لا يخفى على كل لبيب أن العلوم الإسلامية تحتل أهمية بالغة في حياة المسلمين المعاصرة، إذ أن خاصية الشمولية فيها تجعلها ممتدة إلى جميع مناح حياة المسلم، فتجمع بين تعزيز القيم الأخلاقية وتوجيه السلوك الإنساني من جهة، وبين الإسهام في بناء التشريعات والقوانين العادلة التي تحقق التوازن بين مصالح الفرد والمجتمع من جهة أخرى. ومن بين أهم وظائف هذه العلوم تحقيق انسجام بين أحكام الشريعة الثابتة والواقع المتغير، بحيث تظل القيم الإسلامية صالحة للتطبيق وفعّالة في معالجة تحديات العصر.
إن التأمل والتحليل لمتون السنة النبوية وشروحها وعلومها، والنظر الفاحص في كتب التفسير والأصول يخلص بالباحث إلى أن السنة النبوية منهج في فهم الخطاب وفي تنزيله وفي استنباط ما لا نص فيه، وفي أداء الفتيا بعد التوصل إلى حكمها، وحفظها. فالسنة النبوية شمس ساطعة تضيء بصائر المهتدين بها، وتحرق جباه الناكصين عنها، فهي حياة لقنديل الإيمان، وحسرة وسموم لأهل الأهواء.
وقد سلك الناس في السنة النبوية طرائق متعددة، وسبلا متفرقة، وخيرهم من هدي إلى الطريق القويم فسلك الطريقة المحمودة والمنهج السليم في تعاملهم معها، فرد المتماثلات إلى أشباهها، وحمل المتفرقات على نظائرها، فما يراه غيره متعارضا هو عنده منتظم ومحكم يرده إلى مماثله، وما زلت قدم من زلت إلا لبعدهم عن منهج النبي ﷺ في تعامله مع السنة النبوية.
والنبي ﷺ كان يجتهد في تنزيل الوحي، ويجتهد فيما لا وحي فيه ويدرب أصحابه رضي الله عنهم على الاجتهاد فيهما، ويطلب منهم الرأي في كثير من القضايا بقوله: “أشيروا علي في…” -أخرجه البخاري رقم (4757)- حتى لقد جعلت الشورى وتداول الرأي من التكاليف النبوية قال تعالى: {وشاورهم في الأمر} (آل عمران:159).
إن الاجتهاد في تنزيل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين بالنظر إلى مآلاتها فريضة بدأت زمن النبوة، ولا تزال قائمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها لدوام تغير أحوال المكلفين زمانا ومكانا وحالا، فالتغير والتبدل سنة كونية، السماء تغير سحابها، والنهر يغير ماءه، والأرض تغير جلدها، والشمس كل يوم لها أفق، ومكة غير المدينة، وعصر النبوة غير عصر الخلفاء الراشدين، وشافعي مصر غير شافعي العراق. وإذا علم من وقائع الناس أنها متغيرة غير متناهية، والنصوص ثابتة متناهية، فما هو المنهج النبوي في تنزيله للأحكام على أرض الواقع؟ وما معالم هذا المنهج؟
للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، قدمت ورقة علميه بعنوان “المنهج النبوي في تنزيل أحكام الشريعة على الوقائع: دراسة تأصيلية في الرؤية والمنهج”، وقد نُشرت ضمن المحور الرابع: “الفقه وأصوله من واقع الانفصام إلى آفاق الاتصال” من الكتاب الجماعي الدولي المحكم الموسوم بــــ: “وظيفة العلوم الإسلامية في الحياة المعاصرة” -ابتداء من ص: 477- والذي شاركَت فيه كلية أصول الدين بتطوان ممثلة في شعبة أصول الدين وتاريخ الأديان، وشعبة الفلسفة والفكر الإسلامي والحضارة، ومجموعة البحث في العلوم الإسلامية: الأصول والمناهج، المقاصد والقيم في سياقاتها المعاصرة، ومجموعة البحث في الحوال الحضاري ومناهج الجدال العقدي والفكري والبحث في التراث، وصدر عن دار إقدام بتركيا، وعُرض لأول مرة بمعرض اسطنبول الدولي للكتاب العربي في أغسطس 2024، جناح رقم C34.
