأمثال الشعبية لبناء عوالمها المدهشة، وسمح لنا بممارسة قراءة منفتحة لهذه الإبداعات الشعبية، تُمَكن من استشفاف سُبلها في التعبير عن مظاهر الحياة المختلفة، وفي الاضطلاع بمهماتها القيمية والتربوية والحجاجية. وفي تقديرنا، أن هذا الخيار المنهجي هو الأنسب لمساءلة نماذج من الإبداعية الشعبية، وهو القمين بوضعنا أمام تصور منسجم ومتكامل للموضوع.
وبعد كل ما تقدم ذكره، وبناءً على طبيعة المادة التي توفرت لنا، وعلى غايتنا من دراستها، واستنادا إلى تلك الخطوات المنهجية الموصوفة، فقد أمكننا تعيين المحاور الكبرى لهذا العمل، وهي تضم مدخلا عاما وأربعة فصول وخاتمة حاملة لنتائج البحث. وفيما يلي نورد تفصيلا مركزا لهذه المحاور:
ــ المدخل: وقد خصصناه للتعريف بمجال البحث وبيئته، وللكشف عن غناه وتنوعه التراثيين، وعما يُميزه من مؤثرات اجتماعية ومظاهر إثنوغرافية وفرجوية وما أشبه.
ــ الفصل الأول: وفيه حاولنا الإسهام في التحديد المفهومي للأدب الشعبي، ومناقشة بعض إشكالاته المرتبطة بماهيته وأشكاله وخصائصه… مع تناول واقع هذا الأدب في المغرب، ومدى تنوعه في شفشاون وربوعها.
ــ الفصل الثاني: انكببنا فيه على جنس المثل، باعتباره مدار البحث الأساس، فوقفنا فيه عند مكانة المثل “الفصيح” وقيمته في التراث العربي، وحدود المثل “الشعبي” وأهميته في الثقافة العربية والمغربية تحديدا.
ــ الفصل الثالث: وفيه طمحنا إلى تصنيف نماذج من الأمثال الشعبية السائرة في شفشاون وربوعها، تصنيفا موضوعيا يكشف اتجاهاتها وأغراضها المتعددة…
ــ الفصل الرابع: وفيه تم تحليل جماليات المثل الشعبي بمنطقة شفشاون وربوعها(لغة وبلاغة).
[1] الدكتور عباس الجراري، القصيدة: الزجل في المغرب، مطبعة الأمنية، الرباط، 1970، ص. 2.
[2] د. نبيلة إبراهيم، أشكال التعبير في الأدب الشعبي، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، ص. 4.
[3] الحسين بن علي بن عبد الله، قصص وأمثال من المغرب، الجزء الأول من ” أ – خ ” دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الطبعة الثانية، 2014، المقدمة، ص. رمز : ي.
[4] د. معاذ البكوري، قبائل غمارة قراءة في المجال والتراث (دراسة تاريخية)، دار “إي – كتب”، ط. 1، لندن، كانون الأول– ديسمبر، 2017.
[5] MOHAMMAD IBN AZZUZ HAQUIM, REFRANERO MARROQUI, TOMO 1, INSTITUTO DE ESTUDIOS AFRICANOS, MADRID, 1954.
[6] محمد داود، ألف مثل ومثل من أمثال تطوان، مجلة البحث العلمي الصادرة بالرباط، ع.2 من السنة الأولى، بتاريخ ذي الحجة – ربيع الأول 1384هـ/ ماي – غشت 1964م.
[7] محمد داود، الأمثال العامية في تطوان والبلاد العربية، مراجعة وتنسيق وإضافات حسناء محمد داود، ج.1(المقدمات والأمثال المجردة) إصدارات المجموعة الحضرية بتطوان، مطبعة الهداية بتطوان، 1999.
[8] Ginés Peregrin – Peregrin, Paremiologia Marroqui – Florilegio del Refrano Vulgar. – Imprenta Cremades – 1947(Tetuan).
[9] طبع الكتاب بلندن سنة 1930، وفيه من الأمثال وما يلحق بها ألفان وثلاثة عشر(2013)، انظر: محمد داود، الأمثال العامية في تطوان والبلاد العربية، ج. 1، مرجع سابق، ص. 17.
– De Larrea Palacin Arcadio, Cuentos populares de los judios del norte de Marruecos, Tomo1, Instituto General Franco de estudios e investigaciones Hispano-Arabe, Editora marroqui, Tetuan, 1952.
– De Larrea Palacin Arcadio, Cuentos populares de los judios del norte de Marruecos, Tomo2, Instituto General Franco de estudios e investigaciones Hispano-Arabe, Editora marroqui, Tetuan, 1953.
– RODOLFO GIL – MUHAMMAD IBN AZZUZ, Que por la rosa roja corrio mi sangre, Instituto Hispano-Arabe de cultura, Madrid, 1977.
د. محمد أملال