حوار مع الباحث في تاريخ منطقة الشمال، الأستاذ أسامة الزكاري..
درس التاريخ.. مناهج ورؤى وقضايا، وتراكمات البحث في ماضي منطقة الشمال
~الأستاذ أسامة الزكاري، مرحبا بكم ضيفا على قراء جريدة “الشمال”، في حوار نريده أن يكون مفتوحا على مجمل اهتماماتكم الثقافية.
في البداية، أود أن أتوجه إليكم صديقي الكاتب والمبدع عبد الإله المويسي، بتشكراتي الصادقة وبامتناني الكبير، على مبادرتكم بإعداد هذا الحوار مع شخصي المتواضع. وهي مناسبة أستغلها لأشد على أيديكم بحرارة، منوها بالطاقة الجديدة وبالنفس الفعال الذي أضفتموه لجريدة “الشمال”، بعد تحملكم مسؤولية رئاسة هيئة تحريرها، ففي ذلك تجسيد لحلمنا الجماعي في ضمان استمرار جذوة جريدة “الشمال” متقدة، مؤثرة، وراقية، داخل وسط موبوء يحمل في طياته كل عوامل الإحباط و التيئيس والتبخيس.
~نبدأ بسؤال تقليدي، أريد من خلاله أن أضع القارئ أمام أسامة الزكاري. وهذا المطلب هو في الحقيقة ضروري لوضع القارئ ضمن سياقات هذا الحوار على امتداد خريطة جمهور التلقي العربي والإنساني الذي يتابعنا.
أشير إلى أنني من مواليد سنة 1966 بمدينة أصيلا، حيث تلقيت تعليمي الابتدائي والثانوي، قبل أن ألتحق بجامعتي تطوان ثم الرباط لمتابعة التكوين الجامعي. وأعتقد أن سيرتي الشخصية لا تحمل عناصر الاختلاف أو التميز عن ما كان سائدا بالنسبة لجيل نهاية سبعينيات وبداية ثمانينيات القرن الماضي، خاصة على مستوى شروط التكوين الموازي داخل الإطارات الجمعوية والحزبية، في مرحلة تاريخية كانت تعرف تصاعد الخطاب اليساري وامتداداته على مختلف مجالات الفعل السياسي والنقابي والثقافي. هي مرحلة المد الاشتراكي التي صنعت الكثير من التجارب الفكرية والثقافية، وطنيا وعالميا، وجعلتها تتحول إلى إطار مرجعي ناظم في مجمل عناصر بناء شخصيتنا الثقافية. وبموازاة تصاعد المد الاشتراكي وسطوته الإعلامية والتواصلية الواسعة للمرحلة المذكورة، تفاعلنا بشكل كبير –كذلك– مع تصاعد الخطابات القومية التي كانت تهب رياحها من المشرق العربي تحت تسميات متعددة وبحمولات إيديولوجية شتى، جعلت من القضية الفلسطينية محورها المركزي في التنظير لواقع “الأمة العربية” وفي خلق استيهاماتها و تمثلاتها الطوباوية لواقع الحال ولآفاق المآل. وبطبيعة الحال، فإن نرجسية الخطاب و دوغمائية الموقف في ظل سطوة التيارات الاشتراكية والقومية، جعلتني أنخرط –كما هو حال الغالبية الساحقة من أبناء الجيل الذي أنتمي إليه– في مغامرة “تغيير العالم” انطلاقا من قناعات استنساخية وسريعة، كان لابد أن نعود لمراجعتها ولمساءلتها خلال المراحل الموالية، وإلى حدود المرحلة الراهنة.
~واكبتم تجربة جريدة “الشمال” منذ بدايتها. كيف تقرؤون الحصيلة؟
لقد كان لي شرف مواكبة تجربة جريدة “الشمال” منذ صدور أول عدد منها يوم 15 نوفمبر من سنة 1999، كمنبر مبادر، اعتبره المتابعون والإعلاميون أول جريدة جهوية بمعناها الاحترافي الخالص. ولا شك أن الفضل في صناعة تميز الجريدة، وفي ريادتها للتأصيل لقضايا منطقة الشمال، تاريخيا وثقافيا وسياسيا وحقوقيا واقتصاديا واجتماعيا وبيئيا، يعود إلى مهندس الفكرة، ومنفذ المشروع، وصانع توهج المبدأ، المرحوم خالد مشبال. لقد استطاع الأستاذ مشبال تحقيق حلم طال تأجيله، عندما نجح في استقطاب نخبة من كتاب منطقة الشمال ومن مبدعيها ومن مؤرخيها ومن فنانيها ومن مثقفيها، ليجعلوا من الجريدة منتدى مفتوحا على قضايا الفكر والحوار الكفيلة بالتأصيل للهوية الثقافية لمنطقة الشمال، كما تلاقحت تاريخيا، واغتنت معرفيا، وتبلورت في شكل مشاريع ثقافية وفكرية مجددة.
والحقيقة، أني أدين للمرحوم خالد مشبال بالشيء الكثير، فمنه تعلمت معنى الإخلاص في حب القضايا التي نؤمن بها، ومعنى الوفاء في الكتابة، ومعنى الصدق في التقصي، وقبل كل ذلك، معنى احترام المتلقي في كل ما نكتب وفي كل ما ننتج وما ننشر. لذلك، فخالد مشبال يظل مدرس إعلامية رائدة، جمعت بين الاحترافية العالية من جهة أولى، وبين الأخلاق السامية من جهة ثانية، وبين الولع بعشق منطقة الشمال باعتبارها قضيته المركزية في الوجود من جهة رابعة. التقت إرادته مع إرادة رفيقه عبد الحق بخات، باستثمار شبكة هائلة من العلاقات الإنسانية ومن الصداقات الحميمية ومن الثقة المتبادلة ومن المصداقية غير المتنازع حولها، لتثمر هذه الدوحة السامقة المسماة جريدة “الشمال”، خيمتنا الجماعية في الارتقاء بالجهة وفي الاحتفاء بذاكرتها وفي تعزيز مكانتها.
لقد أتاحت لي الكتابة في الجريدة في كل أعدادها منذ سنة 1999 إلى يومنا هذا، فرصا ثمينة للتعرف على أسماء وازنة من الأقلام التي صنعت تميز الجريدة داخل بهاء الحقل المعرفي والثقافي والإعلامي للشمال، من أمثال خالد مشبال، وأمينة السوسي، ومحمد ابن عزوز حكيم، وعبد الصمد العشاب، ومحمد العياشي الحمدوني، وعبد العزيز التمسماني خلوق، وعبد القادر الرزيني، ورضوان احدادو، ومحمد الحبيب الخراز، ومصطفى المرون، وعبد اللطيف شهبون، وزبيدة الورياغلي، والبشير المسري، ومحمد العربي المساري، وأحمد إحدوثن، وعمر أجانا، وعبد الله المرابط الترغي، وخالد سليكي، ورشيد العفاقي، وإدريس علوش، وبوزيد بوعبيد، وأحمد بن يسف، وهدى المجاطي، وأبو الخير الناصري، ونبوية العشاب، ومحمد أبو الوفاء، وعبد الرحيم الجباري،… واللائحة طويلة.