تتناول الورقة تأصيلاً عميقاً للمنهج النبوي في تطبيق أحكام الشريعة على الوقائع، أي كيفية تطبيق الأحكام الشرعية المستنبطة من النصوص على الوقائع العملية بطريقة تتماشى مع مقاصد الشريعة ومصلحة الناس، وهي تحليل علمي لكيفية تعامل النبي محمد صلى الله عليه وسلم مع النصوص الشرعية في سياق الوقائع المتغيرة والظروف المختلفة. وقد عرَضتُ هذا المفهوم ضمن سياق تاريخي وفقهي، بالاعتماد على المنهج النبوي كنموذج أصيل. وحاولتُ بيان أهمية الاجتهاد التنزيلي وتفريقه عن الاجتهاد الاستنباطي، مع عرض نماذج من الاجتهاد التنزيلي من السنة النبوية وبيان معالمه الرئيسية. وتهدف الورقة إلى إثراء الفقه الإسلامي بالمنهج النبوي القويم في التعامل مع مستجدات العصور، وإثبات دلالة السنة النبوية كطريق ومنهج، وإبراز خلود الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان.
اقتضت محاور هذا البحث توظيف المنهجين الآتيين:
المنهج الوصفي: وذلك بتتبع وجمع قضايا ووقائع من عصر النبوة، وتنظيمها في مباحث معينة.
المنهج التحليلي: ويظهر من خلال تفكيك القضايا المستخرجة، واستنباط دلالاتها ومعرفة سياقها ومعالمها.
وقد حاولت مقاربة الموضوع من خلال مقدمة وأربعة مباحث:
المبحث الأول: عرّفتُ فيه الاجتهاد التنزيلي من حيث الأهمية والماهية، وبينت الفرق بينه وبين الاجتهاد الاستنباطي.
المبحث الثاني: تناولتُ فيه السنة النبوية كمنهج عملي شامل، وأكدت على ضرورة الالتزام بالمنهجية النبوية لفهم النصوص وتنزيلها.
المبحث الثالث: سقتُ فيه أمثلة عملية من حياة النبي صلى الله عليه وسلم على الاجتهاد التنزيلي، مثل مراعاة الأعمار والظروف في أحكام الصيام والحج.
المبحث الرابع: استعرضتُ فيه معالم الاجتهاد التنزيلي في السنة النبوية وكيفية والموازنة بين النصوص الشرعية ومصلحة الناس.
ثم خاتمة: اشتملت على أهم النتائج التي خلصت إليها الورقة وهي التأكيد على مرونة الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان، والدعوة لتبني منهج النبي صلى الله عليه وسلم في الاجتهاد التنزيلي لمواجهة التحديات المعاصرة.
وقد خلص البحث إلى مجموعة من النتائج الرئيسية، أبرزها:
إثراء المنظومة الفقهية: يُسهم الاجتهاد التنزيلي في تقديم حلول عملية لتنزيل الأحكام الشرعية على الواقع، مما يُعد إضافة قيمة للفقه الإسلامي.
مراعاة مقاصد الشريعة: ضرورة أن يتم تنزيل الأحكام على أفعال المكلّفين بما يتوافق مع مقاصد الشريعة، لضمان تحقيق المصلحة المرجوة.
تحقيق المصلحة من خلال التطبيق: لا يمكن إدراك المصلحة الحقيقية للحكم الشرعي إلا عند تطبيقه فعليًا على الواقع المعيش.
تكامل الاجتهادين الاستنباطي والتنزيلي: يبقى الاجتهاد الاستنباطي نظريًا وغير واقعي إذا لم يُرافقه اجتهاد تنزيلي يُفعّل الأحكام في الحياة العملية.
السنة النبوية كمنهج شامل: تُعد السنة النبوية منهجًا متكاملًا في فهم الخطاب الشرعي، واستنباط الأحكام في المسائل التي لا نص فيها، وحفظها، وتنزيلها على الوقائع.
مرونة الشريعة: من كمال الشريعة مراعاتها لظروف وأحوال المكلّفين وواقعهم المتغير، مما يؤكد صلاحيتها لكل زمان ومكان.
