شكر وتقدير
كلُّ الفضل للأستاذة الفاضلة الدكتورة سعاد الناصر، فلها مني الشكر والتقدير على جميل إشرافها وحسن مواكبتها وتدقيقها وتقويمها لهذا العمل..
والشكر موصول للدكتور محمد الفهري على متابعته وثقته وتشجيعه..
وجازى الله الأستاذ رضوان الحداد على ما أمدني به من مراجع قيمة من مكتبته الزاخرة..
دون أنسى صاحب الفضل والكرم أستاذنا الدكتور عبد اللطيف شهبون الذي آمن بقدراتي، وشحذ الهمة، وأنار الدرب، واستثار مكامن الإبداع.
كما أتقدم بالشكر الجزيل للسادة أعضاء لجنة المناقشة الذين سـيكون لهم عظيم الفضل في تقويم هذا البحث
فجزاهم الله كل خير.
مــقــدمــــــــــــــــــة
إن المتأمل في الحياة الفكرية والأدبية بالمغرب، وخاصة الفترة المعاصرة منها، يلحظ أن الأدباء على اختلاف اتجاهاتهم الجمالية، ومشاربهم الفكرية، اتجهوا إلى التعبير عن الذات الإنسانية في بعدها الفردي والجمعي، فكان أن اقترنت تآليف الأدباء المغاربة – وفي القلب منها الفترة موضوع هذه الأطروحة – بالاتجاه الإنساني، فقفزت إلى الصدارة نصوص إنسانية بنفس إنساني يعانق الإنسان في قضاياه وإشكالاته الوجودية عبَّرت بوضوح عن ” الأنسنة المغربية “.
إن هذا الاتجاه لم يجعل الأدب المغربي «تعبيرا محليا مرتبطا بمكانه وزمانه دون أن يخرج إلى آفاق أوسع وأرحب، ومعان إنسانية عميقة يشترك الناس جميعا على اختلاف ألوانهم، في الإحساس بها والتجاوب معها» .
وبالرغم من القيمة الأدبية التي أضفاها هذا الاتجاه على الأدب المغربي، لم يحظ بالعناية الكافية للدارسين، وببحوث أكاديمية شافية تجلي نواحيه. لذلك، ونظرا لهذه الحاجة، اخترت خوض غمار البحث في هذا الموضوع، فكان من نتيجة هذه التجربة هذه الأطروحة التي عنونتها بــــ «خطاب الأنسنة في الأدب المغربي ( 1940- 2015 ): دراسة في نماذج أدبية» حيث وقفت فيها على نصوص لمفكرين وأدباء مغاربة تجلت الأنسنة بوضوح في إبداعهم، كما ركزت اهتمامي وتفصيل هذه الدراسة، لعلم من أعلام الأدب المغربي محمد الصباغ رحمه الله كنموذج تطبيقي، لما انجمع في أدبه من تيمات وثيقة الرابطة بالأنسنة، وقضاياها، ومجال اهتمامها، ولا أبالغ إن قلت إن أدب الصباغ هو الأنسنة عينها، قد يستشفها الدارس من منطوق اللفظ، لكنَّ فكَّ رموزِ الكتابة الصباغية، وخصوصيتها “الشظية “، و” الشاعرية “، هي من ستقود، لا محالة، إلى شطآن الأنسنة ورحابتها. إعمال النظر واقتفاء أثر التأويل ضروري لبلوغ هذه الغاية.
1- دواعي اختيار الموضوع
جاء اختياري لهذا الموضوع، وتمت صياغة إشكاليته انطلاقا من دوافع علمية يمكن إجمالها فيما يلي:
أ- دوافع عامـــــــــــة:
• الإشارة إلى إسهام الأدباء المغاربة بإبداعاتهم المتعددة، خاصة في ميدان الأدب بأجناسه العديدة، في نسيج المعرفة الإنسانية.
• إبراز قيمة الأدب المغربي باعتباره أدبا يُشيع قيما إنسانية وسيطة، تضمن سبل التعايش، والسلام، والاعتراف، وحق الاختلاف، وتُيَسِّرُ الانتقال، وتفتح مجالات العبور من ثقافة لأخرى، بطريقة تحفظ أصالة الذات المغربية، وتتفاعل بكل يسر وتلقائية مع ثقافة الآخر.
