تشهد أوروبا موجة جديدة للوباء بدأت بدولها الشرقية ثم الشمالية لتزحف نحو الجنوب.
و تتجند كل مؤسسات هذه الدول و إعلامها و أجهزتها العلمية والطبية من أجل مواجهة هذه الموجة و التخفيف من حدتها في ظل تخوفات من تزامنها مع ظرفية انتشار الفيروسات التنفسية الأخرى خاصة الأنفلونزا، وكذلك في ظل تأكد معطيات عن انخفاض الحماية التي توفرها اللقاحات بعد ستة أشهر من أخذها، ثم من جانب آخر بسبب عدم تمكن أو رفض أقلية لا يستهان بها للتلقيح والتي تتفاوت نسبها بين دولة وأخرى.
و يؤكد العلماء والأطباء المختصون أن الخطر يكمن في سرعة انتشار فيروس دلتا و كذا في خطورته، حيث يكفي أن ينتشر هذا الفيروس بين خمسة في المائة من مجموع السكان، وخاصة من غير الملقحين وضعيفي المناعة ليشكل ضغطا كبيرا على المنظومات الصحية التي توجد في وضعية حرجة بدورها جراء العياء الشديد الذي أصاب الطواقم الطبية و التمريضية إثر الموجات المتتالية و النقص الذي تعاني منه المستشفيات فيما يخص هذه الطواقم، والذي تزيده تأزما و حدة، هجرة نسبية من هذه المؤسسات التي تفقد جاذببيتها إثر ميل عدد من الأطر التمريضية وشبه التمريضية خاصة، لتغيير مهنتهم والتحول لمهن أخرى أقل قلقا وضغطا، بل إن بعض المستشفيات، في فرنسا مثلا، بدأت تعرف انخفاضا في طاقتها الاستيعابية و في قدرتها على استقبال عدد أعلى من المرضى.
في بلادنا رغم المنحنى الذي يسجله الوباء خلال عدة أسابيع، و خاصة في الأسبوعين الأخيرين، فإن السلطات الصحية لا تستبعد دخولنا موجة جديدة، بحكم علاقاتنا بالدول المجاورة، وبحكم تدرج انتقال الموجات بين القارات والبلدان كما أكدت التجربة السابقة ذلك. ويشكل التلقيح السلاح الأساسي الذي تراهن عليه السلطات الصحية من أجل الحفاظ على المكتسبات التي تجعل الوضعية هادئة ومريحة جدا حاليا، و كذلك من أجل التقليل من حدة الموجة الآتية، حيث إنه كلما تسارعت وتيرة التطعيم بالجرعة الثالثة بالنسبة للفئات المستهدفة، وتقلصت نسبة غير الملقحين التي تبقى مرتفعة شيئا ما، كلما ازدادت عوامل تحصين بلادنا من آثار الوباء.
وكانت الحكومة قد حاولت التشدد في فرض استعمال جواز التلقيح، لكن حدة الاحتجاجات، ثم تراجع انتشار الفيروس بعد صيف مر متوترا و قلقا، جعلها تسلك طريق المرونة والحوار لتبيان فائدة استعمال هذا الجواز والإقناع بضرورة الإبقاء على وسائل الحماية و خاصة الإقبال على التلقيح الذي برهن بالملموس على فعاليته في التقليص من الحالات الحرجة و الوفيات. و في هذا السياق تؤكد السلطات الصحية على أن العودة إلى الحياة الطبيعية أو إلى ما يشبه الحالة الطبيعية مرتبطة بسلوكات الأفراد و كذا بالمسؤولية الجماعية المتمثلة أساسا في عدم الاستهتار بخطورة الفيروس الذي مازال يفاجئ الجميع.
و هكذا فقد عادت عدد من الدول الأوروبية إلى أسلوب التشديد في ظل الموجة الحالية، حيث وصل الحال ببعضها حد استخدام الحجر الصحي والأمر بتعميم التلقيح كالنمسا، في حين طبقت أخرى الطوارئ الصحية (هولاندا، ألمانيا…) و الجواز الصحي (فرنسا) أو جواز التلقيح وكثفت الحملات من أجل التسريع بأخذ الجرعة الثالثة أو على الأصح جرعة التعزيز و التذكير، كما فرضت بعضها قيودا متشددة خاصة على غير الملقحين.
و لم تمر عودة فرض القيود من جديد دون مجابهات بين معسكر الرافضين للقيود و المؤيدين لها على المستوى الافتراضي من جهة و احتجاجات و مواجهات على مستوى الواقع المادي من جهة أخرى، حيث سجلت العديد من الدول توترات جراء ضبابية الوضع و بالتالي انتشار الأخبار الزائفة والحملات المضادة لإجراءات السلطات الصحية الوقائية و تدابيرها الاحترازية، ثم نزول منسوب الثقة في النخب الحاكمة وغيرها من النخب.
وإذا كانت حدة المواجهة تشتد و تضعف حسب الأحوال، فإن تأكيدات جل المختصين في علم الأوبئة و الفيروسات والأمراض المتنقلة تذهب إلى أن كل ما يمكن أن يقال عن المستقبل بالنسبة للحالة الوبائية ما هو إلى فرضيات و يبقى الباب مفتوحا على عدة احتمالات، و إن كان البعض يأمل انفراج الوضع ابتداء من الربيع المقبل.
إن ما تعيشه بلادنا حاليا، بالمقارنة إلى ما يجري في أوروبا، مطمئن بعد التضحيات الكبيرة التي تم تحملها مجتمعا ودولة، و الأمل كل الأمل أن يكون الآتي أحسن، في ظل استمرار التعبئة الجماعية و التحلي بالمسؤولية الفردية، و كذا الانتصار إلى الحكمة و التوافقات سعيا إلى تقليص الهوة بين الدولة والمجتمع لمواجهة هذه الأزمة غير المسبوقة، و ذلك بإعمال وسائل الإنصات والحوار والإشراك و تغليب الآليات الديموقراطية على آليات الإكراه و القوة و اللجوء إلى العنف…
عبد الحي مفتاح