هذه سلسلة حلقات في ترجمة خاتمة المحققين بتطوان العلامة أحمد بن محمد السلاوي، ننشرها منجمة بصحيفة (الشمال) الغراء، تعريفاً برجالات الحضرة التطوانية، ونبوغ أبنائها البررة في مضامير العلم والعرفان، ورجاؤنا أكيد أن تمسيَ هذه الترجمة ومثيلاتها مشكاةً للأجيال القابلة، تستلهم منها الفكرة والعبرة.. ولأجل هذا تُكتب تراجم النوابغ، وويل لأمة لا تستهدي بشموعها!
مقدمة :
لقد أنجبت تطوانُ طرازاً من الرِّجال نكاثرُ بقيمتهم في علمائنا العاملين، ونفاخرُ بآثارهم في محافل القلم، وكان بعضهم أصحابَ عملٍ لا شهرةٍ، وللشّهرةِ بهارجُ وتهاويلُ تزيغُ بها الأبصارُ، وربما لا تجدُ من ورائها علماً، أو نبوغاً، أو إحسانَ بلاءٍ، لكنَّ تصاريفَ الدّنيا تسوّي بين السَّابقِ والمتخلِّف، وأحكامَ الهوى ترفع وتخفض بغير ميزان!
وإني لأعجبُ فرطَ العجبِ مما تحيّفَ شيخَ الجماعة أحمد السلاوي التطوانيّ من ضروبِ العقوق، وألوانِ الغبن، فلا تجد لاهجاً بفضله، أو ذاكراً لإحسانه، أو ساعياً إلى تخليدِ ذكراه، مع شفوف قدره في التَّدريس والفتوى، وإجماع المترجمين به على قوَّة عارضته في العلوم. ولولا تراجمُ معدودةٌ عُقدت له في هذا المصدر أو ذاك، لسقط اسمه من عداد العلماء والمفتين؛ بل إنَّك لو سألتَ من أهل تطوان، اليوم، باحثاً عن مكانةِ الرَّجل أو تفاصيلِ من سيرته، لحار في الجواب، وذهب في الاعتذار عن جهله كلَّ مذهب. أما أهل الخبرة بأعلاقِ التراث ومعادنِ الرِّجال فيدركون مكانة السلاويِّ بين علماء عصره، ويطيلون غرَّة الثناء عليه، ومنهم شيخنا الفقيه المحقِّق محمد بوخبزة الحسنيُّ الذي وقف على طُرره على كتاب (سعود المطالع) للأبياري، واستجادَ تفنّن صاحبها في العلوم، وكانت هذه الاستجادةُ مثارَ فضولي واستطلاعي، فأكببتُ على جمع أخبار الرَّجل، وتلقّط فتاويه، وما زلت أظفرُ منها بالجديدِ المستطرَفِ حتى استوتْ مادَّةُ الترجمة، وتجلّت معالمُ بنيانها، ثم أرجأتُ التَّحريرَ إلى فسْحةِ فراغٍ يجودُ به الزَّمنُ في غمرة الشّواغل والصّوارف.
أما المهيعُ في هذه التَّرجمة فما ترسّمته في التراجمِ السَّابقةِ من معاييرِ الإنصافِ والحيدة وَوِزْنِ الرِّجال بأعمالهم، وتجنّب الغلوِّ والاستطالةِ في الحكم عليهم، واطّراح الألقابِ الجوفاءِ التي أسرف النّاقصون في خلعها على النَّاقصين، حتى ملأتْ دنيا العلم زوراً وغروراً ! ولله درّ القائل : إن ( سِيَر النوابغِ كالنّصوص يجب أن تؤخذ كما هي وإلا أفسدت القدوة )(1) ، لكنَّ الجناة على التاريخ، والعابثين بالحقائق، لا يقيمون وزناً لحرمة العلم، وأمانة الرواية، وجلالِ العبرة، فيَضلّون ويُضلّون!
ومن الإنصافِ أن أشيرَ هنا إلى أنَّ ترجمةَ مؤرخ تطوان أحمد الرهونيّ لشيخه أحمد السلاوي هي نواةُ هذا الكتابِ، ومنها تناسلت أخبارهُ، وتشقّقت مباحثهُ، وكلَّما كان المترجِمُ لصيقاً بالمترجَمِ به، وعارفاً بأحواله وأطواره، إلا وكان حكمُهُ أجرى على العدل، وأوفى بالسدّاد، وأقربَ إلى إصابة المحزِّ. ولم أكد أشرع في التَّحرير، حتّى زفَّ إليَّ الباحثُ المؤرخ الأستاذ عبد اللطيف السملاليُّ وجودَ ترجمةٍ للسلاويِّ منشورةٍ في مجلة (الاتحاد) بقلم نعمة الله الدحداح اللبنانيِّ، ومكّنني الأخ المذكور ـ مشكوراً مأجوراً ـ بصورة منها، فطالعتها واستفدتُ منها فوائدَ عن نسبِ المترجَم وأسرته، مما لا نقع عليه في ترجمةِ الرهونيّ، مع أنه مصدرُ الدَّحداح فيما حرّره، ورافدهُ في ضبط الأوصافِ الخِلقيَّةِ والخُلقيّةِ.