أسماء على أسماء، وتجارب على تجارب، ومبادرات على مبادرات، احتضنتها جريدة “الشمال”، بعد أن جعلت منها منبرا مفتوحا أمام تلقيح الإسهامات، وتجديد الصلة بالتراث الإبداعي الخالد لمنطقة الشمال في مجال النشر الراشد، وفي مجال سوق تلقي المعرفة والفكر والفن والثقافة والتوجيه السياسي النزيه، في ما يمكن أن أصفه بالامتداد الأصيل لعمل جرائد مرحلة الاستعمار ومجلاتها الصادرة بالمنطقة الخليفية، مثل جرائد “الحرية” و”الأخبار” و”الريف” ومجلة “المعتمد” ومجلة “الأنيس”… ففي ظل حالة التردي في مشاريع العمل الإعلامي الجهوي، ظل صوت جريدة “الشمال” صادحا بالتميز، وبالعطاء، وبالقدرة على ضمان الاستمرارية الناجعة في تنظيم الاشتغال على مكونات الهوية الثقافية لمنطقة الشمال، بجناحيها الرئيسيين، منطقة جبالة ومنطقة الريف.
~من المعروف أن الأستاذ أسامة الزكاري من أهم الباحثين المهتمين بحقل الذاكرة الوطنية، حيث أصدرتم عدة أعمال بهذا الخصوص. في نظركم، ما هي حدود العلاقة بين التاريخ والذاكرة؟
بطبيعة الحال، “فدرس التاريخ” الراهن، أضحى يكتسي الكثير من عناصر التجديد والجرأة على طرح الأسئلة المغيبة من بين متون الكتابات والإسطوغرافيات التقليدية، وكذلك المجددة. وكما تعرفون، فعلم التاريخ عرف تطورات منهجية هائلة، جعلت البعض ينحو إلى تصنيفه في مرتبة أعلى من العلوم الإنسانية، وقريبا من سقف اشتغال العلوم الحقة. وداخل هذا المنحى، كان لابد أن يكتسب مجال الدراسة حسا نقديا مؤسسا، يسائل الشواهد، ويفكك المتون، ويعيد تركيب الوقائع على أساس الرؤى التشريحية الفاحصة التي لا تطمئن لليقينيات، في مقابل تقديسها لقيمة السؤال ولفضيلة الشك، وهما من العناصر التي ينهض عليها النقد التاريخي المعاصر، سواء على مستوى طرق تجميع مواد الدراسة، أم على مستوى تصنيفها وتحليلها وتشريحها وتفكيك بناها، ثم إعادة تركيب خلاصاتها ونتائجها. وهي الخلاصات والنتائج التي تبقى –دائما– مفتوحة على رحابة السؤال وعلى أدوات النقد التاريخي، الداخلي والخارجي، كما هو معروف ومتداول لدى الباحثين والمتخصصين.
في هذا الإطار، أصبح الباحثون المتخصصون في ما يعرف اليوم بتاريخ الزمن الراهن، يميزون بين الذاكرة الجماعية من جهة أولى، ثم بين الذاكرة التاريخية من جهة ثانية. فالذاكرة الجماعية تنهض على مجموع التراكمات والمرويات وأنساق التعبير الجماعية التي يحققها المجتمع في سياق تطوراته التاريخية الطويلة المدى، حسب التفسير الذي يقدمه المؤرخ الفرنسي فرنان بروديل. هي ذاكرة تجمع “كل شيء” وتقول “كل شيء”، تستجيب لنهم العاطفة ولانزياحات الذات نحو تحقيق عوالمها النرجسية ونحو “الدفن الرمزي” لأعطابها المزمنة على مستوى الفكر والممارسة. لذلك، فإن الذاكرة الجماعية تحمل كل عناصر التمايز والتنافر والتناقض، بفعل تحررها من صرامة التعاطي العلمي، وبحكم نزوعها نحو الاحتفاء بزعاماتها وببطولاتها وبفتوحاتها، داخل سياقات وظيفية تنتج ركاما من التعبيرات الجماعية غير المتجانسة حول الواقع والتاريخ والوجود. ولعل في سيل المذكرات الشخصية التي تصدر هنا وهناك، خير تأكيد على آفاق هذا النمط من الكتابة على قاعدة استثمار عناصر الذاكرة الجماعية، بأنساقها الثقافية والرمزية المجردة، وبتعبيراتها السلوكية والمادية المباشرة.
أما الذاكرة التاريخية، فهي استقراء تشريحي لمضامين الذاكرة الجماعية، وفق رؤى تفكيكية علمية، تسعى إلى مساءلة المضامين من زاوية القراءة النقدية التي حددنا أهم معالمها أعلاه. فهي لا تقبل باليوطوبيات ولا بالاستيهامات الشوفينية ولا بالأحلام العاطفية النرجسية، بقدر ما أنها تعيد تقييم الوقائع والسياقات والامتدادات من زاوية النقد التاريخي المخلص لأدواته ولمناهجه ولآفاقه، أولا وأخيرا.
