- أمام الإنجاز العلمي الباهر بكل المقاييس الذي دخلتم به صرح البحث العلمي النافع من أشرف أبوابه، نود منكم – بداية – التفضل بإعطاء قراء جريدة “الشمال” نبذة عن أبرز محطات مسيرتكم العلمية.
أشكر جريدة “الشمال” على استضافتي وعلى إتاحة الفرصة لتسليط الضوء على مسيرة حفتها عناية الله تعالى الذي هيأ لي نخبة من الأساتذة الأجلاء ذوي العلم والثقافة والخلق والفضل الكبير الذين تتلمذت على أيديهم وما أزال، والذين أحاطوني برعاية علمية فائقة ولمسة إنسانية كريمة. حبب الله تعالى إلي القراءة وتربيت على تقدير العمل والاجتهاد والسبق للخير. أخذت عن معلمين عظماء في مدرسة “سيدي علي بركة” الابتدائية، وثانوية “جابر بن حيان”، ثم في كلية العلوم بتطوان، حيث حصلت على الإجازة والماجستير في الجيولوجيا. أخي وصديقي الدكتور الجليل محجوب حمي كان عونا ومرشدا لمتابعة دراستي في إسبانيا وحصولي على منح تفوق دولية. هناك التحقت بجامعة إشبيلية، حيث حصلت على شهادة ماجستير في علوم المياه من المدرسة العليا متعددة التقنيات، ثم تابعت دراستي في جامعة برشلونة، حيث حصلت على ماجستير ثم على دكتوراه في تخصص الخرائط ودراسة المخاطر من كلية علوم الأرض. موازاة مع ذلك درست للحصول على دكتوراه ثانية في الجيولوجيا تخصص علوم المياه من كلية العلوم بتطوان.
كنت باحثا في جامعة برشلونة عندما قدم والدي وصهري ترشيحي لمباراة أستاذ جامعي في تخصص الخرائط فأطعتهما واجتزت المباراة بنجاح لألتحق بشعبة الجغرافيا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية. هناك، أخذت على أيدي علماء أفذاذ مثل الدكتور الجليل نور الدين الشيخي والدكتور النبيل مصطفى الهرار العمراني رحمه الله، اللذين هم مثال لغزارة العطاء والكفاءة العلمية والأخلاقية التي أغنت مهاراتي التقنية وأخرجت إدراكي المحدود للقضايا المائية والبيئية لأفق أكثر شمولية وتنوعا يشمل مختلف العوامل الطبيعية والبشرية والتدبيرية والسلوكية المتداخلة مستندا على تجارب عديدة ومتنوعة رسخت إيماني أن التكوين متعدد التخصص والعمل الجماعي بين الباحثين من مختلف الثقافات هو مفتاح النجاح الحقيقي.
من هذا المنطلق، أسهمت في عشرات الأبحاث الدولية الممولة ضمن برامج تنافسية لدعم البحث العلمي، حيث قدمت عشرات المقالات العلمية في أرقى المجلات المتخصصة حول رؤى مبتكرة للتحديات المناخية والبيئية والتنموية التي تواجه منطقتنا والعالم. وقد أكرم الله تعالى هذه الجهود بعدد من الألقاب والجوائز العلمية ومنح التميز الدولية التي ساعدتني على تمثيل وطني بفاعلية كخبير معتمد لدى مؤسسات دولية عديدة (هيئات الدعم العلمي للاتحاد الأوروبي وكندا والاتحاد من أجل المتوسط والهيئة الأممية للمناخ مثلا) وكباحث مشارك مع مؤسسات كبرى (اتحاد الجامعات المتوسطية ووكالة الفضاء الأمريكية ناسا).
- تتويجكم بلقب ” أفضل عالم عربي في عام 2024 “، هو اعتراف صريح، وشهادة حية بإخلاصكم لرسالة البحث العلمي.
حدثونا عن الجهود التي بذلتموها حتى حققتم هذا الإنجاز العلمي النافع للبشرية قاطبة. وعن العوامل الذاتية والموضوعية التي أسعفتكم في تحقيقه.
