الحديث عن ضعف الإنفاق على البحث العلمي والتطوير هو ليس وليد اليوم، فحتى المجتمعات المتقدمة والمتطورة ورغم إنفاقها السخي على البحوثات العلمية، مقارنة مع دول الشرق الأوسط ودول شمال أفريقيا، فإن مجموعة من الأصوات تتعالى فيها، بين الفينة والأخرى، مستنكرة تبخيس جهود الطاقات العلمية التي تتعب عيونها وترهق أجسامها وكواهلها، بحثا واكتشافا وتحقيقا لنتائج موفقة على مستوى كثير من العلوم والصناعات، وذلك لإسعاد البشرية، مقابل أتعاب لا ترقى إلى مستوى ما يتقاضاه بعض التافهين الذين يسمونهم “نجوما” في مجالات أخرى، كالفن بتلاوينه والرياضة بجميع أنواعها…ولا أدل على ذلك من هذه الظرفية الصعبة التي يجتازها العالم، بسبب انتشار وباء “كورونا” والسباق المحموم حول إيجاد لقاح لفيروس “كوفيد 19” وإخراجه للوجود، مع ما يتطلبه من توفير جميع الإمكانيات والمستلزمات الضخمة، لجعل اللقاح رهن إشارة الدول الراغبة في علاج المصابات والمصابين بهذا الفيروس من مواطنيها.طبعا، وهذه الظرفية العصيبة أظهرت قيمة البحث العلمي وحاجة البشرية إليه، وخاصة في مثل هذه الأوقات التي تتطلب الاستعجال أمام الإشكالات المتعلقة بالبحث والإنفاق وتوفير كل الظروف المواتية.
وعلى سبيل المثال، لا الحصر، ومما لا شك فيه أن العديد من المهتمين تابعوا وتناقلوا، مؤخرا، شعور السخط والتمرد، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لعالمة وباحثة إسبانية، ربما على ظروف مهنتها، المادية والمعنوية، في بداية انتشار وباء “كورونا”، حيث أجابت محاوريها من المسؤولين المختصين بقولها :”اذهبوا عند “رونالدو كريستيانو”، لاعب كرة القدم، أو عند نظيره اللاعب الشهير”ميسي” لكي يصنعا لكم لقاحا ضد فيروس “كوفيد 19”.إذن، إذا كانت مشاعر عالمة باحثة مقتدرة على هذا النحو من الانزعاج والتمرد في بلد يصنف ضمن خانة الدول المتقدمة، ذات الإمكانيات الهائلة على جميع الأصعدة، فكيف سيكون الأمر إذا طرحت مسألة البحث العلمي والتطوير في دول عربية، وخاصة منها المتأخرة في كثير من الميادين ؟ لا شك أن الإجابة ستكون صادمة إذا علمنا ـ حسب منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافةـ أن المغرب يخصص نسبة 0.7 من ناتجه من الداخل الخام للإنفاق على البحث العلمي، على قلة هذا الإنفاق.أما المؤسسات الحكومية، فتأتي في الرتبة الأخيرة، بيدها المغلولة إلى عنقها، في هذا المجال.
في السياق ذاته، ومنذ أكثر من عقد، أطر عالم عراقي “السامرائي”، مختص في استنطاق الوثائق والمستندات الأثرية والتاريخية، ندوة بمدينة طنجة. وأثناء مداخلته، صب جام غضبه، بسبب عدم الإنفاق الكافي على البحث العلمي في جل بقاع العالم، بينما تذهب الملايير، هباء منثورا، في جيوب “نجوم” في مختلف الميادين، حيث صاح، يومها، الرجل غاضبا بقاعة كانت غاصة بحشد كبير من الحضور:”
ماذا يفعل هذا اللاعب الفلاني، مقابل ملايير تدخل خزينته ؟ أيضرب الكرة برجله ؟ وما ذا بعد ؟
- اعتماد التكنولوجيات الحديثة لدى الطلبة المغاربة مسألة جد ملحة
لا يمكن الحديث كذلك عن البحث العلمي، دون تشجيع استعمال التكنولوجيات الحديثة كخطوة جديدة في الالتحاق بموكب التطور التكنولوجي في التدريس والتعليم العالي في المغرب. وفي سياق هذه الجهود المبذولة لرفع مستوى جودة التعليم العالي، أطلقت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي وتكوين الأطر، برنامج “لوحتي”، الذي سيستفيد بموجبه طلاب الجامعات ومؤسسات التكوين المهني، وكذلك الأساتذة والأطر الإدارية، من لوحات إلكترونية بأسعار تفضيلية.ويعتبر أكاديميون وخبراء في التعليم أن هذا البرنامج، يهدف إلى تسهيل ولوج الطلبة إلى الخدمات الرقمية وتعميم تكنولوجيا الإعلام والاتصال في الجامعات المغربية، بالإضافة إلى تحديث منظومة التعليم العالي والرفع من مستوى التكوينات وتعزيز التفاعل بين الطلبة ومحيطهم السوسيو اقتصادي، موضحين أن برنامج “لوحتي” يأتي تتويجا لمسار وإرادة الرقمنة والعصرنة للوزارة، إذ لا يمكن تصور الجامعة دون رقمنتها حتى لا تبقى معزولة عن سياق عام يرمي إلى تطويرها وجعلها تواكب ما وصلت إليه الجامعات العالمية.بالإضافة إلى اتخاذ عدد من المبادرات التي أقدمت عليها وزارة التربية والتكوين ووزارة التعليم العالي، منها تكوين ما مجموعه 120 ألف أستاذ في مجال استعمال التكنولوجيا الحديثة، في ما بين سنتي 2014 و2016.