~أين يمكن تصنيف أبحاث أسامة الزكاري داخل مدارس البحث التاريخي؟
لا أعتقد أن مثل هذا التصنيف سيكون إجرائيا، فالتاريخ لا يمكن أن يكون تدوينا تقنيا أو توثيقيا استنساخيا للوقائع الماضية وفق مناهج مدرسية “حديدية”، بقدر ما أنه صنعة مكتملة الأركان قائمة على مبادئ مهيكلة أهمها الزمان والمكان والإنسان، ومستندة إلى عدة منهجية واضحة أبرزها التجميع أو التوثيق ثم التفكيك والتحليل فالتركيب. وعلى هذا الأساس، فعملية التوثيق لا يمكن أن تكون إلا حلقة فريدة في عملية بناء المادة التاريخية المستثمرة في الدراسة العلمية. ولعل هذا ما انتبه له المؤرخ عبد الرحمن بن خلدون وهو يوضح –في مقدمته الشهيرة- على أن التاريخ علم “للنظر” و”للتدقيق”. وبما أن الأمر كذلك، فقد أضحى مثيرا تطاول كتاب وباحثين من مجالات علمية مختلفة على هذا الحقل المعرفي، ليس بهدف النهل من نتائج درس التاريخ، ولكن –أساسا- من أجل التحول إلى مؤرخين مفترضين، يؤطرون نقاشات تاريخية ويخوضون في قضايا ماضية ويستخلصون ما يريدون استخلاصه من دون أي تسلح بالزاد المنهجي الضروري لهذا المجال. لقد كان المؤرخ المغربي الراحل جرمان عياش محقا عندما صرخ في إحدى ندواته العلمية برحاب كلية الآداب بالرباط نهاية ثمانينيات القرن الماضي صيحته الشهيرة: “حذار من تاريخ لا يكتبه المؤرخون”. كما كان المفكر المغربي عبد الله العروي دقيقا وهو يميز في كتابه المؤسس “مفهوم التاريخ” بين ما سماه بوظيفة “الأراخ” وبين وظيفة المؤرخ. فالأراخ الإسطوغرافي يظل مهووسا بالتجميع التقني وبالتدوين التحنيطي، منهجيا ومعرفيا، في ظل منطلقات تقليدانية تعيد كتابة النصوص والمدونات المتوارثة وفق رؤى دائرية في تتبع مسار نشأة الدول وتطورها وانهيارها…، تركيزا على الرصد الكرونولوجي الحلقي المتمركز حول سير الحاكمين والنخب وطبقات الأعيان ومجمل السلط المتحكمة في المسار العام لتطور الدولة والمجتمع محليا ووطنيا. أما “التاريخ الآخر”، تاريخ الهامش، أو ما يسمى في بعض المدارس الغربية والعالمية بالتاريخ من أسفل أو بالتاريخ المنسي أو بتاريخ الحياة اليومية أو بمدرسة الحوليات أو بمدرسة الميكروتاريخ أو بمدرسة دراسات “التابع”، حيث حياة المجتمع الواقعة في ظل التطورات الكبرى للدولة المركزية، فيظل بعيدا عن مجال التداول، نظرا لأن “الأراخ” أو المؤرخ التقليداني يعتبره مجالا لأمور تقع في الهامش وقضايا من إنتاج “العامة”، لذلك فقد أضحى ينظر إليها بتبخيس كبير جعلها بدون أي قيمة تستحق أن تكون موضوعا للبحث وللتأمل وللاشتغال.
ـــ ما هي صفات المؤرخ الحق حسب تقديركم ؟
ليست هناك وصفة “إدارية” مرجعية تحدد صفات المؤرخ، وليست هناك ضوابط “حديدية” لرسم حدود صنعة كتابة التاريخ، بقدر ما أن ثمة ضوابط إجرائية متعارف عليها تجعل المادة العلمية المحصل عليها، تكتسب قيمة محكمة يمكن الاعتماد عليها في الدراسة الأكاديمية التخصصية. تقوم هذه الضوابط الإجرائية على اختزال أدوات الدراسة، كل الأدوات، في نتائج الطفرات الهائلة التي يعرفها علم التاريخ خلال زماننا الحاضر. في هذا الإطار، لا يكون للمؤرخ أي ولاء إلا لصدقية الضوابط النقدية العلمية المشار إليها أعلاه، وهي الضوابط التي تشكل ثورة معرفية ومنهجية داخل نسق اشتغال الكتابة الكلاسيكية الأرسطوغرافية في مستويات متداخلة، أبرزها الابتعاد عن الكتابة النزوعية التي تنتج مادة تحت الطلب لتوظيفها في مجال التدافع السياسي والمجتمعي والثقافي، وتوسيع مفهوم الوثيقة لتشمل الشواهد غير المدونة مثل التراث الرمزي الجماعي والمعتقدات الشعبية والإبداع الشفاهي والتعبير الإيقوني الفطري، ثم تحديث ذهنيات قراءة النصوص التاريخية عبر إخضاعها لأدوات النقد الداخلي والنقد الخارجي المتلازمين بشكل عضوي في أي قراءة للنصوص وللوثائق، والابتعاد عن تقديس الأموات للتخلص من سلطهم الرمزية التي تستغلها النخب لاكتساب الشرعيات أو لتبرير الإخفاقات أو لاختلاق الزعامات. وقبل كل ذلك، أضحى علم التاريخ منفتحا على نتائج العلوم الأخرى وعلى عطاء الأعمال الإبداعية المدونة والشفاهية والتجسيدية على اختلاف أنواعها وعلى تعدد مصادرها. ونتيجة لذلك، بدأنا نسمع حديثا عن تاريخ السحر أو عن نظيمة الأحلام أو عن بنية الفقر أو عن قضايا الجنس… إلى غير ذلك من الاهتمامات التي لم تكن لتخطر –إطلاقا- في ذهن “الأراخ” التقليداني المهووس بالوقائع الحدثية وبسير الملوك والأمراء والنخب والسلط المتحكمة في الدولة والمجتمع. ونتيجة لهذه الطفرة المنهجية والمعرفية، أضحى علم التاريخ أكثر التحاما مع مجال العلوم الحقة أو الدقيقة، من دون أن يفقد هويته المميزة كأحد روافد العلوم الإنسانية الرحبة.
~وماذا عن إشكالات المادة الوثائقية ودورها الارتكازي في البحث وفي التنقيب؟
نتحدث عن الوثيقة في مستوى أول، ثم نتحدث عن قراءة الوثيقة في مستوى ثان. فوجود الوثيقة، أو الشاهدة، لا يمكن اعتباره –بأي حال من الأحوال– دليلا على صدقية النتائج المحصل عليها. فالمؤكد أن ما يصنع قوة الوثيقة، يظل أمرا مرتبطا بأدوات الباحث وبعدته المنهجية في قراءة الوثيقة وفي تفكيك مضامينها وفي مقارنة سياقاتها وفي إبراز تناقضاتها أو عناصر انسجامها. ولعل من الأخطاء المسترسلة للعديد من الكتابات المنفتحة على حقل التاريخ، وخاصة الإعلامية منها، اكتفاؤها بالتركيز على النص وعلى نقل مضامينه، معتقدة أن مجرد الوقوف على وثيقة ما، يمكن أن يشكل عنصرا داعما للموقف وللرأي، والأمثلة على ذلك دالة وكثيرة في واقعنا اليومي. الأمر ليس كذلك على الإطلاق من زاوية البحث التاريخي المتخصص الذي يسائل التفاصيل ويبحث في البياضات ويستنطق المسكوت عنه. وعلى أساس ذلك، يمكن أن يقدم المؤرخ خلاصاته التي تبقى أسئلة متجددة ولا متناهية، بتجدد المواد المصدرية أو الوثائقية الداعمة/أو المفندة للمضامين وللسياقات. لكل ذلك، يبدو أن وظيفة التوثيق هي أعقد مما يعتقده الكثير ممن يستعمل هذا المصطلح في سياق الاستهلاك الإعلامي التحنيطي.