واللهَ نسأل أن يجعل هذا العمل مجلى قدوةٍ، ومستفادَ عبرةٍ، ومبعثَ ذكرى، ويتقبَّله خالصاً لوجهه، يوم لا ينفع مالٌ ولا بنونٌ إلا من أتى الله بقلبٍ سليم، إنه وليُّ ذلك والمليءُ به.
المبحث الأول:
مصادر ترجمته:
لا يظفر الباحثُ في ترجمةِ شيخ الجماعة أحمد السلاويِّ التطوانيِّ بأخبارٍ مستفيضةٍ عن أطوارِ نشأته وتعليمه، ونشاطهِ العلميِّ؛ وغايةُ ما تنتهي إليه يدُ التصفّح نبذٌ وتفاريقُ عن هذا الملمحِ أو ذلك من سيرة الرجل، وهو اهتضامٌ لا يتناسبُ وسموَّ منزلته بين عصرييه، ولا يعكسُ قوّةَ عارضته في العلوم، وتصرفَّه في الفتوى تصرّفَ الحذّاق الرَّاسخين. ولولا الترجمةُ الحافلةُ التي عُقدت له في ( عمدة الراوين) لتلميذه الرهونيِّ، وأزاحت حجب النِّسيان عن بعض أخباره وفضائله، لكان اسماً مغموراً، وخبراً مطويّاً، وصدى متلاشياً في الأفق التطوانيِّ !
وليس لديَّ من الأسباب والدَّواعي التي أُعلِّل بها نزورَ المادة الإخباريَّة عن مترجَمنا، وصدوفَ أرباب التَّراجم والسِّير عن التَّعريف به، إلا أن يكون حظه المنزور من بضاعة التأليف، وضياع فتاويه التي لو جمُعت بين جانحتي كتاب، لأظفرته صيتاً، ونباهةً، وصيرورةَ ذكرٍ عند المترجمين. وكلُّ ما وُجد له لا يعدو حاشيةً على كتابٍ، أو تقييداً في نازلةٍ من نوازل عصره وقطره، أو قطعاً من إنشائه وخطبه.
وشرطُنا في هذا المبحث حصرُ مواردِ ترجمةِ الرّجل، وترتيبُها على وفق معيار الأصالة والأقدميّة، والناَّظمُ بين أكثريَّةِ هذه الموارد المشربُ التطوانيُّ؛ فإمَّا أن يكون المصدر خاصاً بتاريخ تطوان، وإمَّا أن يكون محرّر الترجمةِ من أهل تطوان، وكفى بذلك قرينةً ناهضةً على أن نباهةَ مترجَمنا لم تتعدَّ نطاقَ بيئته وأهله إلى آفاقٍ أرحب.
1 . فهرسة عبد الله الكامل الأمراني ( ت 1321 هـ )(2)
هذه الترجمة خفيفة في جرمها، كبيرة في عائدها، ولعلها أول ما حُرِّر من تراجم الرجل بالنظر إلى وفاة تاريخ صاحب الفهرسة، ومن فوائدها: بيان شيوخه، والكتب التي اضطلع بإقرائها بحلق فاس كصحيح البخاري، ومختصر خليل، وتحفة ابن عاصم، وألفية ابن مالك، وهذه الجوانب مسكوت عنها في المصادر الأخر التي لم تعن بنشاط المترجم به في فاس، ومساره في التحصيل؛ إلا ما كان من لُمعٍ واردة عند الكاتب نعمة الله الدحداح، وهي مقتسبة _ على الغالب _ من موارد بعض التلاميذ.
2 . مقال عن ترجمة أحمد السلاويِّ لنعمة الله الدّحداح اللبناني ( ت 1356 هـ)(3)
حرّر هذه الترجمةَ ترجمان الإقامة العامة بتطوان الأستاذ نعمة الله الدَّحداح اللبناني، ونشرها بجريدة (الاتحاد) التي رأس تحريرها، في أربع صفحات موزَّعة على عمودين، وقد حاز المقالُ الجائزة الثانية للنثر في الأسواق الأدبية لسبتة سنة 1928 هـ .