وعن مستقبل التعليم بالمغرب والبحث العلمي في ظل التطور التكنولوجي، قال جمال بن دحمان الأستاذ الجامعي المغربي المتخصص في الخطاب الإعلامي في تصريح إعلامي :”التعليم العالي ليس تعليما مفصولا عن التطورات التي تعرفها البشرية ومن ضمنها الثورة التكنولوجية التي عرفت تطورا كبيرا خلال العقد الأخير، بل إن هذا التعليم هو الذي ساهم في ذلك التطور، رغم أن الإكراهات الموضوعية لا تسمح للجامعة المغربية بأن تكون منافسا كبيرا في هذا المجال، إلا أنها ساهمت في تكوين أطر متملكة لأسس التكنولوجيا الحديثة ومرتكزاتها على نحو ما يشهد به الباحثون وعدد الطلبة الباحثين الموجودين في مختلف المؤسسات والشركات ذات الصلة”
وأضاف المتحدث أن “هذه الصورة المنفتحة تخفي معالم ضعف حقيقي يمكننا اختزاله أولا، في ضعف الموارد المالية المخصصة للبحث العلمي بشكل عام، والبحث في التكنولوجيات الحديثة بشكل خاص. وثانيا، في النظرة التبخيسية التي يتعامل بها بعض المسؤولين مع البحث في العلوم الإنسانية بدعوى عدم انفتاحه على علوم العصر من ضمنها التكنولوجيات الحديثة، وهو حكم لا يرتكز على أي أساس مدعوم بدراسات موضوعية، بل إنه حكم انطباعي، بحيث أن الباحثين في العلوم الإنسانية هم أكثر الباحثين توظيفا للتكنولوجيات الحديثة. وثالثا، نرى بأن الدراسة الجامعية ترتكز اليوم على كل خلاصات البحث التكنولوجي لكنها تفتقر للبنيات المساعدة على ذلك”.
وأشار ذات المتحدث إلى أن اللوحة الرقمية لن تعوض الكتاب، لأن استثمار الكتاب يشكل جزءا من وظائفها، فالكثير من المواقع الإلكترونية تعتمد الكتاب أساسا لرواجها. بمعنى أن الكتاب سيبقى والكاتب سيستمر. لذلك سيكون التحدي الأكبر مستقبلا أمام التدريس الجامعي والتدريس، بشكل عام، هو البحث عن كيفية تطوير مهارات الطلبة. وقد يكون الاستثمار المعقلن للوحات الرقمية وغيرها من أدوات التواصل الحديثة مكونا يساعد على ذلك. لكن الأمر مستحيل إذا ما تم الإبقاء على منهجية التعامل الحالية مع هذه الوسائل، لذلك على المسؤولين الانشغال أكثر بكيفية البناء المعرفي والنفسي والمنهجي للطالب، وهي أمور لا يمكن للوحة، ذات ذكاء اصطناعي إنجازها بمفردها.
ويرى جمال بن دحمان، الأستاذ الجامعي، أن هذه الاختيارات ليست سليمة لأنها تعتقد أن التقنية أهم من الكائن البشري، بل وتعتقد أن الآلة قادرة على تغيير الإنسان، بمعنى أنها تعتقد أنه بمجرد أن يتسلم الطالب جهازا أو لوحة رقمية متطورة ستتغير ذهنيته ونفسيته ومنهجية تفكيره، بينما المقاربة الأسلم هي تلك التي تتبنى مقاربة مختلفة، فتنطلق من العمل على تغيير الذهنية والنفسية والمنهجية، لتأتي الآلة بعد ذلك فتوظف في إطارها الأسلم. والدليل على ذلك، أن وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني شرعت، منذ ما يقارب عقدا من الزمن على تعميم العدة المعلوماتية على المؤسسات التعليمية، فهل أدّى ذلك إلى حصول تحول في علاقة بالمعرفة و التمدرس ؟ يبدو أن الأمر لم يكن كذلك، لأن المقدمات لم تكن سليمة.
محمد إمغران
صحفي بجريدة الشمال