«إذا قبلت الموت في حياتي واعترفت به وواجهته مباشرة، سأحرر نفسي من قلق الموت وحقارة الحياة، وحينها فقط سأكون حرا في أن أصبح ذاتي.”
* هيدغر
«لكن، ما يبقى ويدوم، يؤسسه الشعراء»
*هولدرلين
لا يمكننا الحديث عن الموت، في الأدب، دون أن نتطرق لمفهوم الوجود عند هيدغر. فرغم العمق، والخلفية، الفلسفيتين للطرح الهيدغري، فإن فهمه للقضية يظل لصيقا بما نحن بصدد الحديث عنه. فقد طرح القضية في صيغة سؤال، في محاضرته التي ألقاها سنة 1955 بمقاطعة النورمادي متسائلا: بأي معيار يمكن للفلسفة أن تكون معيارا للسؤال؟ وهو ما يعني ما معنى الموجود من حيث هو كائن؟
في كتابه الشهير “الوجود والزمان” حاول أن يقارب الوجود ذاته، من منطلق الفينومينولوجيا. إذ إن الكائن الإنساني ليس ذات عارفة أو منعزلة التي يمكنهاأن تدرك وجودا أو لاتدركه، بل إنما يميز الإنسان هو كونه كائن يدرك العالم من خلال خبراته المباشرة. ومن ثم فإن الإنسان على خلاف الحيوان، وحده يمكنه أن يدركه وجوده الذي يتميز بالوعي. ومن ثم فإن وجده يتساوى مع ماهية وجوده، أي إنه يعي كينونته وهو ما يعني انفتاحه على اكتشاف الوجود.
وتبدأ عملية فهم الوجود من فهم الكائن/الموجود الإنساني ضمن “تمرحله الزمني”، الأمر الذي سيؤدي إلى الكشف عن الكينونة من حيث هي أنطولوجيا الكائن الإنساني. وهيدغر، في هذا، يوظف مفهوم “الدازين” الذي هو عبارة عن مصطلح مركب من كلمتي “الكائن هناك” (أو الموجود هناك) ما يعني أن الكينونة صيرورة تدل على الوجود الإنساني في العالم. وعليه، فإن الإنسان يولد ناضجا للموت، ويبدأ مساره في اتجاه الموت منذ ولادته، والإنسان له زمنه الخاص في الكينونة التي تتحدد كحضور في الزمن، وحركة في اتجاه الموت.
يشكل “الموت” قطب رحى الذات، من حيث هو المستوى الاعلائقي من الدازين الذي لا يكون في متناول الآخر، أو بعبارة هيدغر “الإمكان اللاعلائقي الأكثر خصوصية”، لأن الموت ليس مجرد حدث يحدث في نهاية الدازاين، وإنما هو بمثابة “النضج” بالنسبة للثمرة. والموت -حسب هيدغر- «أبرز الأحداث الوشيكة”، فما أن نولد حتى نكون ناضجين بما يكفي لكي نرحل. وهو ما يطلق عليه “الوجود نحو الموت”. وهذا ما يعطي “الوجود نحو الموت” إمكانية الإعلان عن “ذاتية” الدازاين (أنانته). ويضيف قائلا إن “الكينونة نحو الموت في جوهرها هي القلق”.
ومادام أن السؤال حول الكينونة لا يتحقق إلا بعد تأويل أصيل للسائل الذي هو الدازاين ذاته، فإن هذا الأخير (الدازاين) هو في ماهيته “عناية” تدور حول إمكانية الكينونة في العالم.
الموت هو نهاية المواقف – القصوى، وهو حدث يحرض على التفكير في الذات والآخر. فما هو الموت، مادام أنه نهاية لاتقبل التأجيل؟ ورد في الفقرة (50) من “الكينونة والزمان” أن “النهاية تحدق بالدازاين.. (والموت هو) ما يوشك أن يكون”، وهذه الـ”يوشك” المرتبطة بالموت تختلف عن مايوشك اليومي، فالقول أننا «على وشك الوصول إذا اقتربنا من الموقع» لا يشبه وضوكية الموت، لأنه يوشك دون تحديد متى سيحدث. «إن موته هو إمكانية كونه يمكن ألا يكون هناك مرة أخرى». ومن ثم فإن الموت الخاص بكل فرد هو أقصى الإمكان الذي يتعذر تجاوزه؛ إنه الوشوك الذي يطارد الكائن بما هو ذاهب نحو موته، وما أحسن من القلق الوجودي في تحريض الذات على الاعتناء بموتها. هذا ما يجعل الموت خبرا في الحياة اليومية، ومجرد أحداث على مدار اليوم، ويصبح في التوصيف اليومي مجرد إشاعة، وبين هذه المعاني يصير الموت “حدثا معروفا يحدث داخل العالم.” يقينية الموت تأتي من كونه ممكن في أي لحظة دون أن يتم تحديد “متى” كما أنه خاص بكل فرد دون آخر سواه.
