كتابات في تاريخ منطقة الشمال:
“القصر الكبير: أعلام أدبية، علمية، تاريخية”
صدر كتاب “القصر الكبير: أعلام أدبية، علمية، تاريخية” للأستاذ محمد بن عبد الرحمان بن خليفة سنة 1994 في ما مجموعه 153 من الصفحات ذات الحجم المتوسط، وذلك ضمن منشورات جمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبير. والمؤلف من مواليد سنة 1937 بالقصر الكبير، التحق بالعراق سنة 1958 لاستكمال دراسته العليا، حيث حصل على الإجازة في التاريخ سنة 1963. وقد اشتغل منذ ذلك التاريخ بالتدريس بالثانوية المحمدية بالقصر الكبير، وله عدة إسهامات ودراسات تاريخية صدر البعض منها ضمن منشورات جمعية للبحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبير والتي سبق أن عرفنا بالبعض منها ضمن حلقات “كتابات في تاريخ منطقة الشمال”.
وبالنسبة للكتاب موضوع تعليق هذه الحلقة، فإنه يندرج في إطار المحاولات الجادة التي استهدفت إعادة كتابة تاريخ أعلام مدينة القصر الكبير استنادا إلى حفريات دقيقة وإلى تصانيف توثيقية رائدة جعلت هذا العمل يسد ثغرة أساسية اكتنفت مجال دراسة ماضي المدينة المذكورة، ويلبي الحاجات المعرفية لجمعية البحث التاريخي والاجتماعي من أجل رد الاعتبار للقيم الحضارية والرمزية التي اختطها رجال القصر الكبير بإسهاماتهم العلمية والثقافية، حسب ما عكسته الكتابات التاريخية لمرحلتي العصور الوسطى والحديثة. ولقد لخص الأستاذ بن خليفة أبعاد هذا الأفق المعرفي، عندما قال محددا أهداف الدراسة في مقدمة الكتاب: “إن الدافع لإنجاز هذا المبحث المتواضع هو ما لاحظته من وجود حاجة ماسة إلى التعريف بالحياة الأدبية والعلمية لمدينة القصر الكبير عبر تاريخها الطويل، وما كان لها من إسهامات في مد المجرى العلمي والأدبي بمادة الحياة لهذا البلد الكريم، وتحت تأثير الشعور بحاجة هذا الجيل الصاعد من أبناء الأمة إلى التعرف والاطلاع على تراث أمتهم الفكري والحضاري، وتحسيسهم بأهمية ذلك، وشعورا مني بهذا الواجب المقدس تجاه مدينتي العزيزة وأمتي الكريمة، فقد بذلت المجهود من أجل تحقيق هذه الغاية الشريفة والمقصد الأسمى…”.
ويمكن القول، إن الأستاذ بن خليفة قد نجح –إلى حد بعيد- في الوفاء لهذا الطموح النبيل وفي كسب رهان التأسيس لمشروع إعادة التوثيق العلمي للسير المادية والذهنية لرجالات القصر الكبير ولرموزها التاريخية الخالدة. فالكتاب غني بالمعلومات السير-ذاتية وبالإحالات المصدرية، ومنسجم مع ضرورات الكتابة التأريخية المنقبية، صارم في غربلة المعطيات وعزل الصحيح منها عن المشكوك فيه، منفتح على الإضاءات التاريخية المرتبطة بالظروف العامة التي عاشت فيها كل شخصية من الشخصيات التي تم التعريف بها سواء على المستويات الفكرية أم الثقافية أم السياسية أم الاجتماعية. وبذلك، قدم بن خليفة عملا غير مسبوق في تاريخ مدينة القصر الكبير بشكل جعله يتحول إلى واحد من أهم المراجع التوثيقية لسير رجالات هذه المدينة العريقة في العلم وفي المعرفة، والتي غطى إشعاعها مجالات واسعة من منطقة الغرب الإسلامي خلال العصر الوسيط بكل خاص.