~يجرنا ذلك للحديث عن انشغالاتكم بالبحث في تاريخ منطقة الشمال. كيف تقرؤون رصيد منجزكم؟
لا شك أن قراءة هذا الرصيد تجرنا –بالضرورة- إلى استحضار ظاهرة تعاقب الأجيال في الكتابة عن تاريخ المنطقة. فالأمر يتعلق بسلسلة غير منقطعة الحلقات من الأعمال المؤسسة التي وضعت بذرة دوحة العطاء العلمي الخاص بهذا المجال. لا أتحدث عن الكتابات العامة التي تناولت قضايا المنطقة داخل الاهتمامات الوطنية الواسعة، ولكن بأعمال تأصيلية اتخذت من مجالات منطقة الشمال، ومن سير أعلامها، ومن ثراء ثرواتها المكانية، ومن غنى تراثها الرمزي، أفقا مشرعا أمام البحث المونوغرافي والتنقيب التشريحي والسؤال التفكيكي. أسوق هذا التحديد الإجرائي، وأنا أستحضر كتابات الرواد المؤسسين، من أمثال الفقيه اسكيرج صاحب كتاب “رياض البهجة في أخبار طنجة”، والفقيه الرهوني صاحب كتاب “عمدة الراوين في تاريخ تطاون”، والفقيه محمد داود صاحب كتاب “تاريخ تطوان”، والعلامة عبد الله كنون صاحب كتاب “النبوغ المغربي”، والمفكر الصوفي الشيخ التهامي الوزاني صاحب كتاب “الزاوية”. بعد ذلك، ومنذ منتصف ستينيات القرن الماضي، تعزز المجال بصعود أسماء الجيل الموالي الذي حمل لواء تطوير الكتابة التاريخية بمنطقة الشمال، زاده في ذلك، تكوين أكاديمي متين، وسنده في البحث استغلال مكين لذخائر الأرشيفات الوطنية والدولية، وسلاحه في العمل انفتاح على تطور مجالات البحث التاريخي ومناهجه العلمية حسب ما أنتجته أرقى التجارب العالمية المتنوعة. وبفضل جهود هذا الرعيل، أمكن الحديث عن إعادة مقاربة القضايا الكبرى لمنطقة الشمال، في مختلف الحقب التاريخية، القديمة والوسيطة والحديثة والمعاصرة والراهنة. أستشهد في هذا الباب، على سبيل المثال لا الحصر، بأعمال محمد الأمين البزاز، وعبد العزيز خلوق التمسماني، ومحمد ابن عزوز حكيم، وامحمد بن عبود، وعبد المجيد بنجلون، ومحمد الشريف، ومصطفى غطيس، ومحمد خرشيش، وعبد الحفيظ حمان، ومحمد مغراوي، وعبد الله المرابط الترغي،… واستمر تدفق نهر التطور والعطاء وإنضاج تجارب البحث الأكاديمي مع التحاق متوال لخريجي الجامعات المغربية الراهنة وتعزيزهم لهذا المسار، مثلما هو الحال مع تجارب الأساتذة رشيد العفاقي، ومصطفى المرون، وخالد طحطح، وأنس الفيلالي، وسعيد الحاجي، وعمر أشهبار،…
ولعل من الأمور المثيرة بالنسبة للمنطقة، ذاك الجمع الفريد بين العطاء الأكاديمي من جهة، وبين تطوير سوق النشر الإعلامي المتخصص، بشكل قد لا نجد مثيلا له في باقي جهات المغرب، مثلما هو الحال مع “مجلة دار النيابة” التي كان يصدرها المرحومان عبد العزيز خلوق التمسماني ومحمد الأمين البزاز، ومجلة “الطنجيون” التي كان يصدرها المرحوم عبد العزيز خلوق التمسماني، ومجلة “الوثائق الوطنية” ومجلة “الجيوب المغربية السليبة” وجريدة “الحياة” وجريدة “الريف”… التي كان يصدرها المرحوم محمد ابن عزوز حكيم. ولازال الأمر متواصلا بصدور دوريات متخصصة، ومحكمة، مختصة في قضايا التراث الحضاري لمنطقة الشمال، مثلما هو الحال مع مجلة “الزقاق” التي يشرف عليها الأستاذ رشيد العفاقي، ومجلة “سيميائيات” التي يشرف عليها الأستاذ نزار التجديتي، و”مجلة الذاكرة” التي يصدرها مركز الريف للتراث والدراسات والأبحاث بالناظور،…
وأضيف إلى ذلك، أن البحث التاريخي بمنطقة الشمال، عرف انفتاحا على العمل الجمعوي وعلى استثمار ممكناته الكفيلة بإسناد درس التاريخ داخل الجامعة وتوفير الحضن الملائم للانتشار ولتحقيق التواصل الضروري مع الوسط الحي والمتغير للمجتمع. في هذا الإطار، برزت الكثير من المؤسسات والجمعيات المحلية التي أصبح لها دور مركزي في تعميم تداول المعرفة التاريخية، نشرا وتدوينا واحتفاءا، مثلما هو الحال –على سبيل المثال لا الحصر- مع جمعية تطاون أسمير ومؤسسة امحمد أحمد بن عبود ومؤسسة محمد داود للتاريخ والثقافة بمدينة تطوان، وجمعية ابن خلدون للبحث التاريخي والاجتماعي بأصيلا، وجمعية ذاكرة الريف بالحسيمة، وجمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبير،… كما برزت العديد من الأسماء التي أضحت تكتسي صيتا وطنيا، وأحيانا دوليا، بفضل هذا العمل الراشد والمؤسس، من أمثال الأساتذة محمد أخريف ومحمد العربي العسري ومصطفى الطريبق وعبد السلام القيسي ومحمد بنخليفة بمدينة القصر الكبير، وامحمد بن عبود وعبد العزيز السعود وإسماعيل شارية بمدينة تطوان، وعمر لمعلم وفؤاد الغلبزوري بمدينة الحسيمة، ومصطفى زيان ومصطفى المهماه بمدينة أصيلا، وعزيز قنجاع بمدينة العرائش،…