أهمية اتباع المنهج النبوي: النجاة والفوز يتحققان باتباع منهج النبي ﷺ في تنزيل النصوص الشرعية على الواقع، بينما يؤدي الابتعاد عن هذا المنهج إلى الخسران.
تكامل فقه الشرع والواقع: العلاقة بين فهم الشريعة وفهم الواقع هي علاقة تكاملية، حيث يُسهم كل منهما في تحقيق التطبيق الأمثل للأحكام الشرعية.
ضرورة الاجتهاد التنزيلي المعاصر: التأكيد على أهمية تطبيق معالم الاجتهاد التنزيلي في واقعنا المعاصر لمواجهة التحديات المستجدة وتحقيق مقاصد الشريعة.
هذه النتائج تُبرز أهمية الاجتهاد التنزيلي كأداة فعّالة في تحقيق مرونة الشريعة الإسلامية وقدرتها على التكيف مع متغيرات العصر، مع الحفاظ على مقاصدها السامية.
كما خلصت الورقة البحثية إلى مجموعة من التوصيات المهمة لتعزيز دور الاجتهاد التنزيلي في الفقه الإسلامي وتطبيقه في الواقع المعاصر، وذلك على النحو التالي:
إحياء منهج الاجتهاد التنزيلي: العمل على نشر هذا المنهج وتطبيقه في القضايا الحديثة، لضمان توافق الأحكام الشرعية مع المستجدات والتحديات المعاصرة.
تعزيز الدراسات التطبيقية: إجراء أبحاث معمقة حول كيفية استخدام الاجتهاد التنزيلي لحل المشكلات الفقهية المعاصرة، بما يسهم في تطوير الفقه الإسلامي وجعله أكثر ملاءمة لواقع الناس.
دمج الاجتهاد التنزيلي في التعليم الفقهي: تدريب الطلاب والفقهاء على دراسة النصوص الشرعية من منظور تنزيلي عملي، لتمكينهم من تطبيق الأحكام بشكل يتناسب مع الواقع المتغير، وذلك من خلال إدراج هذا المنهج في المناهج التعليمية وتوفير ورش عمل تدريبية متخصصة.
تطبيق هذه التوصيات من شأنه أن يُسهم في تجديد الفقه الإسلامي وجعله أكثر قدرة على مواجهة التحديات المعاصرة، مع الحفاظ على مقاصد الشريعة السمحة.
تتمثل أبرز التطبيقات العملية التي استعرضتها الدراسة في بيان أهمية اتباع المنهج النبوي في تنزيل الأحكام الشرعية على الوقائع العملية في العصر الحديث؛ فالورقة البحثية تسلط الضوء على كيفية استخدام السنة النبوية كدليل عملي لفهم النصوص الشرعية وتنزيلها على الواقع المتغير، مع تحقيق التوازن بين النصوص والمصالح المتجددة للمكلفين.
من بين الإسهامات المهمة للدراسة أنها توفر نموذجًا متكاملاً للاجتهاد التنزيلي، وتوضح معالمه وأهميته في الفقه الإسلامي، حيث يتمكن الباحثون من اعتماد هذا المنهج للتعامل مع القضايا المستجدة، مع الحفاظ على مقاصد الشريعة وسلامة التطبيق. كما أن الدراسة تبرز دور النبي ﷺ في تدريب الصحابة على الاجتهاد ضمن إطار منهجي، مما يؤكد أن الاجتهاد التنزيلي ليس اجتهادًا فرديًا فحسب، بل هو مسؤولية جماعية تتطلب تداول الآراء والشورى.
إضافةً إلى ذلك، تُقدم الدراسة دعوة متجددة للمفكرين والباحثين في العلوم الإسلامية إلى إعادة النظر في قضايا الفقه المعاصر بمنهجية نبوية تُبرز مرونة الشريعة وخلودها. وتضع هذه الدراسة أسسًا عملية للتعامل مع النصوص الشرعية في سياق التغيرات الزمانية والمكانية، مما يجعلها أداة قيمة للتجديد الفقهي ومواجهة التحديات المعاصرة.
أشرف لعروصي