لم يعرف شريط فيديو “فكري” جدلا، مثل ما عرفه الفيديو الذي قدم من خلاله الداعية الإسلامي “المقرئ أبو زيد الإدريسي” رواية الدكتور حسن أوريد “رواء مكة” في جلسة ضمن برنامج خليجي يسمى “سواعد الإخاء”، والتي جرت أطرافها داخل ما يبدو أنها خيمة بطابع بدوي شرقي صرف يرجع طرازه إلى أحقاب موغلة في التقاليد العربية القديمة.
و”الجدل” حول الفيديو أثير، سواء من حيث مضامينه العجيبة الواردة فيه، أو من حيث التقديرات الأخلاقية والحقوقية والفكرية التي تضمنها. وعلى رأس هذه التقديرات الوصف “المُحِطُّ” الذي نعت به المقرئ أبو زيد الشباب الذين يهاجرون من دول المغرب العربي، بكونهم حثالة المسلمين، وعلى رأس هذه التقديرات أيضا الحماسة التي تملكت “المقرئ أبو زيد” ودفعت به إلى القول بأن على الطرق الصوفية أن تجعل من رواية “رواء مكة” وِرْدا من أورادها في الأذكار، مثلها مثل كتاب “دلائل الخيرات”.
شخصيا، بحكم التموقع الذي أحصر نفسي بداخله كمهتم بالأدب ومتفرغ له، لم يحظ شريط الفيديو هذا عندي بأيه أهمية متعلقة بما سبق أن أشرت إليه من تقديرات محطة. فأنا أعرف جيدا “الدعويين”، وأعرف على وجه الخصوص “المقرئ أبو زيد”، أعرف كيف يفكر، وأعرف الأفق الذي يرهن به حلمه الأكبر في الاستقطاب. فلا أستغرب لكل هذا الحشو الفكري والأخلاقي والسياسي والأيديولوجي الذي يدفعهم جميعا لمثل هذا ولغيره.
الإساءة الكبرى في تقديري التي استطعت أن ألتقطها من الفيديو، هي التي تعرضت لها “الرواية” نفسها، كفن عظيم استطاعت به أوروبا أن تؤسس وعيها “المَدِينِيَّ”، وتنتقل به إلى التعبير عن آلآم الإنسان وشقائه. واستطاعت به أن تبتكر مفاهيم أدبية وفلسفية عظيمة من قبيل “البطل الإشكالي”، والذي ليس إلا تعبيرا روائيا جماليا عن البطولات والملاحم التي يواجهها الإنسان المعاصر في حياته اليومية، ويخوض بها معاركه الأسطورية مع واقعه المعاصر المرير. وهو ما اختزله “جورج لوكاتش” في توصيفه الدقيق للرواية باعتبارها “ملحمة بورجوازية”.
تحدث المقرئ أبو زيد عن كل شيء في “رواء مكة”، إلا أنه لم يقل عنها أي شيء بصفتها “رواية”.
الرواية “كَوْنٌ” فَنِّيّ تخييلي يتأسس على مجموعة من المقومات تنتفي الرواية بانتفائها..
ولست في حاجة إلى التذكير بها هنا، فالمقام ليس تعليميا ولا مدرسيا، لكن الأمر يحتاج إلى التذكير بأن تبخيس الفن كان وما يزال من بين أكبر الأولويات التي نهضت عليها الإيديولوجيا الجمالية لدى الحركات الإسلامية عبر التاريخ.
في فيديو مشابه حول نفس “الرواية”، تألمت لوضع حسن أوريد جالسا هادئا جنب “أبو زيد” يقرأ عليه بصخب معجمي كبير التأويلات الفقهية المتعلقة بما بشرت به الرواية من مضامين، وضعها المقرئ في خانة مفاهيم لا تمت بأية صلة، كما أفترض، للمتخيل الروائي لدى حسن أوريد الذي يشتغل داخل أفق مغاير في رؤيته للعالم. تأويلات من مثل: التوبة والإلحاد والانحلال والاستهتار بدين الله والانحراف الفكري والسلوكي وكراهية العرب…
تأسفت كثيرا وأنا أرى حسن أوريد يسلم له مصيره الأدبي يتصرف فيه. فقد كنت أرى “الفقه والرواية” جالسين إلى بعضهما البعض. لكن لم أتخيل هذا الانتصار الساحق الذي حققه الفقه على الرواية.
