في الحجر حتى إشعار آخر..
عندما قررت السفر لحضور حفل جائزة الملك فيصل الذي تحدد يوم 28 دجنبر 2021، كنت أدرك أنني مقبل على مغامرة كبيرة لأن الحكومة المغربية كانت قد قررت إغلاق حدودها عن استقبال الرحلات الجوية؛ وهذا يعني أن عودتي لن تكون قريبة. في البداية كنت أفكر في طريقة للخروج، بعد تعليق الخطوط الجوية السعودية رحلاتها. بذلت مؤسسة جائزة الملك فيصل جهدا كبيرا في البحث عن رحلات ممكنة، إلى أن عثروا على الخطوط القطرية التي لم تعلق رحلاتها رغم القرار المغربي الذي كان يمنع المسافرين من دخول أراضيها. كان هناك أمل في ألا يمدد المغرب تعليق الرحلات الجوية بعد 31 دجنبر، لأن موعد العودة كان يوم 1 يناير 2022. لكن الحكومة المغربية قررت التمديد إلى 31 يناير. وهو ما يعني أنني أصبحت عالقا بالمملكة العربية السعودية في انتظار قرار جديد للحكومة. ومن تلك اللحظة انشغلت بتطورات أوميكرون في المغرب وانتشاره السريع وعلقت أملي على انحساره حتى لا يكون هناك مسوغ للحكومة المغربية لكي تستمر في خطة تمديد التعليق المرعبة لي. لم أتصل بالقنصلية لكي أسجل اسمي ضمن قائمة أسماء المغاربة العالقين في مكة وجدة، الذين قدموا للعمرة أو لأغراض أخرى، كانت تبلغني أحوالهم السيئة بعد أن نفذت أموالهم. كنت محظوظا بأن استضافنا أنا ومرافقي الحاج محمد كركب، أحد رجال الأعمال السعوديين الأفاضل في فندقه طوال فترة إقامتنا. هنا أدركت ما يمكن أن يصنعه الهوى المغربي بوجدان بعض السعوديين، على نحو ما أدركت تقديرهم الفائق لجائزة الملك فيصل.
بصمة في نسج كسوة الكعبة المشرفة..
بعد الصدمة التي تلقيتها بتعليق رحلة العودة المتوقعة وإن كنت قد أوهمت نفسي وقتئذ بأن الخطوط الجوية القطرية مستثناة من قرار تعليق الرحلات، عدنا إلى فندق ميراج بجدة الذي سنقيم به طوال أربعين يوما. كنت أختزن تجربة كبيرة في العيش بعيدا عن موطني وأهلي، مثلما أختزن تجربة طويلة في الاختلاء. لكن ما لم أكن أتوقعه هو أن أتحول من حالة العالق إلى حالة المكرّم. على الرغم من أنني لا أملك طبعا يسعفني في إجراء الاتصالات واستثمار مكانتي العلمية، فإن ذلك لم يمنع أن تسنح لي فرص أخرجتني من عزلتي لأحظى بزيارات لشخصيات مهمة في البلد، وأحظى باستقبالهم وتكريمهم، على نحو ما أتيحت لي مناسبات علمية حيث حاضرت بالنادي الأدبي بجدة كما حاضرت بالنادي الأدبي بالمدينة المنورة، وكان لي لقاء تواصلي علمي مع أساتذة قسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة الملك عبد العزيز. وزيارة لجامعة الملك عبد الله للعلوم التقنية، وهي جامعة دولية مرموقة. كما حظيت بزيارة مصنع كسوة الكعبة المشرفة بمكة المكرمة بمجمع الملك عبد العزيز، وحظيت بشرف المشاركة ببصمتي في نسج الكسوة الجديدة التي تصنع الآن، وزيارة معرض عمارة الحرمين الشريفين، ومكتبة مكة المكرمة وهي المبنى الذي شهد مولد الرسول صلى الله عليه وسلم.