ولعل من حسنات تزايد الوعي المدني والمؤسساتي بقيمة الاهتمام بالإرث التاريخي لمنطقة الشمال في أفق جعله قاعدة لتحقيق التنمية الثقافية المنشودة، تواتر صدور الإصدارات الثقافية والمتخصصة ذات الصلة بهذا المجال، إلى جانب تزايد الوعي بضرورة تأهيل الفضاءات التاريخية للمدن العتيقة، حفاظا عليها من عوادي الإنسان والزمن. وأستحضر –في هذا الإطار- المشروع الهام الذي اشتغل عليه الأستاذ امحمد بن عبود لمدة زمنية طويلة داخل جمعية تطاون أسمير، متخذا أبعادا تراثية معمارية متعددة وشواهد رمزية غنية، أهمها، إعادة ترتيب المواقع الأثرية للمدينة العتيقة لتطوان، وتصنيفها، لدى اليونسكو، تراثا ثقافيا عالميا، وإعادة تهيئة مقابر المدينة العتيقة، وإصدار أقراص مدمجة حول المواقع الأثرية لمدينتي تطوان وشفشاون. وفي نفس الإطار، أستحضر كذلك عمليات الترميم الشاملة التي خضعت لها الأسوار والقلاع البرتغالية بمدينة أصيلا، وهي العملية التي أشرفت عليها “مؤسسة منتدى أصيلة” بدعم من شركاء برتغاليين، وعلى رأسهم مؤسسة كالوست كولنبكيان المتخصصة في صيانة التراث العمراني البرتغالي الموجود خارج حدود دولة البرتغال، أي الموجود بالمناطق التي سبق وأن خضعت للاحتلال البرتغالي، مثل البرازيل وأنغولا والمدن الساحلية الأطلنتية المغربية. وأستحضر في نفس السياق، العمل التنقيبي الهام الذي قام به الأستاذ محمد أخريف عند اكتشافه لمطفية الجامع الكبير بالقصر الكبير. وإذا أضفنا تزايد عدد البعثات الأركيولوجية، المغربية والدولية، المشتغلة في العديد من المواقع الأثرية القديمة والوسيطية، إلى جانب إصدار المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث بالرباط لأول خريطة أركيولوجية لمنطقة الشمال، أمكن القول إن الأمر يتعلق –في نهاية المطاف- بوعي حضاري متزايد، لابد وأن يعيد تثمين عطاء درس التاريخ وربطه بانتظاراتنا الجماعية في تحقيق التنمية الثقافية المؤجلة.
وبطبيعة الحال، فإن ترسخ هذا الوعي ارتبط بالإشعاع الذي أضحى لشعبة التاريخ داخل كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، وبمبادراتها العلمية الرفيعة التي اتخذت شكل إصدارات متخصصة ولقاءات وندوات وأيام دراسية وأطاريح جامعية مسترسلة فتحت الباب مشرعا أمام جيل جديد من الباحثين الشباب للانخراط في مشاريع كتابة تاريخ المنطقة وفي تثمين قيمها الحضارية الكبرى…
~ربما كان ذلك دليلا على خصوبة مجال الدراسة…
بالفعل، فالبحث في تاريخ منطقة الشمال، يظل من الخصوبة ومن التنوع بشكل يجعل من الصعب الإحاطة بكل تفاصيله. ومع ذلك، فواقع الحال يثبت أن حصيلة المنجز الذي حققه مؤرخو المنطقة يفتح آفاقا مسترسلة للاستمرار في النبش في الوثائق الدفينة، وفي تحقيق النصوص الغميسة، وفي تجميع البيبليوغرافيات، وفي استثمار الروايات الشفوية، وفي تكثيف البحث الأركيولوجي والطوبونيمي، وفي الانفتاح على التراث الرمزي غير المدون، وفي تدقيق النظر في الأعمال الإبداعية والتخييلية والفنية. وبفضل هذا الجهد، أمكن إنجاز أطاريح جامعية رائدة، مرجعية ومؤسسة، أستشهد -في هذا الباب على سبيل المثال لا الحصر- بأطروحة الأستاذ محمد الأمين البزاز حول المجلس الصحي بطنجة، أو أطروحة الأستاذ عبد العزيز خلوق التمسماني حول حركة أحمد الريسوني بمنطقة جبالة، أو أطروحة الأستاذ محمد خرشيش حول حرب الريف، أو أطروحة الأستاذ محمد الشريف حول مدينة سبتة خلال العصر الوسيط، أو أطروحة الأستاذ حسن الفكيكي حول قبيلة قلعية بالريف، أو أطروحة الأستاذ المختار الهراس حول قبيلة الأنجرة، أو أطروحة الأستاذ رضوان العزيفي حول أدوار مصب وادي مرتيل خلال التاريخ القديم، أو أطروحة الأستاذ عثمان المنصوري حول العلاقات المغربية البرتغالية، أو أطروحة الأستاذ مصطفى غطيس حول موقع تمودة في سياق التاريخ القديم للمنطقة، أو أطروحة الأستاذ إدريس شهبون حول مدينة العرائش قبل عهد الحماية، أو أطروحة الأستاذ عبد الرحمان الطيبي حول واقع منطقة الريف قبل الاستعمار،….
