عاشت فرنسا ليلة 15 أبريل 2019 أكبر تراجيديا في تاريخها الثقافي والعَقَدي، جراء الحريق الرهيب الذي اندلع في كاتدرائية “Notre Dame de Paris“، مقر أبرشية باريس.
وتحضر الكاتدرائية في الذاكرة الإنسانية كواحدة من أعظم التجسيدات في فن العمارة القوطية،
إذ حققت بها فرنسا إبدالا كبيرا عن الطراز الروماني القديم، وذلك بإبداعها الهندسي الذكي للقبو في الأضلاع والدعامات، واعتمادها النوافذ الشاسعة الملونة، ومراكمة وفرة ملحوظة في التحف النحتية. وهي بهذا تجسد في المخيال الإنساني فضاء تاريخيا وفنيا يجلب ما يقارب 12 مليون سائحا يلجأ إليها بحثا عن الإنسان، معزولا عن حساسية الانتماء.
كما تحضر الكاتدرائية، على نحو خاص، في الوجدان الفرنسي الديني بصفتها فضاء رحبا للولوج الروحي المستمر.
لم يتعلق الأمر إذن بـ “تراجيديا فرنسية”، بقدر ما كان الحدث مأساة إنسانية اهتز لها الضمير العالمي.
الوجدان الإنساني إذن عاش ليلتها أقسى حالات الألم، وشغل حسه “المتضامن”، وشعل أيضا توقه الواعي إلى التعايش بين الحضارات والديانات. التعايش في الآمال، والتعايش في الآلام أيضا، ليعلن بصوته الجاهر عن حزنه الشديد لهذه الخسارة الحضارية.
مؤخرا في استوديو إذاعة طنجة، ومن خلال برنامج “بصيغة أخرى” الذي يعده الإعلامي المميز سعيد كوبريت، التقت بعض الأصوات من مرجعيات متنوعة، وحساسيات متعددة، إعلاميين وأدباء ومفكرين مهتمين بالمجال العقدي للتعبير عن مواقفهم وعواطفهم وتقديراتهم لكيفية النظر إلى هذه الفاجعة. نستحضر منهم الباحث في العلوم الإنسانية والعقدية الدكتور محمد رفيقي المعروف بأبي حفص الذي أعرب عن تدمره واستهجانه الواضحين من الشماتة التي أبدتها بعض الأطراف سواء في العالم الإسلامي، أو بأوروبا، والتي اعتبرت أن الأمر انتقام إلهي. كما أبدى وجهة نظره المرتكزة على أن كاتدرائية نوتردام هي إنجاز فني وتاريخي في ملكية البشرية، وأن صونها يدخل في باب صون الوجود البشري بتنوع تعبيراته.
الإعلامية بإذاعة “مونتكارلو” الأستاذة منية بلعافية نقلت حجم حضور الكارثة في الصحافة الفرنسية والدولية، معبرة عن ألمها الخاص جراء الذي حصل، مذكرة أن ما يشبهه حصل مع معالم تاريخية وفنية من نفس القيمة في حضارات مماثلة بالعراق وسوريا واليمن.
الإعلامي رئيس تحرير بهيأة الأخبار بقناة ميدي 1 تيفي الأستاذ محمد أحمد عدة وضع المتلقين أمام القيمة العظيمة للكاتدرائية، مذكرا أن هذه الفاجعة، كما أحال على ذلك الرئيس الفرنسي “إمانويل ماكرون”، قد استوقدت الخيال الجماعي الفرسي والإنساني.
الكاتب والإعلامي بجريدة الاتحاد الاشتراكي لحسن لعسيبي أنجز قراءة تاريخية وفنية في دلالات الكاتدرائية، مشيرا إلى القيمة الرمزية التي اكتستها في الذاكرة الإنسانية، معتبرا أنها تمثل مكتسبا جماعية من العار أن تتعرض للتلف. مذكرا بدوره بأن هذه المأساة تجاوزت سياقها الفرنسي لتصبح ذات أفق مأساوي إنساني.
من جانب آخر بسط الإعلامي سعيد كوبريت رئيس بيت الصحافة بطنجة هذه التراجيدبا للنقاش الحر، منطلقا من من توصيف عنونت به إحدى المجلات الفرنسية عددها بـ:
مذكرا أن هذا الحريق هو حدث مأساوي جعلت الناس في كل أطراف العالم تشعر بالحرقة الداخلية، آملا من جانبه في أن يتعزز المشترك الإنساني الذي لن يكون في النهاية إلا انتصارا لقيمة الإنسان.
الكاتب عبدالإله المويسي ركز على دلالات حضور الكاتدرائية في المنجز الأدبي والفني الإنساني. فإذا كان كل المتدخلين قد أحالوا على رواية فيكتور هوجو “أحدب نوتردام” الشهيرة، فإنه ذكر بأن الكاترائية تحضر في كل التعبيرات الفنية المختلفة والمتنوعة، كالغناء والتشكيل والمسرح والشعر والفوتوغرافيا. إضافة إلى جنس فني آخر ابتكره الاحتفاء العمومي، ويتعلق الأمر بفن أو أدب “الحياة”. إن كل صورة فوتوغرافية أو شريط فيديو أو “سيلفي” التقطه سائح مر يوما ما بالكاتدرائية، هو قطعة فنية أو جنس أدبي خاص يؤرخ لهذه المعلمة.
ما بين التاريخي والعقدي والثقافي والفني والأدبي حضرت نوتردام في وجدان بعض الكتاب المغاربة ومخيالهم، وحضرت في آلامهم وآمالهم.
في البرنامج انتصرت الآمال مركزة على المساحة الإنسانية المشتركة.
انهزمت الضغينة، حيث كان مصدرها، وانتصر الإنسان..