-المبحث الرابع: 1
نقصد هنا استدعاء شعراء المتن بعض الآيات القرآنية التي تخاطب أو تخبر عن الإنسان في طبيعة خلْقه، وضعفه، وكدحه، وغفلته، ومعاناته، وما ينتظره من أهوال عند زلزلة الساعة…الخ. والمقصود بالإنسان هو الإنسان بغض النظر عن إيمانه أو ضلاله وفقا للمنهج القرآني الذي يعرض هذه النفس الإنسانية على ما هي عليه من الاشتراك في تلك الخصائص في الأصل([1])، بحيث يكون لديه نوع من القابلية في كل حين للامتثال أو العصيان؛ وإن «شخصية آدم في قصص القرآن لنموذج للإنسان بكل مقوماته وخصائصه، ومن أظهر تلك المقومات والخصائص ذلك الضعف البشري الأكبر الذي يجمع كل نواحي الضعف الأخرى»([2]) فقد أغواه إبليس ودار في خلَده الحلم بالخلود أو الملك أو الألوهية ونسي ما نهاه الله تعالى عنه فاقترف وزوجته الخطيئة، وهبط إلى الأرض، واعترف بذنبه، وتلقى من ربه كلمات فتاب عليه([3])؛ فكان ذلك صورة مصغرة لتجربة الإنسان في كل زمان ومكان؛ «إن قصة الشجرة المحرمة، ووسوسة الشيطان باللذة، ونسيان العهد بالمعصية، والصحوة من بعد السكرة، والندم وطلب المغفرة…إنها هي هي تجربة البشرية المتجددة المكرورة»([4]). وما سمي إنسانا إلا لأنه عُهد إليه فنسي([5]). وقد مر بنا كيف أن شعراء المتن عبروا، في أغلب الأحيان، عن هذا الضعف في ذواتهم وإن كانوا قد استعانوا بآيات أغراضها ومقاصدها غير أغراض ومقاصد هذه التي نحن بصددها، فرسموا بذلك، في الحقيقة، صورة واضحة عن واقعية الإنسان كما وردت في التصور الإسلامي فيما هم ينفثون ما بصدورهم من شعور بالحزن والندم، ويقرون بالضعف ويتوقون إلى العفو والمغفرة. وهذا يعني من جهة أخرى أن التعامل مع غرض خاص من أغراض الآيات القرآنية المستدعاة لا يدل بالضرورة على حاجة الشاعر إلى ذلك الغرض نفسه؛ وإنما يتم تحويله وتكييفه مع السياق الجديد، وهذا أمر معروف في سائر الأغراض، بل ومرغوب فيه منذ القديم؛ وهو من صميم التناص الذي عبر عنه نقادنا القدماء بكل وضوح؛ كقول ابن طَباطَبا مثلا: «ويحتاج من سلك هذه السبيل إلى إلطاف الحيلة…فيستعمل المعاني المأخوذة في غير الجنس الذي تناولها منه، فإذا وجد معنى لطيفا في تشبيب أو غزل استعمله في المديح، وإن وجده في المديح استعمله في الهجاء، وإن وجده في وصف ناقة أو فرس استعمله في وصف إنسان…»([6]).
وفي موضوعة الإنسان التي نحن بصددها تم التناص في شعر المتن مع عدد من الآيات القرآنية أهمها:
1-]ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإٍ مسنون، والجانَّ خلقناه من قبلُ من نار السَّموم، وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإٍ مسنون[([7])
–]خلق الإنسان من صلصال كالفخار، وخلق الجان من مارج من نار[([8])
2-]إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم[([9])
3-]ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد، وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد لقد كنتَ في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد[([10])
4-]إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحُقَّت وإذا الأرض مُدت وألقت ما فيها وتخلت وأذنت لربها وحقت، يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه، فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا، وينقلب إلى أهله مسرورا، وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا[([11])
5-]إذا زُلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الأرض أثقالها، وقال الإنسان مالها[([12])
6-]يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم، يوم ترونها تَذهل كل مُرضعة عما أرضعت وتَضع كلُّ ذاتِ حَمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد[([13]).