التتويج في نظري يتجاوز الاعتراف الشخصي، بل هو تقدير لعمل جماعي جاد ومتواصل لفريق من الزملاء والباحثين المجتهدين الوطنيين والأجانب. تشرفت منذ سنوات بقيادة جهود بحثية مكثفة أثمرت إنتاجًا علميًا يركز على قضايا ذات أهمية استراتيجية تتعلق بالأمن المائي والصمود في مواجهة المخاطر المتصاعدة نتيجة للتغيرات المناخية المتسارعة. وبفضل التعاون الوثيق استطعنا تقديم تشخيص دقيق لأنماط التغيرات المناخية وتأثيراتها البيئية على مدى عقود من الزمن. هذا التشخيص وضع أساسًا متينًا لاستشراف سياسات التأقلم والصمود، وساهم في بناء نماذج علمية متقدمة تتيح توقع تطور الموارد المائية والبيئية حتى عام 2100. وقد أظهرت هذه الدراسات نتائج مقلقة، منها تراجع كبير متوقع في المخزون المائي بكامل المنطقة العربية. فعلى سبيل المثال، تشير توقعاتنا في المغرب إلى انخفاض محتمل للمخزون المائي بحوالي 7 مليارات متر مكعب بحلول عام 2080، أي ما يعادل ضعف حمولة سد الوحدة، مما قد يؤدي إلى الإضرار بالإنتاج الزراعي وبالتالي إلى انكماش الاقتصاد الوطني وتراجع الناتج الداخلي الخام بنسبة قد تصل إلى 17٪. هذه المعرفة المضبوطة والمفصلة تساعد على اتخاذ خطط استراتيجية واعية وحكيمة تسطر الأولويات الكفيلة بتجاوز الأزمة المنتظرة دون الإضرار بالأمن المائي والغذائي ولا بالاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
فيما يتعلق بمخاطر تعرية التربة والفيضانات المفاجئة، كشفت أبحاثنا عن العلاقة المباشرة بين تسارع ارتفاع درجات الحرارة في المنطقة المتوسطية وتسخين مياه البحر الأبيض المتوسط. هذا يؤدي إلى تكوّن سحب مشبعة بشكل مفرط في بدايات فصل الخريف، مما يرفع من وتيرة وحدة الأمطار الغزيرة المركزة التي تتسبب في فيضانات كارثية محمّلة بكميات هائلة من الأتربة. هذه الظواهر تزيد من حجم الدمار والخسائر البشرية والمادية، كما شهدنا في كارثتي درنة بليبيا في عام 2023 وفالنسيا بإسبانيا في عام 2024. في هذا الصدد، استطعنا تحديد كافة المواقع ذات الخطورة الكبيرة ببلدان شمال إفريقيا لتوجيه الجهود نحو حماية استباقية تتسم بالنجاعة والحكامة. كما أننا وضعنا أسسًا علمية لتطوير سياسات أكثر كفاءة لتدبير المخاطر الطبيعية والتغيرات المناخية، مما يمكّن من تقليل الخسائر وبناء أنظمة صمود أكثر فاعلية.
من منظور تكاملي، أظهرت أبحاثنا كذلك الجوانب النفسية والاجتماعية للكوارث الهيدرومناخية (كالفيضان والجفاف مثلا)، حيث تتجاوز تأثيراتها الأضرار المادية. فوجدنا أن إدراك السكان للمخاطر يختلف تبعًا لعوامل مثل النوع الاجتماعي، ومستوى التعليم، والدخل، والوعي العام. وكشفت دراساتنا عن أهمية الإدراك النفسي في تشكيل الاستجابات الاجتماعية لتبني استراتيجيات أفضل للتكيف والمواجهة. حيث نؤكد أن الحلول الهندسية وحدها لا تكفي، بل تتطلب مواجهة الكوارث تعزيز الفهم النفسي والاجتماعي من خلال ثقافة مجتمعية وتعليمية مستدامة تهدف لخلق ممارسة سلوكية موجهة لتحسين استجابات المجتمعات وزيادة مرونتها أمام هذه الكوارث.
- نيلكم جوائز دولية سنوية رغم ضعف الميزانيات المرصودة للبحث العلمي في العالم العربي يعود بنا إلى طرح سؤال حول ما ينبغي فعله لتنشيط البحث العلمي في بلادنا حتى يكون حقا مساهما فعالا في التنمية.
ماذا تقترحون في موضوع تمويل مشاريع البحث العلمي في جامعاتنا؟
على مر التاريخ، المجتمعات التي حققت حضارة مزدهرة متواصلة هي التي أدركت أن البحث العلمي ليس رفاهية، بل هو استثمار استراتيجي لضمان استمرارية السيادة والنماء. أثر العلم نجده في كل أمور الحياة، من أبسط مستلزمات العيش إلى أعقد خطط الدول. وقيمة بحثنا العلمي وابتكارنا التقني والمعرفي تحدد مدى قدرتنا على استثمار مؤهلاتنا ومواردنا ودرجة النماء والتأثير الذي نستطيع تحقيقه وبالتالي المكانة التي نتبوؤها بين الأمم.
في ظل المؤشرات العالمية التي تضع جامعاتنا في مراتب متأخرة في مجال البحث العلمي على الرغم من النقط الفردية المضيئة، من الأمانة أن نقدم تشخيصا صادقا للأسباب، وسأعرضه من منطلق تجربتي المتواضعة. أعتقد أن ربح رهان التنافس العلمي يتحقق بثلاثة شروط هي الكفاءة والمهنية والأمانة. الارتقاء في سلم التأثير العالمي يتحقق عندما تنهض المنظومة كلها بمسؤوليتها وفق هذه الشروط وأي اختلال فردي مؤثر على أحد هذه الشروط ضمن سلسلة القيادة يؤدي إلى تعطيل المجهود الجماعي ويدفع الكفؤ إلى الاعتصام بالله وبمجهوده الذاتي وإمكاناته الشخصية، فيرزقه الله من حيث لا يحتسب. إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين.