~هل من مؤشرات حول الوقع العام لنتائج هذا الجهد العلمي إذا أخذنا بعين الاعتبار مكانة المنطقة داخل عمقها التاريخي وامتدادها الجغرافي؟
من المؤكد أن المنطقة ظلت تضطلع بأدوار كبرى داخل “التاريخ الطويل المدى”. فمنذ العهد القديم، ظلت المنطقة محطة أساسية في استقبال حضارات البحر الأبيض المتوسط المختلفة، وفي إنتاج مراكز الإشعاع الحضاري المرتبط بالشعوب الأخرى، مثل الفنيقيين والقرطاجيين والرومان والوندال. في هذا الإطار، برزت مراكز الإشعاع الحضاري المرتبطة بتحولات الماضي السحيق للمنطقة، مثلما هو الحال مع مراكز تمودة (تطوان) وتنجي وأشقار (طنجة) وزليل وعين مصباح وامزورة (أصيلا) وليكسوس (العرائش) وأبيدوم نوفوم (القصر الكبير) والأقواس (ابرييش)… أما في العصر الوسيط، فقد أصبحت المنطقة قاعدة للدولة المغربية الفتية، منها انطلقت الفتوحات الإسلامية نحو بلاد الأندلس خلال القرن السابع الميلادي، وإليها استقرت المكونات العربية المنضوية داخل القبائل الكبرى المهاجرة من المشرق، مثل قبائل بني هلال وبني سليم. وفي عهد دولة الأدارسة، أصبحت المنطقة مجالات ترابية مركزية في التقسيم الذي اعتمده الأمير محمد بن إدريس بإيعاز من جدته كنزة الأوربية. وفي العصر الحديث، برز اسم المنطقة قويا عندما أصبحت بعض مدنها عواصم للدولة المغربية، مثلما هو الحال مع الدولة الوطاسية التي انطلقت خلال القرن الخامس عشر الميلادي من مدينة أصيلا، أو مع “الإمارة الراشدية” التي أسسها أبو الحسن علي المنظري الغرناطي بمدينة شفشاون بعد سقوط مدينة غرناطة في يد الإسبان سنة 1492م في سياق موجة حروب الاسترداد التي أنهت الوجود السياسي الإسلامي بالأندلس، أو مع “إمارة السيدة الحرة” بتطوان. وإذا كانت مجمل ثغور المنطقة قد خضعت للاحتلال الإيبيري خلال القرنين 15 و16 الميلاديين، مثلما وقع مع مدينة سبتة سنة 1415م، ومع مدينتي طنجة وأصيلا سنة 1471م، أو مع مدينة مليلية سنة 1497م، ثم مع مدن أخرى مثل القصر الصغير والعرائش، فإن ساكنتها ومجموعاتها الإثنية سجلت دروسا بليغة في الوطنية، من خلال مجابهتها لمشاريع الغزو البرتغالي والإسباني للمنطقة، وقد توج ذلك بتحقيق الانتصار المغربي الكبير في معركة وادي المخازن، أو معركة القصر الكبير، سنة 1578م، مما ساهم في إعادة وضع المنطقة في صلب التحولات الجيوستراتيجية لمنطقة غرب البحر الأبيض المتوسط. في هذا الإطار، أفرزت المنطقة تجارب وأسماء رائدة للمقاومة الوطنية التي أفشلت مشاريع الغزو الإيبيري لبلادنا. أستحضر في هذا المقام، أسماء خالدة، من قبيل سيدي طلحة الدريج، وسيدي المنظري، والخضر غيلان،… مما أفرز تراكما هائلا من السير والمحكيات ذات الصلة بالموضوع، وأنتجت تضخما في “السرديات المغربية” داخل المصنفات الإيبيرية للعصر الحديث، وخاصة البرتغالية منها، مثلما عكسته كتابات رواد هذا المجال من أمثال أدولفو غيفارا، وبرناردو رودريغيش، وفيرناندو دي مينيسيس،… بل إن وقائع الانتصارات المغربية أضحت مراجع أساسية في ذاكرة الغزو البرتغالي للشمال، مثلما هو حال وقائع حاسمة مثل معركة جزيرة المليحة، أو معركة الحومر، أو معركة وادي المخازن، أو أدوار رباطات جهادية مثل عياشة وتازروت وقلعية وبني ورياغل…
وفي الفترة المعاصرة، ومع ازدياد وقع الضغط الاستعماري الموجه، أصبحت المنطقة قبلة لأطماع جهات عدة. فمدينة طنجة –مثلا- أضحت عاصمة ديبلوماسية لكل بلاد المغرب خلال القرن 19، وعلى أبواب مدينة تطوان، انهزم الجيش المغربي أمام نظيره الإسباني سنة 1859م، وعند أبواب مدينة مليلية جرت معارك طاحنة بين قبيلة قلعية والإسبان سنة 1897،… وبعد خضوع البلاد رسميا للاستعمار الفرنسي والإسباني والدولي سنة 1912، انطلقت حركات المقاومة العنيفة بمنطقتي جبالة والريف، وبرزت أسماء فجرت صرخة المغاربة في وجه المشروع الإمبريالي الإسباني فوق الأرض المغربية، مثلما هو الحال مع الشريف محمد أمزيان، ومحمد بن عبد الكريم الخطابي، ومحمد التازية الوهابي، وأحمد بن محمد الحزمري (أخريرو)، واحميدو السكان،…
أما خلال الزمن الراهن، فقد ظلت المنطقة بؤرة للتجديد وللتنوير الحداثي، من خلال ظهور التنظيمات الحزبية الأولى، وعلى رأسها حزب الإصلاح الوطني وحزب الوحدة المغربية وحزب المغرب الحر. وبها ظهرت أولى الجمعيات الحقوقية والثقافية والهيآت الاستثمارية الحديثة، بمبادرات غير مسبوقة لرواد هذا المجال، من أمثال الحاج عبد السلام بنونة، وعبد الخالق الطريس، ومحمد المكي الناصري، والتهامي الوزاني، وعبد الله كنون،… وهي النخبة التي أنشأت هيآت مدنية للتأطير العصري، المنفتح على مستجدات العالم وعلى مكتسباته الحضارية الكبرى. وأذكر في هذا الباب، تجارب كل من “المعهد الحر” الذي أنشأه الأستاذ عبد الخالق الطريس، و”معهد مولاي المهدي” الذي أنشأه الشيخ محمد المكي الناصري، و”جمعية الطالب المغربية”، وفرقة “المسرح الأدبي” ومعها العديد من الفرق المسرحية في مختلف مدن الشمال، وأول جمعية للدفاع عن حقوق الإنسان، والفرق الرياضية، وتنظيمات حركة الكشفية، والمؤسسات الإعلامية، وأعياد الكتاب، والبعثات التعليمية نحو الخارج، والمسابقات الثقافية،… فمثل هذه المبادرات، أعطت للمنطقة ألقها وتميزها داخل محيطها الوطني الواسع والدولي الممتد على ضفاف حوض البحر الأبيض المتوسط.