وبالنسبة لطريقة ترتيب مضامين الكتاب، فقد انسجمت مع طبيعة المحتويات، إذ لم تخضع لتبويب موضوعاتي يميز بين قضايا بعينها، ولكن المتن انساب بشكل سلس معرفا بمجموعة من الشخصيات التي أنجبتها مدينة القصر الكبير واكتست بعدا ساميا ساهم في التأصيل لخصوصيات الثقافة المغربية خلال القرون الماضية. وبما أن الأمر يتعلق بمجال الفكر والإبداع، فقد خصص المؤلف تقديم الكتاب لتضمين نبذة عن تاريخ الحركة الأدبية والثقافية بمدينة القصر الكبير، وهي النبذة التي استخلص المؤلف –من خلالها- مكانة المدينة المذكورة، بالنظر لما عرفته من حركة علمية ومن نشاط أدبي امتد منذ بداية عهد المرابطين وأفرز أسماء وازنة اهتم بها كتاب التراجم بالمغرب وبالأندلس. وقد حرص المؤلف في رصده هذا، على التأكيد على أهمية توافد عناصر أندلسية على المدينة وعلى قيمة عطاءاتها الفكرية، بشكل تحولت معه القصر الكبير إلى “مدينة ذات طابع أندلسي حضاريا وبشريا”. وإلى جانب هذا المعطى، انتبه المؤلف –في نفس السياق- إلى الدور الذي اضطلعت به عوامل أخرى حاسمة في انبعاث تراث حضاري إنساني شكلت مدينة القصر الكبير معقله الأساسي وشكلت مختلف أصقاع العالم الإسلامي مجالات إشعاعه، من ذلك ولع القصريين بالرحلات العلمية والهجرة إلى الأقطار الأخرى مثل الأندلس ومصر والشام والعراق طلبا للعلم ولنيل الإجازات، واستقرار أسرة أبي مدين العثمانية القصرية بالمدينة على عهد المرينيين بما عرف عنها من مكانة سامية داخل دواليب الدولة وداخل حقل الإسهامات العلمية والأدبية، إضافة إلى الأهمية التعليمية التي كانت للجامع الكبير بالمدينة وكذا تلك الأدوار التلقينية التي امتازت بها الزوايا عل مستوى نشر المعارف وتنشيط الحركة العلمية وعلى مستوى تحقيق الإشباع الروحي لساكنة المدينة.
وبالنسبة للمضمون الأساسي للكتاب، فقد قدم فيه المؤلف معلومات ومعطيات أساسية شكلت تراجم لرجالات العلم والآداب ممن نشأ أو حل بالقصر الكبير على امتداد القرون الطويلة لتاريخ المغرب. من هؤلاء العلماء، نذكر ابن المدرة القصري، وأبو الحسن علي بن خلف بن غالب، ومحمد بن أبي الطواجين الكتامي، والفقيه العلامة عبد الجليل القصري، وابن رشيق القصري المالكي، والعلامة عبد القادر بن علي الفاسي القصري،… وقد اعتمد الأستاذ بن خليفة في استيفاء معلوماته على أمهات المصادر العربية الإسلامية للفترة المدروسة مثل “الذيل والتكملة” لابن عبد الملك و”مرآة المحاسن” للعربي الفاسي و”كتاب العبر” لابن خلدون و”دوحة الناشر” لابن عسكر الشفشاوني و”مناهل الصفا” للفشتالي و”الأنيس المطرب” لابن أبي زرع و”نشر المثاني” للقادري… وهي المتون الإسطوغرافية الأساسية التي ظلت تكتسي قيمة محورية في كل مشاريع كتابة تاريخنا المحلي والوطني والإقليمي قديما وحديثا، وذلك على الرغم من كل الصعوبات المنهجية المرتبطة بعوائق استغلال مضامينها، وبانغلاق بنيات خطابها، وبمشاكل توظيف معطياتها. لذلك، فالمؤكد أن الأستاذ محمد بن خليفة قد بذل جهودا مضنية في التنقيب بين سطور هذه المصنفات المغلقة وفي فك الطلاسيم المعرفية المرتبطة باضطراب السياقات التاريخية وبمحدودية عطاءات الكتابة السردية/الحدثية، وبغموض التعابير والصيغ المستعملة. وفي هذا الجانب بالذات، تكمن أهمية العمل الذي أنجزه هذا الباحث، فالرجل ظل حريصا على تقديم أكبر قدر من المعطيات حول سيرة كل واحدة من الشخصيات التي تناولها في كتابه، مركزا على التعريف بظروف العصر الذي نشأت في هذه الشخصية، وبالمراحل التي مرت منها في مسيرتها التكوينية، وبعطاءاتها الفكرية، وبمجالات اهتماماتها، مع الحرص على تقديم نماذج من هذه الاهتمامات كلما سمحت المادة المصدرية بذلك. إنه سجل خلود أعلام القصر الكبير في سيرتهم الخاصة المرتبطة بتقلبات ظروف الحياة، من الميلاد إلى الوفاة، وفي انشغالاتهم الذهنية التي جعلت مدينة القصر الكبير تتحول إلى إحدى أهم منارات العلم والمعرفة بين حواضر المغرب الأقصى خلال مرحلتي العصور الوسطى والحديثة.