• تصحيح الرؤية حول نزعة الأنسنة المغربية والتعرف على خصائصها من خلال دراسة التراث الأدبي لمحمد الصباغ – الذي اخترته نموذجا تطبيقا في هذه الأطروحة والذي يحتاج إلى دراسات متعددة تقاربه من مختلف الزوايا والأبعاد، وتفك شفرات كتابته ” الشَّظِّيَّةِ “، التي تستعصي على التجنيس والتصنيف، وتستل منها عناصر الأنسنة وتجلياتها، مستثمرة المناهج المعرفية لدراسته قدر الإمكان.
ب- دوافع خاصـــــــة:
• الانتماء الجغرافي للمنطقة (المغرب)، و كذا الرغبة الشخصية في دراسة التراث الأدبي المغربي في أبعاده الذاتية التي تلامس آفاق الذات الرحبة، وتنفذ إلى أغوارها السحيقة، وفي بعدها الإنساني الكوني، الذي يتعالى على خصوصية الذات الثقافية والدينية، والحضارية، ويعانق الإنسان مكتشفا مساحات التلاقي، والاشتراك، مستشرفا أفق القيم الإنسانية، حيث تفنى كافة الحواجز والعوائق التي من شأنها أن تعيق العلاقات الإنسانية، وتفاعل بني الإنسان وحركتهم وتنقلهم وفهم التباينات والاختلافات بينهم.
2- إشكالية البحث:
وبعد، في هذه الفقرة يكون لزاما الحديث عن إشكالية البحث، لأن من شأن هذا الإجراء التحديد الدقيق لموضوعه وعصمة الباحث من التيه. وهكذا فقد تبلور الإشكال الرئيس على النحو الآتي:
هل كان لمذهب الأنسنة أثر في الأدب المغربي المعاصر (1940- 2015)؟ وإذا كان الجواب بنعم، ماهي تجلياته على مستوى التنظير والإبداع؟
من هذه الإشكالية الكبرى تفرعت مجموعة من الأسئلة الفرعية نجملها في الآتي:
• هل يمكن للأنسنة أن تكون منظومة قيمية جامعة لكينونات الإنسان، ضابطة لمناطق العبور في الذات، وجامعة لعناصر الوجود المتعددة، ومؤسسة لقيم كونية أساسها التعايش، والسلام، والتعاون، والمصير المشترك، قيم تجمع بين قدرات العقل وصفاء الفطرة وغنى الروح وفسحة الخيال؟
• هل يمكن الحديث عن أنسنة مغربية؟ وما هي مدخلات تحققها في نصوص الأدباء المغاربة خلال الفترة المدروسة تنظيرا وممارسة؟.
• هل جعل هذا المذهب من الأدب المغربي تعبيرا عن الذات دون أن يخرج إلى آفاق أوسع ومعان عامة يشترك الناس جميعا في الإحساس بها؟ أو العكس هو الثابت؟.
• وماهي الموضوعات والسمات الجمالية التي طبعت نصوص رواد هذا الاتجاه؟.
• هل يمكن اعتبار محمد الصباغ – الذي اخترته نموذجا تطبيقيا مركزيا لهذه الدراسة- من جيل الرواد المؤسسين لمذهب الأنسنة في أدبنا المغربي المعاصر؟.
هذا هو الرهان، وهذه هي البداية، التي تفرض مواجهة أسئلة المنهج و العمل على إعادة بناء هذا الخطاب الملتبس في قالب علمي وموضوعاتي يمكن أن تنتظم فيه عناصر هذه الأطروحة وأستشرف من خلالها، إن جاز لي ذلك، الأفق الإنساني في صورته الأدبية الكونية عامة، وصورته المغربية خاصة.
3- الدراسات السابقة
لقد استفدت من العديد من الدراسات العربية والأجنبية أثار أصحابها مجموعة من القضايا المرتبطة بالأنسنة في الأدب المغربي المعاصر، أورد البعض منها هنا على سبيل المثال لا الحصر:
• مدخل إلى الأنسنة الإسلامية: دراسة في نماذج، عبد الله إدالكوس، نسخة إلكترونية قيد الطبع، دار ركاز، الأردن، ط1، 2021
• غيمة ومرايا: الإنسان والكون في شعر عبد الكريم الطبال، عبد الجواد الخنيفي، منشورات بيت الشعر في المغرب، ط1، 2019.
