أنا أندلس الرؤى
إذا ما المساء أغواني بوصلٍ
تركت الروح تفضي إلى فيض
إن مسار البوح والكشف ظاهر منذ انطلاقة الدفقة الشعورية عند الشاعرة، فالأندلس بالنسبة للشاعرة تتجلى من خلال طيف.
تقول الشاعرة: “ويتجلى طيف أندلس في المدائن، ينسكب دمعها في المآقي .. عسى أميرها يلتقط الإشارة.”[1]
بعد هذا التجلي يظهر الأمير السندبادي، ويقول للأندلس: “تكبرين في أعماق الروح دهرا فدهرا، فاكتبيني أحرفا نورانية التشكيل..”[2]
ترد الأندلس قائلة: “إني آنست وجدا يشتعل في الروح، فكتبتك نبضا يركض في بساتين الآتي ..وأكتبك كل فجر في محاريي الشاردة، عساها تزهر بمفاتن اليقين وتدخلها بسلام وأمان..”[3] تتساءل الأندلس “فإلى أي مدى تتوغل أندلس فيك، وتغدو أمة تنتفض بك”[4]
يتناوب النثر والسرد مع الشعر في هذه النصوص الإبداعية، فبعد هذا الحوار، يظهر صوت سارد يقول: “وفي رواية أخرى أن الأمير السندبادي لبى، وأفرد شراع الحنين من عاصفة الترحال، وطاف بوصل أندلس سبعا فسبعا، ثم ارتد على آثارها قصصا، فتمثلت له نورسة تجري إلى قدر معلوم، وقيل إنه رآها تجتاز بحار الغربة، تحاول استعادة خضرتها الكامنة في المدى المجهول، فأسمعَها:..”[5]
النصوص اللاحقة بعنوان أوتار من دفاتر السندباد[6]، وهي عبارة عن خمسة نصوص (تكرار/ رؤى أندلسية/ عاصفة الترحال/ ريحانة الترحال/ فناء). فالذاكرة تسترجع الأندلس، وتتوقف عند الحنين والأسى الذي رافق تاريخها بعد السقوط.
تقول الشاعرة:
ذاكرة الأوجاع تفصح عن أندلس
تسكن كل شبر
تنثر في العتمات بقايا من حنين
تستوي في النبضات حروفا[7]
تتأسف الشاعرة أم سلمى سعاد الناصر على حال الأندلس، يتجلى ذلك من قولها الذي يفوح بالحزن والأنين:
يتساقط دمعك في ذاتي
تبتل من اليتم أنفاسي
تجلدني جنون الشهقات
تتفجر من عيني مواجيد نحيبك
حتى أتأرجح في دائرة الموات[8]
إلى أن قالت:.
عند مفترق الحلم
أعلنت عن ميقاتها أندلس الوصل
إذ عبرت بساتينها كالشعاع
يتابع الأمير السندبادي رحلته للبحث عن نورسته المفقودة، تقول الشاعرة:
“ثم اتبع سببا، ودنت راحلته من ديار الأندلس وقد مسه لغوب، يسائلها:
- هل بعد حلكة الدجى إشراق؟
- فتجيبه: – هذا شعري لروحك ترياق
ثم يتبعان سببا..”[9]
إن استحضار الأندلس يشكل ملمحا بارزا في التجربة الشعرية التي ضمها الديوان، الأندلس تحضر باعتبارها محاورا يعبر عن آلامه وطموحاته، يستذكر ماضيه وأمجاده، يتبين انه من خلال هذا العمل الفني تدعو الشاعر أم سلمى الجميع إلى مراجعة الذاكرة واستنطاق الماضي من أجل النظر للمستقبل، فالبوح الذاتي يشكل العمدة في هذه النصوص الشعرية الحديثة. الديوان حالة فريدة من التواصل والتفاعل بين الأندلس والسندباد يمتزج فيها الطرفان ويتداخلان؛ تقول الشاعرة:
أمطرت بأرض الغربة العطشى غيمة..
..
ثم سرت بأوصال السندباد رعشة
وكأنها نفس
تبثه أندلس..
صدى لما صار من غمر رعشها شوقا وبوحا
..
حين أدنو بساح أندلس
ألقى سوسنة..[10]
السندباد –وهو رمز الترحال- يسافر على مدار الديوان ليبحث عن أندلس مفقود، عن أمل ضائع، يقترب منه تارة ويبتعد أخرى. تظهر له طيفا يغازل مشاعره وأنفاسه؛
فإذا بطيف سوسنتي…
يضمخ الروح عطرا ووصلا
هي طيف بهي وجميل تحتضنه الشاعرة في قلبها؛ تقول:
واحتضنتك في القلب معنى ونبعا
وأسجد شكرا لمن جلاك أنسا بهيا..
وفيضا نديا..
وفي قصيدة مناجاة[11] تطلب الشاعرة من البدر أن يكتم سره وأن لايبوح، لأن البوح سيجر عليه اللوعة والحنين، ومما جاء في القصيدة:
أيا بدرُ..
إذا حللت أرض أندلس..
وشاقك منها ذكرُ..
وفوَّح أنفاسك من عبيرها عطرُ..
وسرى بمحض جنونه، دمعك الهمرُ..
واكتوى بخمر فؤاده الجمرُ..
المقطع الأول جاء على شكل جملة الشرط ويتفرع فعلها الأول إلى أفعال ثانوية، وجاء جواب الشرط بعد ستة أسطر؛
فغضَّ طرفك
إن سرَّك جهرُ..
ولا تبح..
فإن من باح بالسر في لهيب خضرتها..
كان له منها أسر وسحرُ..
وفيوض من لوعة وحنينٌ وغمرُ..
