أشرقت جلسة تربوية بنور حاضنها، وجرى الحديث خلالها عن مكابدات الآباء في تربية فلذات الأكباد، فقال خل صفي:
– أبناء اليوم في حاجة إلى ترياق تربوي، وددنا لو وجدنا من يدلنا عليه في مكتبتنا العربية.
قلت: مبتغاك مبثوث في ثنايا وصايا خالدة تستحق أن تكتب بماء الذهب، وتعلق على واجهات البيوت والمعاهد والشوارع.
من أجملها في مكتبتنا التربوية الأندلسية قصيدتان هما: رائية أبي مروان عبد الملك بن إدريس الجزيري.
ونونية أبي عبد الله محمد بن موسى الشهير بابن عمار الكلاعي الميورقي.
في الأولى أبيات يوصي فيها عقبه بالتزام تقوى الله، ونهج صراطه، واتخاذ أقوم سبيل في طلب العلم واستعماله، والحرص على مراعاة حق الأبوة والرحم والجوار فقال:
فعليك تقوى الله فالزمها تفز وحدوده حافظ عليها تؤجر
وصراطه فاتبع مناهج سبله وستوره فاشدد عراها تستر
والعلم ليس بنافع أربابه ما لم يفد عملا وحسن تبصر
فاعمل بعلمك توف نفسك وزنها لا ترض بالتضييع وزن المخسر
ثم اقض حق الوالدين وقم بما فرض الكتاب عليك منه وابدر
ولكل ذي رحم وقريب حرمة ولكل جار فارعها وتذكر
وتضمنت الثانية نصائح مفادها أن فنون الآداب تتحقق بالعلم والاكتساب، ويوصي ابنه بالتحلي بالظرف، والعفاف والاعتدال، والعدل، واتخاذ العقل رصينا، وبر الوالدين، وصلة الرحم فقال:
من الآداب علم واكتساب هما نوعان جمعهما فنونا
وحسن الخلق في الدارين يزكو وفي الميزان تلقاه وزينا
فكن رجلا ظريفا ذا عفاف ومعتدلا وعدل العادلينا
مدار الدين والدنيا بعقل رصين فاتخذ عقلا رصينا
وبر الوالدين وكن شفيقا وصل رحما تكن في الواصلينا
وقريبا من الربوع الأندلسية الزاهرة أقف عند أديبين معاصرين من مدينتين وثيقتي الصلة بالأندلس تاريخا وحضارة وثقافة.
الأول ابن مدينة تطوان الأديب حسن الوراكلي مبدع كتاب “فيوض”.
والثاني ابن مدينة شفشاون الأديب أحمد حسن العمارتي ناسج كتاب “يا بني !..”
قال الأول في رسالة لابنته المغتربة في طلب العلم بالديار الأندلسية:
((ابنتي العزيزة:
هل تذكرين يوم اصطحبتك للتسجيل بمهاجرك…؟ في الطريق وقعت عيناي على مبنى كتب على بابه (مدرسة الترجمة) تقدمت خطوات إلى مدخل المبنى ثم وقفت أجيل نظري في لوحات مثبتة على الحائط استوقفتني إحداها فأخرجت ورقة وقلما وجعلت أنقل من المكتوب في اللوحة. دنوت مني فما أن وقعت عيناك على ما تتضمنه اللوحة من شروط التسجيل في المدرسة حتى بادرتني وأمارات الدهشة مرتسمة على محياك:
– بابا…هذه مدرسة ترجمة، وأنا أريد كلية صيدلة!
تبسمت ابتسامة ذات معنى، وقلت أطمئنك:
– هذه لي وليست لك!
قلت وقد امتزجت على قسماتك أمارات الدهشة بالاستغراب:
– كيف؟!
أجبتك في نبرات من أيقن بما يقول:
– لا داعي للسؤال..إن أباك أحب الترجمة منذ وقت طويل وأولع بها، ولو كان، وهو في أوج تعلقه بها، وجد معهدا أو مدرسة للترجمة لدخله وانتظم في صفوفه. واليوم ها قد حانت الفرصة، بل فرصتان: فرصة الدرس الذي لم يتح له من قبل، وفرصة مرافقة فلذة كبده في درسها الجامعي!…
اتسعت دائرة الدهشة والاستغراب على قسمات وجهك، وقلت في لهجة امتزجت فيها رنة الجد برنة الهزل:
– الله يحقق الآمال!
أعجبني الدعاء، فأمنت…لكنك حين لم تردي فيه بتعليق عما دار بيننا من حديث تبادر إلى ذهني ما قد يكون رابك في عزمي من سن أو (علم).
فسارعت بالإيضاح:
– اسمعي يابنيتي .. ليس من شيء يمكن أن يكون في تصوري عائقا عن متابعة رحلة الدرس والطلب، لا عامل التقدم في السن، ولا عامل الوضع العلمي الذي يكون المرء توفر عليه بشهادة ونحوها…لا شيء من هذا أو غيره بعائق صاحب همة وطموح عما تتشوف إليه نفسه…))
وقال الثاني في رسالة لابنه المغترب في طلب العلم بجامعة أمريكية: ((ولدي،
إن الاستفادة من تجارب الحياة وعلوم مدرستها، لا تقف عند حد أو تنتهي بخط، كما أنها لا تتقيد بفترة معينة من العمر، أو مرحلة من مراحله.
إن الحياة بتجاربها كالبحر الذي نسبح فيه جميعا، كل منا يمتلك قدرة، ويختزن طاقة، ويحسن ضربا من ضروب السباحة. واختلافنا إنما هو اختلاف في درجة تلك القدرة، في نوعية الاستيعاب وكيفية تشغيل تلكم الطاقة، ومعرفة استغلال الإمكانات الذهنية والحسية التي ننعم بها جميعا، والتي هي عطاءات إلهية… إذن فكلنا في باب المعرفة ودنيا الثقافة طالب علم…))
وبعد؛
أفليس ما ثوى في هذه الوصايا من حث على بر الوالدين، واجتهاد في طلب العلم، والتزام بكريم الأخلاق هو الترياق التربوي الذي لو تداوينا به لنجت مجتمعاتنا من الآفات، ولعاشت سليمة من الأوجاع والعلل التي تقض المضاجع؟!
فما أحوجنا إلى كتب تربوية، تجمع بين دفتيها غرر نصوص النثر والشعر التي تحمل في طياتها درر نصائح الآباء والأمهات لفلذات الأكباد، بعدما غدت النفوس تشمئز من سماع حالات الانحراف والتمرد والاعتداء على الآمنين في الشوارع والطرقات.
د.محمد محمد المعلمي