ولعل مما أضفى قيمة علمية على هذا العمل، عدم اكتفاء صاحبه بالاستنساخ “السهل” والسطحي من المصادر الأساسية، في مقابل التدقيق في الروايات، مقارنا بعضها ببعض، ومصححا لبعض هفواتها، ومنبها لبعض أشكال الاضطراب في سرد الوقائع، ومتحفظا في أحكامه بخصوص القضايا التي ظلت غامضة أو في حاجة إلى مزيد من الضبط والتحقيق. وعندما كان الأستاذ بن خليفة يصطدم بنقص في المادة المصدرية، فإنه لم يكن يتردد –وبتواضع الباحثين الكبار- عن الإشارة إلى ذلك وعن التنبيه إلى محدودية معارفه بخصوص الشخصيات المعنية بهذه الصفة. ولعل في ما كتبه في الفصل المعنون ب”شخصيات قصرية أخرى شبه مجهولة” خير دليل على ما نقول، إذ وضح حدود عمله في هذا الباب قائلا: “عثرت على مجموعة من الشخصيات التي عاشت في هذه المدينة ثم انتقلت إلى غيرها أو حلت بها لفترة زمنية محدودة وفي ظروف مختلفة، إلا أن المعلومات عنها ضعيفة، وقد ورد ذكرها في مصادر متباينة غير أن ترجمتها في تلك المصادر كانت موجزة فلم تف عادة بمراد التعريف بالمترجم ولم تغن باحثا أو مستقصيا للأخبار بل أن بعضها جاء على سبيل الإشارة والاقتصار على ذكر الإسم أو وقع التعريف بها في كتب لم نستطع لها بلوغا…” (ص ص. 146-147). وإذا أضفنا إلى هذه الصفة تماسك اللغة التي كتب بها هذا العمل ووضوحها وسلاستها، أمكن القول إن كتاب “القصر الكبير: أعلام أدبية، علمية، تاريخية” يشكل إضافة نوعية لمجال البحث العلمي المتخصص في تاريخنا المحلي، بشكل يسمح بتوفير العناصر الأساسية لمشاريع توسيع هذا المجال في إطار الدراسات المونوغرافية المجهرية الخاصة برصد تحولات ماضي مدينة القصر الكبير خلال العهود السالفة.
وبالنسبة لجمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبير، فلا شك أن نشرها لهذا الكتاب قد حملها مسؤولية ثقافية وعلمية استثنائية مادام أن الأستاذ محمد بن خليفة قد وضع أولى لبنات مشروع علمي توثيقي يتطلب الكثير من الجهد ومن الأناة لاستكمال حلقاته المقطوعة، خاصة خلال الفترات المضطربة –سياسيا- من تاريخ المدينة ومعها عموم بلاد المغرب. إنه رهان مستقبلي وتحدي نبيل تظل طاقات الجمعية المذكورة قادرة على كسبه لما عهدناه فيها من حيوية ومن سعي حثيث لإعادة بعث الرموز الخالدة والإضاءات المشعة في ماضي مدينة القصر الكبير.
أسامة الزكاري