والجديدُ المستطرَف في هذه التَّرجمة أنها حقَّقت القولَ في نسبِ المترجَم به، ورفعته إلى أصوله الأندلسيِّة، ثم أفاضت في تتبُّع أخباره الأسريَّة، مع انفرادها بمعلوماتٍ قيِّمةٍ عن مرحلة التَّدريس بفاس. وكان المترجِم إذا قال: ( حدّثني بعض الثقة من معاصري الفقيه السلاوي)، فالرّاجح أن يكون محدِّثه الفقيه الرهونيُّ، وتؤنس لهذا الترجيح ثلاث قرائن: الأولى: أن الرهونيَّ تلميذُ المترجَم به، وأعرفُ الناس به، والثانية: تطابق المادة الإخباريَّة في جوانبَ من الترجمة؛ ذلك أنَّ ما ساقه الرهونيِّ عن خصال شيخه، هو عين ما ورد عند الدَّحداح، مع اختلافٍ ملحوظٍ في الصّياغة، والثالثة: وثوق الصّحبة بين الرهونيِّ والدَّحداح على أفادني به أحد أقارب صاحب (العمدة)؛ إذ كانت تلتئم بينهما مجالسُ مذاكرةٍ ومفاوضةٍ على مُددٍ متقاربةٍ.
مهما يكن من أمرٍ فإنَّ مقالَ الدَّحداح أقدمُ ترجمةٍ منشورةٍ للسلاويِّ، مع وفور مادَّتها، وسبقِها الملحوظِ إلى اقتناصِ معلوماتٍ مفيدةٍ لا يكتملُ إطار الصورة إلا بها، وهي ـ من حيث الأصالةِ والأهميَّة ـ تقتعد المرتبة الثَّالثة بعد ترجمةِ تلميذيه الأمراني(4) والرهونيِّ.
3 . عمدة الرّاوين في تاريخ تطاوين لأحمد الرهونيِّ ( ت 1373 هـ )(5)
إنَّ المترجمين للسَّلاويِّ عالةٌ على صاحب (عمدة الراوين)، ومن مائدته الإخباريّةِ يقتاتون؛ إذ كان التلميذُ خبيراً بأحوال شيخه، وأطواره، ومناقبه، فجلّى منها ما جلّى، وسبقَ إلى فوائدَ وفرائدَ لا تجدها عند غيره، وصاغَ ذلك كلّه بأسلوبٍ مسجوعٍ، ومبالغةٍ ممجوجةٍ، على عادة كتاب التراجم إذا برّحت بهم العاطفة، وأفلت عندهم زمام المعيار، وكالوا المديحَ بغير حساب ! ودونك طالعةُ الترجمةِ؛ فقد رُصّت فيها التَّحلياتُ الفخمةُ رصّاً، ولا يكاد ينطبق بعضها إلا على الأئمة الأربعة !
بيد أن التَّرجمةَ أصيلةٌ في بابها، ورائدةٌ في الكشف عن جوانبَ محجوبةٍ من السّيرةِ، كالجانبِ الأسريِّ، والجانبِ الخلقيِّ، والجانبِ المهنيِّ، والجانبِ العلميًّ؛ بل إن تذييلها ـ أي الترجمة ـ بنماذجَ من التَّقاييد والفتاوى، وسّع من دائرة الجدّة والإطراف، وأتاحَ فرصةَ الحكم على النتاج النوازليِّ للمترجَم به، وإن لم تلتئم منه مادةٌ غزيرةٌ، ومُثلٌ وافيةٌ.
4. النجوم السوابق الأهلة، فيمن لقيته أو كتب لي من الأجلة لعبد الحي الكتاني (ت 1382 هـ )(6).
وردت هذه الترجمة في كتاب (النجوم السوابق) للكتاني، والمترجم به من الأعلام المائة الذين ضمّهم الكتابُ بين جانحتيه، وهم ممن لقوا المؤلف، أو كاتبوه، أو أجازوه على ما يلوح من العنوان. ولما كانت هذه الترجمة غميسةً، ومصدرها مخطوطاً، وصاحبُها من أهل البصر بالرجال وطبقاتهم، فإن من المفيد نقلها بنصها:
( ومنهم: أبو العباس أحمد السلاوي، وبه شهر، التطوانيُّ العلامةُ المشاركُ رئيسُ الفتوى هناك. ورد على فاس زمن الوقعة التطوانية، حاط الله تعالى الإسلام وبلاده وحماه الكفر وأهله، وألقى الدروس العدة بها، وحضره إذ ذاك جماعة منهم: مجيزنا أبو محمد عبد الله الكامل العلوي، وأرسلت أستدعيه في الإجازة، فاعتذر بعدم المعرفة ، وله ألفت رسالتي : ” الإجازة إلى معرفة أحكام الإجازة “، ولم تصله، وقال بعد ذلك لمن أُرسل يستدعيه كما عندي بخطه: ” إن تقلد أبو محمد عبد الله الكامل ذلك، وأجاز لكم، فأنا تابع له، وسيأتي ذكر المذكور في جملة من أجازنا من حرف العين. توفي ـ رحمه الله ـ بعد ذلك بتطوان)(7).