• مفهوم الإنسان في القرآن الكريم دراسة فلسفية مقارنة، أحمد بوعود، سلسة شرفات، العدد 39، منشورات الزمن، ط 2014.
• النزعة الإنسانية وإرث الأنوار، مصطفى الحنفي، إفريقيا الشرق، المغرب، ط 2014.
• إبداعية الكتابة: دراسة في التحديث الشعري عند محمد الصباغ، أحمد هاشم الريسوني، دار سليكي أخوين، طنجة، ط1، 2012.
• الإنسية المغربية واقع العالم الإسلامي، محاضرات وأبحاث علال الفاسي، مراجعة وتصحيح: المختار باقة، منشورات مؤسسة علال الفاسي، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2009
• أنسنة الشعر: مدخل إلى حداثة أخرى، فوزي كريم نموذجا، حسن ناظم، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 2006
• مدخل إلى التنوير الأوربي، هاشم صالح. دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط1، 2005.
• سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، طه عبد الرحمن، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط1، سنة 2000.
• التوجه الإنساني، تحليل مفهومي تاريخي، ضمن النزعة الإنسانية في الفكر العربي: دراسات في النزعة الإنسانية في الفكر العربي الوسيط، عاطف أحمد، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، ط1، 1999
• نزعة الأنسنة في الفكر العربي، أركون محمد، ترجمة: هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، لبنان، ط 1997.
• الابداع الشعري و التحولات الاجتماعية و الفكرية بالمغرب من أواخر القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، أحمد الطريسي أعراب، سلسلة بحوث ودراسات رقم 4، منشورات كلية الأداب و العلوم الإنسانية، تطوان، جامعة محمد الخامس الرباط، سنة 1992.
• موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر، هايدجر، ليفي ستروس، ميشيل فوكو، عبد الرزاق الدواي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 1992
• من الكائن إلى الشخص، محمد عزيز الحبابي، دار المعارف، مصر، 1962
• تاريخ العلم والإنسية الجديدة، سارتون جورج، ترجمة: إسماعيل مظهر، دار النهضة العربية، القاهرة، ماي 1961.
• رسالة في النزعة الإنسانية، مارتن هايدغر، ترجمة: عبد الهادي مفتاح، ضمن مجلة: فكر ونقد، عدد 11 شتنبر 1998.
• في النزعة الإنسانية، أحمد شحميط، مقال منشور ضمن مجلة الأنطولوجيا الالكترونية بتاريخ 1/07/2020.
4- أهمية الموضوع وجِدَّتُه
تنبع أهمية الموضوع الذي اخترته عنوانا لهذه الأطروحة، من كونه يقتفي أثر الأنسنة ضمن النصوص الأدبية، نثرا، وشعرا، على غير المعهود في الدراسات التي أولت بالغ اهتمامها لدراسة الأنسنة من زاوية الفكر والفلسفة، وتتبع السياقات التي ساهمت في استواء هذا المفهوم: نشأة، ومدافعة، وسيادة ضمن المنظومة الفلسفية الغربية، ثم انتشاره، وتبيئته ضمن باقي المنظومات الفكرية والثقافية المتفاعلة، من ضمنها المنظومة الفكرية الإسلامية والعربية التي لا ينكر إسهامها في تنوير الفكر الإنساني وأنسنته.
5- منهــــــــــــــج البحــــــــــــــــــــث
إن طبيعة الموضوع، ومقاصده، ونماذج الدراسة، فرضت الإفادة من المنهج التحليلي، حيث إنني لن أكتفي بأسلوب العرض والتقرير فيما أنا خائض فيه، بل سأتتبع نصوص رواد الأدب المغربي المعاصر التي اخترتها نماذج لهذه الدراسة، توثيقا وتحليلا وتركيبا واستقراء واستنباطا، حتى أنفذ إلى غرضي منها متبعا الخطوات المنهجية المعروفة بدءا باستشكال القضية مرورا بمناقشة مقدماتها وانتهاء بالاستنتاجات المتوصل إليها.
6- خطة البحث
إبرازا لهذه الظاهرة، موضوع الأطروحة، توزعت هيكلتها إلى: مقدمة، ومدخل مفاهيمي، وبابين تندرج تحت كل منهما ثلاثة فصول، وخاتمة تعرض لمخرجات الدراسة وثمراتها.