واشتياق وعتلاجٌ..
ورحيل يجز به هذا العمرُ..
القصيدة جملة شرط تتألف من فعل الشرط (حللت) وجواب الشرط (فغض) ويندرج تحت الفعلين تكرارات داخلية تعمق الفعل وتؤكده.
وفي قصيدة مقام آخر[12] تجعل الشاعرة من الأندلس مشبها به، والمشبه هو الجرح، تقول الشاعرة:
تشكل جرحا فجرحا
كأندلس في هدير من الشهوات
يسائل السندباد الشيخ قائلا: “يا شيخ، إنها ترى ظلال البشرى بعيدة وأراها قريبة..تكبلت في أغمات تتساءل عن منتهاها.. قالت:”[13]
تنطلق الشاعر في سردٍ على لسان الأندلس:
مكفهر كوجهي
زرقته ضاربة في السواد
أتراه كحالي غريبٌ
يسافر في موجه
..
جرحي غائر في الوجود
يتربص في أروقة الفصول
..
كم يسكنني من وجعٍ
..
دعني
دعني أبحر في ليلي الرتيب
زفرات وآهات تبثها الشاعرة، تعبر من خلالها عن حال الأندلس وهي الجرح الغائر في جسد أمة منهوكة، جرح ينزف منذ أكثر من خمسة قرون، جرح ترك الأثر البالغ في نفس كل مسلم، الأندلس وجع يقلق التاريخ ويؤلم الماضي، وهذا ما جعل الشاعرة تستعين بمعجم (السواد / مكفهر / غريب..).
تقول:
دع روحي تتشظى ذرات في غيهب النسيان
دع قلبي فقد غام في النوح الكئيب[14]
تعاود الأندلس بث شكواها وتحسراتها وذلك ما رواه السندباد، “تقول أندلس:
لو تدري ما في القلب من جرات..
يستعر همسها كموج البحر..
حين يظمأ للشط البعيد..”[15]
تستأنف الشاعرة دفقتها الشعورية وهي تسترجع أقوال الأندلس في حوارها مع السندباد، ” ثم تقول أندلس:
كم يسكنني من وجع
لأدرك أني على هامشك أتعثر
كم يلزمني من يتمٍ
لأدرك أني على صخر جنوني أتبعثر..”[16]
الديوان في جله لحظات تذكر واسترجاع لأوجاع الماضي، القصائد بوح مستفيض وزفرات مهمومة، وحسرات مكلومة. ومما يؤكد حضور البوح والاعتراف قول الشاعرة أم سلمى في قصيدة بعنوان ما كان حبك محض اختيار[17]:
فمن يفهم حزني الرابض في غربة النفس
أو من يبقي لأندلس
هذا البوح الغجري
وما تناثر من فؤادها المحزون
وقولها:
تقول ليلة: لو أعرتني بدرك يا بوح أندلس
البوح حاضر بقوة في الديوان، ومن تجلياته أن الشاعرة سعاد النّاصر عنونتْ قصيدتها ب: ليلة البوح تعانق ليلة القدر[18]، وفيها تقول الأندلس:
ستقول أندلس
قد آن أوان الشد
وآن أوان الإبحار في أورادي فاثبتي
وكذا قصيدة سبحان الذي أسرى برحيق البوح[19] التي جاء في مطلعها:
قبرة صاغت من شعر أندلس عشا..
نسجت من خضرة روحك نسجا..
واصطفت من الأكوان بدرا..
البوح غالب البوح مهيمن، فجل القصائد عبارة عن بوح، وقد جعلت منه الشاعرة صفة لأندلس، تقول:
أنادي:
يا أندلس البوح، إني زادك أبشري
إن الديوان، الذي نشر سنة 2010، يجمع بين نصوص سردية وأخرى شعرية مما يعكس عمق خيال الشاعرة ومهارتها في استخدام التراكيب والصيغ التعبيرية.
إن الشاعرة سعاد الناصر تتفاعل بين الإبحار في عالم الذات التي تشعر بالغربة والقلق، النفس التي تبحث عن القيم والمثل العليا والمبادئ المفقودة في عصر مليء بالانحرافات والتموجات والخروج عن الضوابط، الشاعرة أم سلمى تمزج بين ذاتها والآخرين في تركيبة إنسانية جميلة تعكس نفسية الأديبة وقناعاتها الفكرية.
الشاعرة أم سلمى تقيم بمدينة ذات نفحة أندلسية متميزة، فتطوان الحمامة البيضاء قطعة من الأندلس وجزء من الفردوس المفقود، عمارتها الأندلسية ولباس أهلها المتشبع بالثقافة الأندلسية، كل هذا يجعل من شعراء هذه المدينة يغوصون في أعماق مدينة تتناغم مع الحواضر والمدن الأندلسية.
“آثرت الشاعرة أن تركب صهوة تجريب شعري يتجاور فيه النثر مع الشعر حوارا يضيء فيه النثر المقاطع الشعرية إغناءاً لسياقات الكتابة وبُعدها التداولي، وتقوية للمرجعيات والدلالة.”[20]
[1] الديوان ص 8.
[2] الديوان ص 9.
[3] الديوان ص 10.
[4] نفسه.
[5] الديوان ص 12.
[6] الديوان ص 13.
[7] الديوان ص 14.
[8] الديوان ص 20.
[9] الديوان ص 25.
[10] الديوان ص 26.
[11] الديوان ص 28/29
[12] الديوان ص 34.
[13] نفسه ص 41.
[14] الديوان ص 44.
[15] الديوان ص 46.
[16] الديوان ص 46.
[17] الديوان ص 52.
[18] الديوان ص 70.
[19] الديوان ص 97.
[20] محمد بن عياد /adibaat.net