~وماذا عن المدينة التي تخصصتم في البحث في تاريخها، وأقصد –في هذا المقام- مدينة أصيلا؟
اضطلعت مدينة أصيلا بوظائف منسجمة مع السياقات التاريخية الكبرى التي أشرت إليها أعلاه. تقع هذه المدينة بشمال المغرب على الساحل الأطلنتي على بعد حوالي 40 كلم جنوب مدينة طنجة، وعلى بعد نفس المسافة –تقريبا– شمال مدينة العرائش. وهي من أعرق حواضر المغرب التي اضطلعت بأدوار تاريخية كبرى، غطت بإشعاعها مجالات جغرافية واسعة داخل فضاء الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط. وتمتد عبر الطريق الرئيسية رقم 2 في شكل تجمع حضري صغير محاذي للساحل الأطلنتي، يثير الانتباه بطابعه المعماري الإسلامي والمتوسطي الذي تطغى عليه الدور البيضاء المتراصة المحتضنة من طرف اللون الأزرق الغامق. يختلف المؤرخون حول تاريخ بناء مدينة أصيلا، حيث كانوا يعتقدون أنها تطابق مدينة زيليس الرومانية، لكن الدراسات الأركيولوجية المعاصرة أثبتت أن زيليس لا علاقة لها بموقع أصيلا الحالي، بل توجد بالمنطقة المعروفة اليوم ب”الدشر الجديد” بتراب جماعة احد الغربية. وقد برز اسمها لأول مرة عند نهاية مرحلة حكم دولة الأدارسة، حيث كانت عاصمة للمنطقة التي آل أمرها للأمير القاسم بن إدريس الثاني، قبل أن تنتقل السلطة فيها إلى ملوك قرطبة الذين أعادوا بناءها وتجهيزها. وقد أشار العديد من المؤرخين، مثل ابن حوقل والبكري والحسن الوزان، إلى غنى ظهير المدينة خلال هذه المرحلة وإلى أهمية أسوارها ورواج أسواقها وأمن مينائها. وابتداء من القرن 14 الميلادي كانت سفن الجنويين والكطلانيين والميورقيين تفد على ميناء أصيلا، بل أقام تجارهم فنادق لهم بالمدينة، وأصبحوا يعتمدون عليها للحصول على العديد من السلع الهامة مثل التبر والحبوب والصوف، مقابل ترويج سلع مختلفة أهمها التوابل والعقاقير الشرقية. وإلى جانب التجارة، فقد امتهنت ساكنة المدينة نشاط الجهاد البحري، مما أكسبها مناعة وصيتا عالميين تردد صداهما في مصنفات التاريخ الإسلامي والأوربي.
أنجبت مدينة أصيلا خلال مرحلة العصور الوسطى الكثير من العلماء والمفكرين الذين اخترقت شهرتهم الآفاق، وعلى رأسهم العلامة الإمام الأصيلي الذي كان من أشهر رواة “صحيح البخاري” بكل منطقة الغرب الإسلامي. وفي سنة 1471م، تعرضت للاحتلال البرتغالي، وفي سنة 1578 م كانت قاعدة للحملة العسكرية التي قادها الملك البرتغالي ضون سبستيان على المغرب، والتي انتهت بالمواجهة الشهيرة في معركة وادي المخازن. وإذا كانت المدينة قد عادت إلى حظيرة الوطن سنة 1550م، أي قبل المعركة المذكورة، فإنها رزحت من جديد تحت الاحتلال البرتغالي قبيل واقعة وادي المخازن، بعد أن سلمها لهم صهر السلطان المخلوع محمد المتوكل، وبقيت على هذه الحالة إلى أن عادت إلى السيادة المغربية سنة 1589م بعد اتفاق بين فيليب الثاني والسلطان السعدي أحمد المنصور. ومنذ القرن 17م، تراجعت أهميتها السياسية والاقتصادية ، لتعيش تحت تقاطب وتأثير مدن شمال المغرب المجاورة. وظلت على هذا الحال إلى أن وقعت تحت الاحتلال الإسباني عند بداية القرن 20، شأنها في ذلك شأن باقي مناطق شمال المغرب.
تحافظ مدينة أصيلا –حاليا– على العديد من المآثر التاريخية ذات الأصول الرومانية والإسلامية واليهودية والبرتغالية والإسبانية. من اشهرها الجامع الأعظم وجامع السعيدة وبرج التشريف (أو برج القمرة كما هو متداول لدى الساكنة) وقصر الريسوني والأسوار والأبراج البرتغالية والثكنة الإسبانية والكنيسة الكاثوليكية… وتبلغ ساكنتها –حسب إحصاء سنة 2014– ما مجموعه 31054 نسمة، وتعتمد في أنشطتها الاقتصادية على القطاعات الخدماتية والصيد البحري، إلى جانب تحويلات الجالية المقيمة بالخارج. اشتهرت بأنشطتها الثقافية والفنية، خاصة خلال فصل الصيف، وتضم بنيات ثقافية مهمة، على رأسها قصر الريسوني (أصبح يعرف باسم قصر الثقافة)، ومركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية، ومكتبة الأمير بندر بن سلطان… وتشتغل بها العديد من الجمعيات المحلية الفاعلة مثل مؤسسة منتدى أصيلة، وجمعية قدماء تلاميذ ثانوية الإمام الأصيلي، وجمعية آفاق الثقافية، وجمعية اللقاء المسرحي، وجمعية الأصيل، وجمعية ابن خلدون للبحث التاريخي والاجتماعي… أنتجت المدينة الكثير من الأسماء الفاعلة في المجال الثقافي والفني ممن اكتسبت شهرة وطنية -أحيانا دولية- واسعة، من أمثال الأديب أحمد عبد السلام البقالي، والإعلامي محمد البوعناني، والشاعر مغيث البوعناني، والتشكيلي خليل الغريب، والشاعر المهدي أخريف، والتشكيلي محمد المليحي، والشاعر محمد الجباري، والشاعر أحمد هاشم الريسوني، والشاعر إدريس علوش، والناقد يحيى بن الوليد، والتشكيلي معاذ الجباري، والمبدع عبد الإله بوعود، والفنانة أمينة أسينسيو، والمؤرخ عبد الرحيم الجباري، والفنان محمد الأمين المليحي، والفنانة المسرحية نورة الصقلي، والتشكيلي حكيم غيلان،…
~كيف جاء اهتمامكم بتاريخ هذه المدينة؟
يلتقي اهتمامي المتواصل بالبحث في تاريخ مدينة أصيلا، أمران اثنان، أولهما مرتبط بعشقي للمدينة التي أنتمي إليها وأرتبط بها عاطفيا بشكل وثيق، وثانيهما مرتبط بانشغالاتي العلمية والجمعوية المهتمة بالبحث في تاريخ المدينة العريق، سواء منه المادي أم الرمزي. فعشقي للمدينة لا حدود له، وشغفي بتجميع كل ما يقع بين يدي من مواد وتدوينات ووثائق ومحكيات لها صلة بماضي أصيلا، يظل هاجسي الأساسي.