المقدمةُ خصصتها للحديث عن طبيعة الموضوع، وأهميته ودواعي اختياره، وطرح الإشكالية والمنهج المتبع، وخطة البحث، وكذلك عرض لبعض الدراسات السابقة، مع ذكر العقبات و الصعوبات التي واجهتني أثناء إنجاز هذا البحث.
فيما المدخل، خصصته لمقاربة مفهوم الأنسنة، والإحاطة بمعناه، واستعراض السياقات التي كانت حاسمة في نشأته، وتطوره، وانتشاره، ونفاذه إلى الثقافات الكونية، كالثقافة العربية الإسلامية، ومدى تأثرها، وتمثلها، واستبطانها، لمخرجات الأنسنة.
أما الباب الأول سأعالج فيه صيرورة الأدب المغربي، شعرا ونثرا، ضمن الحقبة المدروسة ( 1940- 2015 )، وتشكل هذين الجنسين شكلا ومضمونا، تأثيرا وتأثرا بالأحداث التي عاشها المغرب، وتفاعل المغاربة مع مختلف القضايا الوطنية والقومية والإنسانية، وكيف كان الأدب المغربي حاملا لهموم الذات معبرا عما يجيش في خاطر الأديب أو الشاعر ، معانقا هموم الآخر وطموحه في التحرر والحرية والكرامة وسيادة القيم الإنسانية والكونية التي لا تنحصر في العلاقات الإنسانية فقط وإنما تعبر في اتجاه باقي الأكوان والموجودات.
سنرى كيف تشكل الشعر المغربي وكيف عبر من القصيدة التقليدية صوب القصيدة الحديثة، والتحديات التي واجهها الخطاب الشعري سواء من الموضوعات الحاملة أو من حيث الانزياح عن القوالب المعتادة، وسنرى كيف تطور النثر الأدبي المغربي من نتف متناثرة في هذا المصدر أو ذاك إلى المقالة الأدبية والقصة القصيرة وطغيان الواقعية على محتواها ومتنها إلى نوع من القصة الطويلة إلى أن استوت الرواية جنسا قائم البنيان شكلا ومضمونا، إلى نوع من التجديد في الرواية كما هو الحال مع الرواية العرفانية. هذه الإشكالات سنقف عليها بالدرس والتحليل من خلال مساءلة روادها ومبدعيها أمثال: أحمد المجاطي، عبد الرحمن الفاسي، عبد الهادي بوطالب، عبد الكريم غلاب، عبد العزيز بن عبد الله، عبد المجيد بن جلون، مبارك ربيع، عبد القادر الشاوي..
كما سأحاور متن مبدعين آخرين: شعراء وأدباء ونقاد، وهذه المرة للوقوف على معالم الأنسنة وتجلياتها وكيف تفاعل الإبداع المغربي مع الأنسنة وتجلياتها العديدة التي تلامس فضاءات عديدة تنطلق من الذات الإنسانية وتتفاعل مع الفضاءات المكانية والزمانية وباقي مكنونات الوجود الأحرى. وهكذا سأتخذ من أطروحات علال الفاسي، وعبد الله العروي، ومحمد عزيز الحبابي، وطه عبد الرحمن، وعبد الإله بن عرفة، ومحمد زفزاف، وعبد الكريم بن ثابت، وعبد الكريم الطبال، وأحمد الطريسي أعراب، وعبد الله العروي، وعلال بن الهاشمي الفيلالي، وسعيد حجي، ومحمد الحبيب الفرقاني، نماذج أُدلِّل بها على ريادة المغاربة ومواكبتهم للفكر الإنساني، ومستجداته، وسيادة البعد الإنساني في تنظيراتهم، وتقعيداتهم الفلسفية وإبداعاتهم الأدبية.
وأما الباب الثاني سأخصصه لرائد الأنسنة المغربية الذي استحق هذه المكانة، لما انجمع في أدبه، من نفس شعوري وإنساني دفّاق، تنصهر فيه أبعاد الذات والآخر والأكوان، دقيقها وعظيمها، لتشكل معالم الأنسنة التي تعانق الوجود كله.
عتبة هذا الباب ستكون عبارة عن تمهيد مقتضب يعرض لأدب الصباغ وإمكانية تجنيسه، وسرد لشهادات النقاد التي تنزاح عن المعهود في التجنيس والتصنيف ودلائلهم في ذلك ومُسْنَداتهم.