“ضمن الكينونة -معا- الواحد- و ـ الآخر ثمة ضرب من الطمأنينة لمراوغة الموت: ها هو المشرف على الموت الذي يرقد في المشفى، يجتمع من حوله الناس، محاولين إقناعه وطمأنته بأنه سيعود إلى يوميته، إلا أن هذه المواساة لا تواسي سواهم (الناس)، وكأن المشرف على الموت يفصل بينهم وبين موتهم، وإذا ما مات سيقومون بإكرامه في شعائر الدفن؛ كل تلك الطقوس هي طمأنة للأحياء، فحين يموت أحدهم لا نكون سوى بجواره ولا أكثر من ذلك. بالنسبة إلى هيدغر الموت لا يكون في كل مرج إلا خصا؛ الذي يموت هو الأنا نفسي أما الناس فهم على الأغلب يفارقون الحياة. مزاج الناس اليومي حول الموت هو الخوف، أما القلق فهو وجدان (مزاج) ينبث من أننا كائنات ملقى بها في اتجاه موتها ”إن الهُم يمنع شجاعة القلق أمام الموت من البروز.”
من شروط النضج لدى الكائن الإنساني هو قبوله للموت، وليس معناه الاستسلام بقدر ما يعني أن يفهم معنى الموت كجزء من حياته؛ أي يصير للموت مكانا في حياته، لأن الموت، بهذا المعنى، سيكسب الوجود الإنسانية نوعا من الجدية؛ لأن الموت يعطي جدية لمعنى الوجود الإنساني. الموت بمثابة تذكير بنسبة الإمكانية، وهو ليس مجرد قضية/مشكلة بل إنه سر. “أما السر فهو شيء يلتبس بنا، ويغلف بغموضه صميم وجودنا، فلا نملك أن ننظر إليه من الخارج، لأننا مرتبطون به ومندمجون فيه. وبهذا المعنى يمكن القول إن الموت سر لا يكاد ينفصل عن جوهر وجودنا، مادام أن وجودنا زمنيا متناهيا يسير في اتجاه الفناء -كما أسلفنا- وهو أيضا حدث مجهول يضعنا في مواجهة الآخر الذي لا تفسير له سوى أنه غير قابل للتفسير.
جماع ذلك يقودنا إلى القول أن الموت -في تصور هيدغر- ظاهرة يجب فهمها وجوديا، وهي ليست حدثا طارئا على الحياة بل إنها جزء منها، لأن الحي يحمل معه الموت، ويقول هيدغر «إن هذا الوجود هو بطبعه وجود لفناء أو وجود للموت. فبمجرد أن يولد الإنسان يكون ناضجا للموت» أي إن وجود الإنسان هو وجود نحو الموت الذي كعه «يقف الوجود الإنساني أمام ذاته في إمكانيته»، ومن هنا يأتي التساؤل حول ماذا يمكن للفرد أن يفعل بوجوده وهو متجه إلى الموت؟
يدعو هيدغر إلى الاستجابة لنداء الكينونة، وهو ما يتطلب استجابة من الإنسان أن يكون متيقظا للمقدس والأسطوري في أعماقه لتخلص من العراقيل والأزمات التي تواجه الفرد في حياته المشوبة بالتفاهة والابتذال، حيث يصبح العالم مشحونا برؤى شعرية تستمد وجودها من الحياة البدائية ولغتها التي تتوسل الآلهة، وهذا ما جعله متعلقا بشعر هولدرلين الذي امتازت نصوصه بلغة ضاربة في الأساطير. فأن تكون شاعراً – بالنسبة لهايدغر- “في زمن بائس يعني: الانتباه، والغناء، إلى أثر الآلهة الهاربة “. والشعر هو تأسيس ”للوجود” عن طريق اللغة، وفيه يتمركز الإنسان حول آنيته فيتحقق الهدوء اللانهائي الذي تنشط فيه الطاقات والعلاقات لأن «الشاعر وحده قادر على إدراك أو استشعار الوجود الماهوي الحقيقي للإنسان” وبهذا خلص إلى القول «ليس الشعر ارتفاعا بالكلام الجاري. لنعكس الآية. إنه بالأحرى الكلام الجاري هو الذي ليس إلا قصيدة تُنُوسيت وأنهكها الاستعمال، فبالكاد يتمكن من أن يصدر عنها نداء».
د. خالد سليكي