~لذلك، كنتم من بين مؤسسي إطار ثقافي متخصص في هذا المجال…
بالفعل، فقد كان لي شرف المشاركة في تأسيس جمعية ابن خلدون للبحث التاريخي والاجتماعي بمدينة أصيلا سنة 1994، وهي الجمعية التي استطاعت تحقيق تراكم هام من الأعمال المرجعية والمؤسسة لترشيد جهود البحث في تاريخ المدينة، وللتحول إلى قوة اقتراحية أمام كل الجهات المسؤولة عن تهيئة الفضاء العام للمدينة. شخصيا، نشرت عدة أعمال ضمن منشورات هذه الجمعية الرائدة، أذكر من بينها كتاب “أصيلا: حصيلة البحث التاريخي والأركيولوجي” سنة 2007، وكتاب “مع الأديب أحمد عبد السلام البقالي: حوار السيرة والذاكرة” سنة 2010، وكتاب “أصيلا: دراسات بيبليوغرافية تصنيفية” سنة 2017، وكتاب “أصيلا.. ذاكرة العمل الوطني المغربي- وثائق محمد بن عبد السلام الناصري” سنة 2019. كما نشرت الجمعية أعمالا أخرى لكتاب المدينة ومثقفيها، من أمثال المهدي أخريف، وأحمد عبد السلام البقالي، وإدريس علوش، ومغيث عبد السلام البوعناني، ومحمد الأمين المليحي، وعبد الواحد منتصر،…
~كيف تحضر مدينة أصيلا لدى الباحث أسامة الزكاري؟
أصيلا المنشأ والمآل، في بحرها أجد دوائي، وفي هوائها أتنفس معاني وجودي، وتحت سمائها أحقق أحلامي، وفي تربتها تنبث مشاريعي، ومن مائها أروي عطشي. أنا ضمآن في عشق المدينة، ولن أتعب في التعبير عن هذا العشق الصوفي ما حييت. تسكنني مدينة أصيلا وأنا بعيد عنها. لم أشعر أبدا بغربتي عن عوالم المكان وعن فضاءات العمق في المدينة، فأنا أحمل رموزها المميزة ووجوه أناسها البسطاء معي حيثما ذهبت وحيثما انتهى بي المقام. أفبعد هذا الحلول يوجد الوجد؟ أفبعد هذا الكشف يوجد التجلي؟
يوجد هذا “التجلي” في التعبيرات المتعددة المعبرة عن مضامينه، من خلال العمل الجمعوي والإصدارات التاريخية، ثم –أساسا- من خلال الاحتكاك اليومي بالتغيرات الجزئية اليومية للمدينة، وبتفاصيل وقائعها الانسيابية التي يصنعها الناس في سياق نظيمة مسلكياتهم الاعتيادية وأنساقهم الفكرية والثقافية والرمزية المركبة. وأعتقد أن هذا العشق للمكان، يساعد على تجسير العلاقة مع مواضيع البحث ومع أسئلة الكتابة، وهو الأمر الذي نزعم أننا نتقاطع فيه مع تجارب تأصيلية لعلاقة المكان بالإبداع وبالكتابة، سواء في أرصدة الأدب المغربي المعاصر، أم في مجمل التراكمات العالمية المستثمرة لخصوبة المكان، قصد إنتاج الأعمال التوثيقية أو الكتابات التخييلية أو المونوغرافيات التاريخية.
وبهذه الصفة، تصبح أصيلا مآلي المنشود، وسكينة روحي لاكتشاف ذاتي الهاربة داخل مخاضات “اليومي”، ولإعادة تركيب هويتنا الجماعية، هوية مدينة أصيلا الأصيلة.
~أصدرتم كتابا عن المجاهد المرحوم الهاشمي الطود. هل يمكن أن تضعنا في سياق اختيار هذه الشخصية، وكذا عن أهمية صدور هذا الكتاب؟
يعود الأمر بالدرجة الأولى إلى اقتناعي الراسخ بأهمية العمل المنظم لإنقاذ ذاكرة المجاهد الهاشمي الطود، بالنظر لقيمتها الكبرى في فهم العديد من منعرجات العمل التحرري الذي عرفته بلادنا، وعموم البلدان المغاربية خلال عقود القرن 20. أضف إلى ذلك، أن الرجل كانت له مبادرات جمة داخل دهاليز قيادة الثورة الجزائرية ومع تنظيماتها المتعددة والمتواترة، مثل حزب الشعب ثم جبهة التحرير الوطني الجزائري. كما كانت له إسهامات متميزة تحت إشراف الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي بمصر وبفلسطين وبالعراق وبالسودان وبليبيا وبتونس. وبفضل هذه المهام والمسؤوليات، استطاع الانخراط في بعض تفاصيل صنع القرار داخل تنظيمات العمل التحرري بالعديد من الأقطار العربية، ولازالت وثائقه المادية تشهد على ذلك. ومن جهة أخرى، فلا شك أن تآمر متنفذي مغرب ما بعد رحيل الاستعمار، وخاصة في صفوف حزب الاستقلال وداخل ما سمي ب”جيش التحرير”، ضد كل المرتبطين بالمشروع التحرري لمحمد بن عبد الكريم الخطابي، قد جعل يد الغدر تمتد لتنتقم من العقيد الهاشمي الطود، من خلال التنكيل بأفراد أسرته بالمغرب. وهو التنكيل الذي بلغ ذروته مع اختطاف والده عبد السلام الطود بمدينة القصر الكبير يوم 12 يونيو من سنة 1956، ثم اختطاف خاله عبد السلام بمدينة تطوان يوم 14 يونيو من نفس السنة… واستمرت المؤامرة، بسعي جهات متعددة للتآمر على ذاكرة الرجل وقتل معالم توهجها، ضمن آلة المحو المقيتة والمرتبطة بحسابات ضيقة ألحقت بالرجل الكثير من أشكال الظلم والتضييق. وإنصافا للحق، ووفاءا للتاريخ، كان لابد أن نعيد تنظيم قراءة ذخائر وثائق هذا الرجل الفذ، بالاشتغال على مذكراته لتعميم تداول مضامينها ووثائقها بين الباحثين والمهتمين، وذلك في إطار رؤى علمية خالصة، بعيدا عن منطق الانتقام وعن حوافز تصفية الحسابات…
~أخيرا، ما هي المشاريع العلمية للأستاذ أسامة الزكاري التي يمكن أن ترى النور قريبا؟
أنا الآن منهمك في الاشتغال على عملين تصنيفيين مختلفين، أولهما خاص بتحولات ماضي مدينة أصيلا انطلاقا من حصيلة البحث العلمي التاريخي المتخصص من داخل المغرب ومن خارجه، وثانيهما مرتبط بعمل بيبليوغرافي تقييمي لحصيلة عطاء الذاكرة الأندلسية داخل رصيد منجز النخب المعاصرة بالضفتين المغربية والإيبيرية. أما العمل الذي قطعت فيه أشواطا هامة، فيتعلق برصيد البيبليوغرافيات الخاصة بالإسطوغرافيات التاريخية لمنطقة الشمال، سواء منها المكتوبة باللغة العربية، أم بمختلف اللغات الأجنبية. هذا العمل الذي وهبت له الكثير من فترات عمري، يشكل حلمي المشرع على رحابة البحث والسؤال العلميين المرتبطين بشغفي الفطري بالبحث في إبدالات ماضي منطقة الشمال المديد.
حاوره: عبد الإله المويسي