وكان رجوع الرباوي إلى هذه الآيات أكثر من صاحبيه (حوالي عشر مرات)([14]) يليه الأمراني (أربع مرات)([15]) فبنعمارة (مرة واحدة)([16]). ونعرض لنماذج من الشعر لكل نص من هذه النصوص القرآنية موضوع التناص:
ا-بنعمارة(مملكة الروح):
– أَوَلَم تتبع صاحبة الحسن؟
وأنت الصلصال الفخار المنكسر أمام
رحيقِ دواليها
– قلتُ: أرى مدنا يغزوها خيط دخان توقظ تحت جلود
الأسوار الفتنةَ، وتمزق آيات الحكم القرآنية([17])
ب- الرباوي(مدد من مشكاة الغيب):
لماذا يا مولاي خُلقتُ هلوعا
إن مس جَناني المحل جزوعا
أو مس جَناني الوبْلُ جَزوعا
أدرِكْني
من وسواسي الخناس وعلمني
أن أملأ دنياي بحمدك([18])
ج- الرباوي(السبل):
آه، تِلكَ أمي رَفَضَت كل بَنِيها
تلك أمي
حَجَبَتْها السبل الجوفاء عني
دُلَّني أنت عليها واتخذني صاحبا
لا تسألني كيف أبصرتُ حصانك
بصري اليوم حديد
ولهذا دلني قلبي عليك([19])
د- الأمراني(الموقف):
يا مَن يَخِيطُ لِي الكَفَنْ
صوت من الأعماق ينفُخ في دمائي
– يا أيها الإنسان إنك كادحٌ كدحا
فشُقَّ طريقَك الصعب الطويل
هذا أبوذر
وتلك قوافل الغرباء تنضَح بالضياء([20])
هـ-الأمراني(بنان):
ما الذي يحدث الآن؟ ها البحر ينشر موتاه
ها الأرض تُخرج أثقالها
وتبوح بأسرارها الباطنية
(سُمية) تهجر أكفانها
تستقيم على بَرَدى غابة من نخيل وبان([21])
و- الرباوي(الفرح المشتعل):
هي الساعة قامت، وكلانا مِن
أشراطِ الساعة. يا ذاتي زلزلةُ الساعة شيءٌ
أرعبَ هذا البلدَ المقهور، أَرعَبَنا معهُ،
فالناس سُكارَى في الطرقات، وما هُمْ
سُكارى، ولكن عذابَ القهر شديد، وعذابَ
الجوع مريرٌ، وعذابَ الوحدة قهّار،
أوَلم يُنفخ في الصور؟ فكيف تُداهِمنا اليومَ
قيامتُنا؟ هل أمواتاً كنا في منطقة مَن
يُدفَنُ فيها لا يسمع غير دبيب الأفِّ، وغير
حفيف الخوف، وهذا الصُّور المأمورُ له في
الأرض هدير؟ كيف قيامتُنا حلّت فتَشتَّتنا
كالأصداء، تكسرنا كالأصداف، تهدَّمْنا
كالأسوار،تَبَددنا كالغيمة؟ هذا حبل الشوق
إليكِ اليوم يَشد خمائلَ قلبي المتهالكِ…
حين أعود إليك، وحين تعودين إلي يعود إلينا
السمع ويعود إلينا البصرُ الثاقبْ
فإذا يُنفخ في الصور، نُحس معاً أنّا نرتج
فنستسلم للفرح المشتعل([22])
إن توزيع الهيمنة السابق ربما كان دالا على أن النسبة العالية من الاحتراق الناتج عن القلق من هم الضعف الإنساني والرغبة الكبيرة في تجاوزه، كانت من نصيب الرباوي في هذا النوع من التناص، إلا أن التأكد من ذلك يحتاج إلى توجيه الدراسة وجهة أخرى. ويكفي هنا أن نضع في الاعتبار بأن تلك الهيمنة قد تدل على ذلك، وأن لكل شاعر خصوصيات دقيقة لا يمكن التوصل إليها من خلال هذه الدراسة المخصصة لثلاثة شعراء، فما نكتشفه هنا من خصوصيات لا يتجاوز مجال النصوص التي تخضع للتحليل ومن وجهة كشف ودراسة عناصر وآليات التناص لا غير:
(يتبع).
[1] – مقومات التصور الإسلامي؛ 317-382.- التصوير الفني في القرآن؛ 216-225.
[2] – التصوير الفني في القرآن؛ 209.
[3] – قال تعالى: ]فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم[ – البقرة؛ 37.
[4] – في ظلال القرآن؛ 59:1.
[5] – اللسان؛ (أنس).
[6] – عيار الشعر؛ 126.
[7] – الحجر؛ 26-28.
[8] – الرحمن؛ 14-15.
[9] – المعارج؛ 19-24.
[10] – ق؛ 20-22.
[11] – الانشقاق؛ 1-11.
[12] – الزلزلة؛ 1-3.
[13] – الحج؛1-2.
[14] – الولد المر؛ 30،49،43،19. – أول الغيث؛ 22،42. – أطباق جهنم؛34. – الرمانة الحجرية؛ 14. – الأحجار الفوارة؛ 94. – البيعة المشتعلة؛ 5،8،21.
[15] – القصائد السبع؛ 31،67. – الزمان الجديد؛ 59،164.
[16] – مملكة الروح؛ 35.
[17] – نفسه.
[18] – أول الغيث؛ 42.
[19] – البيعة المشتعلة؛ 21.
[20] – الزمان الجديد؛ 59.
[21] – القصائد السبع؛ 67.
[22] – الأحجار الفوارة؛ 94-96.
د. المختار حسني