من جهة، أصبحت جامعاتنا تعج بضعف الكفاءة على حساب الإبداع والتميز لضبابية مساطر التوظيف التي تسمح للهوى بأن يكون ميزانا للتفضيل بين المرشحين، ولوجود خلل في المنظومة الحالية يغيب قيمتي المشروع العلمي والإنتاج الحق الرصين عن موازين التفاضل والترقية وإسناد المهام، وكل حجيج نفسه بما قدم من إنتاج عالمي، أما ضعف الكفاءة فلا تستره الأعذار. من جهة أخرى، ومن منطلق مساهمتي في توزيع أكثر من 100 مليون دولار خلال مشاركتي في لجان دعم المشاريع الأجنبية، نجد أن بعض الفرق العربية تتميز بالكفاءة العالية التي تسمح لها بالمنافسة والظفر بالتمويل، ولكن في معظم الأحيان لا يصل التمويل بالقدر والتقسيم الواجب وفي أحيان أخرى لا يصل مطلقا، مع علم سلسلة القيادة بذلك واطمئنانها لأمرين: تضحية فرق البحث حفاظا على عزة النفس وسمعة الوطن، وغياب تفعيل المحاسبة الحقيقية. أعتقد بصدق، أن تحقيق شرط واحد من الثلاثة سيرفعنا بسرعة مئات المراتب كخطوة أولى فكيف لو تحققت كل الشروط.
- الطموح العلمي وشغف البحث الأكاديمي لا حدود لهما لدى الباحث المتيم بالمشاريع التي تسعد الإنسان وترفع عنه إصر الكوارث والشدائد.
ما هي مشاريعكم البحثية مستقبلا؟
إننا نؤمن بأن العلم قوة مُلهِمة للتغيير الإيجابي، ونتطلع لأن تكون جهودنا جزءًا من الحلول المستدامة التي تسهم في تحسين المستقبل. من هذا المبدأ، نسأل الله تعالى التوفيق للاستمرار على نفس النهج من خلال توسيع نطاق دراساتنا لتوفير بيانات أكثر شمولية ودقة لدعم التخطيط العابر للحدود خاصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. كما نعمل على تطوير نماذج لتحليل أنواع أخرى من المخاطر وعلى تنفيذ حلول ذكية ومستدامة ومبتكرة لمعالجة التحديات البيئية والاجتماعية بما يحقق التوازن بين الحفاظ على البيئة وتحسين جودة الحياة.
إضافة إلى ذلك، نسعى لتوسيع شبكتنا البحثية بهدف نشر الرسالة وتسليط الضوء على أهمية التعاون الإقليمي كحل وحيد وفعّال للتصدي للتحديات الراهنة والمستقبلية. وفي هذا الصدد، سنشارك قريبا في إطلاق مؤسسة دولية تضم العلماء والخبراء من مختلف التخصصات وهيئات حكومية للعمل على تعزيز التعاون، وتقديم رؤى متكاملة وموثوقة تساهم في صياغة سياسات استراتيجية تستجيب بفعالية للتحديات المشتركة.
- مسك الختام.
بم تنصحون طلبة الجامعات والمعاهد في مغربنا العزيز ليكونوا باحثين نافعين للعلم والناس على حد سواء؟ كيف تلقيتم خبر التتويج بجائزة أفضل عالم عربي؟ وما الذي تعنيه لكم على الصعيدين الشخصي والعلمي؟
أنصح الطلبة في مغربنا العزيز بأن يجعلوا من العلم أسلوب حياة، وأن يروا في طلب المعرفة رحلة مستمرة لا تتوقف عند حدود التخرج. البحث النافع يبدأ بالإخلاص في النية، ويتطلب اجتهادًا ومثابرة، مقرونين بالتواضع أمام المجهول ورغبة دائمة في التعلم. كما أوصيهم بالوعي العميق بحاجيات مجتمعنا، والعمل على تقديم حلول علمية وعملية للتحديات التي نواجهها. يجب أن تسعى أبحاثنا إلى إحداث تأثير ملموس في حياة الناس، وأن نخرج من دائرة المألوف لنسعى نحو أفكار جديدة ومبتكرة. وطننا بحاجة ماسة إلى عقولنا وسواعدنا لمواجهة التحديات الكبيرة.
لحظة التتويج كانت مزيجًا فريدًا من المشاعر التي لا يمكن أن تُنسى. عندما صعدت إلى المنصة، رأيت في عيون الحاضرين نظرات اعتزاز وتقدير وكأنني رأيت أهلي وأحبتي وأصدقائي مجتمعين أمامي. شعرت بلحظة فرح ما أردتها أن تنتهي، وأسأل الله تعالى أن يكتب لي أمثالها من جديد، وأن يوفق المجتهدين ليعيشوا مثل هذه اللحظات الفريدة. إنها لحظة تستحق أن نثابر ونجتهد من أجلها. لذلك، أومن أن العقبات والشدائد هي محطات على طريق النجاح أتجاوزها بالصبر وتطوير الذات وأنشغل عنها بمزيد من العمل موقنا أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
• د. محمد محمد المعلمي