أعرف حسن أوريد جيدا. فالرجل مشبع بالفكر التنويري بشكل عميق. ويعرف أن الرواية لا يمكنها أن تكون بالشكل البشع الذي يراها عليها “أبو زيد” كوعاء “أيديولوجي ديني” تبشيري. ويعرف بمنظور منهجي أكثر وضوحا أنه، إن قُدِّر للرواية أن تكون تبشيرية، فإنها ستبشر بالإنسان وهو يصنع إنسانيته ويطورها ويدفع بها نحو مستقبل تسود فيه قيم العلم والحق والعدل والجمال والحرية والسلام. تبشر بإنسان يؤسس مواطنته القائمة على قيم الديموقراطية والتحديث.
ليس للأمر أية صلة بـ “التحول العَقدي” الذي قد يكون حسن أوريد عرفه. وأقصد هنا بالتحول الرحلة من الشك إلى الإيمان كما نعتها أبو زيد أو أَوَّلها. ففي نظري هذا شأن شخصي محض، ويحق لحسن أوريد فيه أن يعبر كيفما شاء وبما شاء، بل ويحق له أن نُقابل تحوله من جانبنا بكل الاحترام اللازم، والوعي الكامل بخصوصياته الفردية. لكن أن يحول المقرئ أبو زيد الأمر إلى حدث استثنائي، دينيا أو ثقافيا، ويقيم الدنيا في شأنه ولا يقعدها، فأعتقد أن هذا هو التحول الحقيقي بالمعنى الكفكاوي للكلمة.. La Métamorphose
أنا واثق أن حسن أوريد كان ينصت إلى “أبو زيد” وهو يختلف معه مطلقا. لأن أوريد يعلم أن الرواية :
ـ تتحكم في نفسها ولا تترك لأحد الفرصة في أن يتحكم هو فيها. فهي من تجعل شخصياتها تقدم نفسها بنفسها عبر”الفعل” و”الحوار”و”الوصف” و”الرؤية” وغيرها من طرائق السرد المعروفة في أبجديات الكتابة الروائية.
ـ أن الرواية تفصل في وعيها ولاوعيها بين المؤلف والسارد داخل العمل التخييلي، ولا تخلط بينهما. حتى وإن تقصد الكاتب ذلك.
ـ أن اللغة في الرواية تتعالى ثم تتعالى كي تصل إلى وعيها الخاص بالعالم. فاللغة مؤسسة اجتماعية ونفسية وذهنية وليست اختيارات معجمية عفوية.
ـ أن الرواية هي الحكاية باللغة وليس بالسند الواقعي.
ـ أن الرواية تناقض الألوهية. بمعنى أنها تطالبك بأن تكف عن أن تكون “إلها” متحكما في مصائر شخوصك، بل أن تكون فقط ساردا متعاونا.
ممكن أن يكون حسن أوريد فيلسوفا ومفكرا ومجددا أيضا. ولما لا، وقد يكون كذلك. لكنه في تقديري لا يمكن أن يتحول إلى ” زادٍ للدعاة”، مخاطبٍ للمثقفين والجامعيين والمتشككين والمستشرقين والمغرضين والماركسيين والعلمانيين “نيابة عن “المقرئ أبو زيد”.
أستحضر هنا مقولة شهيرة للأصمعي..”الشعر نكد بابه الشر، فإذا دخل في باب الخير لان وضعف..”. وقد أقيس عليها “تناصا” لغويا كي أصوغ مقولة موازية وهي أن “الرواية نكد بابها الشر، فإذا دخلت في باب الخير لانت وضعفت”.
إننا في حاجة إلى نظرية جديدة للأدب تتجاوز مفهوم التطهير القديم La catharsis الذي أطلقه أرسطو. في حاجة إلى نظرية قائمة على “التلويث”، وهو معنى ربما سبق لأحمد بوزفور أن دعا إليه. مفهوم جديد سيجعلنا نكف عن تزوير العالم، ونقله للأجيال في صورته الوردية المثالية، ويجعلنا نكف عن أن نجعل الأدب ناقلا بليدا للأديولوجيات الساحقة.
في سياق مماثل أستحضر موقفا مفصليا حدث في تاريخنا الثقافي، وهو أن الجاحظ كان قد تصدى بأديولوجية معتزلية واضحة لمفهوم “أَشِعَرِيِّ” للشعر، إذ اعتبره ببلاغاته المجنحة “جنسا أدبيا” مقدسا ومتعاليا ومتساميا يُجَمِّل الواقع ويزيفه. وبذلك ابتكر إيديولوجية بلاغية جديدة متعلقة بالنثر. واعتبر أن النثر جنسا واقعيا مدنسا و”كَوِنا” فنيا مؤهلا للتعبير عن البطولات والملاحم التي يواجهها الإنسان المعاصر في حياته اليومية، ويخوض بها معاركه الأسطورية مع واقعه المعاصر المرير وليس مع “آخرته”..مع الجهل والظلم والجوع والفقر…..