كل هذه الفرص هي من غنائم جائزة الملك فيصل التي تحظى بتقدير المجتمع السعودي؛ فما أن يعرف أحدهم أنني أحد الفائزين بها حتى يعاملني معاملة ضيف المملكة الذي يفرض عليه حسن ضيافتي. من هنا شعرت بضرورة تقديم نفسي باعتباري فائزا بهذه الجائزة لتسهيل بعض الصعاب التي كانت تعترضني، وخاصة أنني في الأسبوع الأول من استقراري بجدة لم أكن محصنا؛ أي إن جوازي الصحي المغربي لم يكن مفعلا في برنامج «توكلنا» الذي فرضته المملكة السعودية على كل المواطنين والمقيمين والزائرين؛ بحيث لا يمكنك أن تدخل إلى أي مصلحة أو محل تجاري أو فندق أو مقهى أو مطعم أو تسافر أو تعتمر دون أن تتوفر عليه.كان الأسبوع الأول محنة كبيرة واجهتها في البحث عن طريقة للدخول إلى هذا البرنامج الذي يسمح لي بحرية الحركة. في خلال هذا الأسبوع كنت أقدم نفسي بأنني ضيف المملكة وأنني حظيت بتكريم أمراء البلد، إلى أن تمكنت من تسجيل جوازي الصحي في البرنامج وأصبحت أخيرا محصنا. لكن محن البرنامج لم تنته بشكل نهائي بعد الدعوة إلى أخذ الجرعة الثالثة التي كنت قد أخذتها قبل سفري لكنهم لم يفعلوها في البرنامج رغم أنها مسجلة به، لتعود المشكلة مرة أخرى ولكن كانت عودتي للمغرب قد حانت، ومعنوياتي قد ارتفعت. ما أريد أن أقوله إن التكريم الذي حظيت به بفوزي بجائزة الملك فيصل كان له الفضل الكبير في تذليل المشكلات التي اعترضت علوقي ودخولي للمملكة العربية السعودية في فترة الحجر الصحي الذي أعفيت منه حتى أتمكن من حضور الحفل، بل واعترضت أيضا خروجي وعودتي للمغرب.
حديث عن البلاغة الجديدة في الرياض..
هناك فوائد عظيمة أفدتها في هذه الرحلة؛ الفائدة الأولى هي تمكني من حضور حفل فخم ضم علماء كبارا في العلوم الدقيقة فازوا بجائزة الملك فيصل في الدورتين الأخيرتين 2020 و2021؛ فهذا الحضور هو الذي أشعرني بفوزي الحقيقي. الفائدة الثانية، هي أن هذه الرحلة أتاحت لي فرصة للاقتراب من المجتمع السعودي بمختلف فئاته الاجتماعية وتعرّف مشكلاته وعقلياته وكذلك التحول الاجتماعي والاقتصادي الذي يطرأ على البلد. الفائدة الثالثة هي تعرف صورتنا المغربية في مرآة من التقيت بهم. أما الفائدة الرابعة، فهي أنني تمكنت من الحديث عن البلاغة الجديدة في الرياض وجدة والمدينة المنورة، بل وفي كل مناسبة سئلت فيها عن موضوع الجائزة التي حصلت عليها. الفائدة الخامسة هي أنها رحلة تستحق أن تتحول إلى نص مكتوب لما تحمله من صفات النص الرحلي الذي يقوم على تفاعل الكاتب بالمكان وتعرفه على سماته وسرد مغامرته. فرحلتي هذه مغامرة حقيقية لم تخل من مواقف مشوقة وطريفة ومفيدة.
شكر وتقدير..
بعد عودتي للمغرب، أتوجه بالشكر لمؤسسة الملك فيصل التي وفرت لي كل الظروف لحضور حفل التكريم، رغم الصعوبات التي فرضتها ظروف الوباء، كما أشكر الدكتور عادل عاطف على استضافته لنا طوال مقامنا بجدة، وأتوجه بشكر خاص لعميد كلية الآداب بتطوان الدكتور مصطفى الغاشي ورئيس جامعة عبد المالك السعدي الدكتور بوشتى المومني ولكل زملائي الكرام الذين شاركوا في تكريمي، ولكل طلابي الذين يغمرونني بمحبتهم ويمنحونني الأمل في تطوير الأسئلة التي أثرتها في كتاباتي.