5 . ترجمة أحمد السلاوي لعبد الحفيظ الفاسي الفهري ( ت 1383 هـ )(8)
نقل المؤرخ الأستاذ محمد داود في كتابه : (عائلات تطوان) ترجمةً للسلاويِّ بقلمِ العالمِ المحدث عبد الحفيظ الفاسي، وإذا كان الجزمُ بمصدر هذه الترجمة متعذِّراً؛ لكون النّاقلِ لم يصرِّح به على عادته في العزوِ إلى أصول التراجم، فإن الغالبَ على الظنِّ أن الفاسيَّ ترجمَ بالسلاويِّ في كتابه المفقود: (روضة الجنات في ذكر شيخنا الوالد وأشياخه وما لهم من المناقب والحسنات)؛ ويؤنس لذلك أن الترجمة لا تشذّ عن شرط الكتاب من وجهين: الأول: التَّصريحُ بملازمةِ محمد الطاهر الفاسيِّ لدروس السلاويِّ بفاس: (.. فلازمه الشيخ الوالد مدة مقامه في فاس، في قراءة بعض مختصر خليل، وتحفة ابن عاصم، وألفية ابن مالك، وأوضح ابن هشام وغير ذلك..)(9)، والثاني : تعداد حسنات السلاويِّ من تحقيقٍ، وتمهّرٍ، وتفنّنٍ، وجودة إلقاء: (وكان رحمه الله إماماً دراكاً وعلامةً ماهراً محققاً نفاعاً، حدثني الشيخ الوالد ـ رحمه الله ـ أنه لم ير مثله في حسن التلخيص والتحصيل وجودة الإلقاء..)(10)، والأمران معاً يدوران في فلكِ عنوان (روضة الجنات). أما عن طريقة اطلاع مؤرخنا داود على هذه الترجمة مع كون مصدرها مفقوداً إلى يوم الناس، فالذي أستروح إليه أن عبد الحفيظ الفاسيَّ أمدّه بها بطلبٍ منه، وكان بينهما من وشائجِ الصّحبة ورحم العلم ما يتيح ذلك.
مهما يكن من أمرٍ فإن ترجمةَ الفاسيِّ من أجودِ التراجمِ صوغاً، ودقةً، وإنصافاً، ومورده فيها صحيحٌ وقريبٌ من المترجَم به، ومن أخبرُ بالشيخ من تلميذه الذي لازمه وأكثر عنه، فكيف إذا طالت الملازمة وامتدت سنين ذوات العدد ؟ والفاسيُّ إنما ينقل في الترجمة عن والده محمد الطاهر، ويصرّح بذلك قائلاً : ( حدثني الشيخ الوالد ـ رحمه الله ـ أنه لم ير مثله في حسن التلخيص.. )(11)، وناهيكَ بحديثِ عالمٍ محقِّقٍ إذا وزن الرجال، وميّز أقدارهم بالأعمال، فإن كانوا من شيوخه أو خلصانه فذلك أدعى إلى مزيد إنصافٍ وإحسانٍ.
يتبع
الهوامش:
- آثار محمد البشير الإبراهيمي، 4 / 339.
- انظر: فهرسة الأمراني، ص 68 . وقد جمعها تلميذه عبدالحفيظ الفاسي.
- انظر: مجلة الاتحاد، العدد: 17، 18، 19، 1928 م. وقد أطلعني على المقال الأستاذ المؤرخ عبداللطيف السملالي مشكوراً.
- فهرسة الأمراني جمعها عبد الحفيظ الفاسي باسمه.
- انظر: عمدة الراوين للرهوني، 6 / 168 .
- انظر: النجوم السوابق الأهلة للكتاني، ( مخطوط مكتبة الحرم المكي)، ص 21 .وقد أطلعني على هذه الترجمة الأستاذ المؤرخ عبداللطيف السملالي مشكوراً.
- نفسه.
- انظر: عائلات تطوان لداود، 3 / 150.
- نفسه.
- نفسه.
- نفسه.