بعد توصيف مقتضب لشخصية محمد الصباغ وسيرة حياته، وبعضا من الأحداث الحاسمة التي عاشها وعايشها وكانت رافدا لتشكل مفهوم الأنسنة لديه، سأقترب قليلا من تخوم الذات وفضاءاتها، وسأبحث في علاقة الذات بالآخر، ومن ثم الإجابة عن إشكالية الهوية في ظل الأنسنة، أو بمعنى آخر، استشراف الهوية الإنسانية المرتقبة، واستثمار فضاءات المعرفة العديدة لبناء نسق قيمي إنساني، وثقافة إنسانية عالمية مُوَحَّدَة منتجة للتنوع.
هكذا حفل أدب الصباغ بأعلام الفكر والفلسفة، والفن والجمال من مختلف بلاد المعمور، وفي ذلك إشارة للبعد الإنساني لهذا الأدب، وامتداده الجغرافي، ومعانقته للكلمة الصادقة أنَّى قيلت وكتبت.
وسأنتقل، عبر نصوص منتخبة من أدب محمد الصباغ، مُسْتَلَّة من أعماله الكاملة، إلى دراسة الفضاءات المكانية والزمانية وأنسنتها، والوقوف على دلالاتها المرجعية والتخييلية التي تخرجها من حدودها وأبعادها المادية الصّرفة إلى نوع من الحركية والتغير والتفاعل كصفات لصيقة بالإنسان.
وبنفس منهجية الدراسة والتحليل سأدلل عن منطق خاص للأنسنة، تفصح وتدلل عليه مكنونات الوجود، منطق لا يمكن فهمه بمعزل عما يحيط الإنسان ويتعايش معه، ويؤثر في حياته ومجمل صيروراته الفكرية، والفلسفية، فلا غرو، أن يحفل أدب محمد الصباغ بهذه المكنونات، ويضفي عليها حياة خاصة، ومعنى معينا، من خلال استعارات، وتشبيهات، ومجازات، وكأننا أمام حركات وتفاعلات وتداخلات وانعكاسات لا تقل في حركتها وتفاعلها عما يحدث في واقع الإنسان وحياته ومعاشه.
والخاتمة سأعرض فيها لجملة من نتائج وثمرات وتقريرات هذه الدراسة التي تسع الأنسنة فكريا وفسلفيا وأدبيا أفصحت عنها نصوص متعددةٌ أجناسُها، ولفرادة تميز المغاربة فكرا وثقافة وأدبا.
7- صعوبات وعقبات
لا يخلو البحث الأكاديمي من صعوبات وعقبات، يمكن إجمالُ بعضِ ما واجهني منها في الآتي:
• صعوبة مرتبطة بموضوع البحث: وكأني أتوسط مغامرة غير محسوبة العواقب، والحق أن الطالب ، يحتار وهو يحاول الإسهام ولو بنزر قليل في إغناء مسار البحث الجامعي في الأدب المغربي الذي دشنته شعبة اللغة العربية وآدابها بكليتنا منذ نشأتها، فكلما طرقت بابا للمعرفة ألفيته مقتحما من لدن باحثين قبلي.
• قلة المراجع وصعوبة اختيار الأوفق منها خاصة وأن كل قراءة كما يقول عباس ارحيلة تعبر عن موقف فكري معين، وتسهم في إنتاج وجهة نظر ما.
• صعوبة تمحيص بعض المعلومات المطلوبة للوصول الى القول الفصل في المسألة الواحدة، خاصة أن للنصوص سوابق و لواحق، وبترها من سياقاتها، قد يؤدي إلى خلخلة وظائفها، فالأمر يتطلب تحليلا بالغ الدقة أستعين بالله على حسن توظيفه.
• صعوبة مرتبطة بمواءمة الشّقّ النظري، والتقعيد الفلسفي للدراسة مع النماذج الأدبية المختارة، وتوخي الانسجام المطلوب.
• صعوبة مرتبطة بالأنموذج الأدبي التطبيقي، المتمثل في أدب محمد الصباغ رحمه الله، والذي أرخى بظلاله هو الآخر، ولم يكن من السهل تفكيكه، وإثبات أنسنته المُسْتَلَّةِ من بين الرموز والمعاني والتكثيفات.
• الحجر الصحي بسبب وباء كورونا. فهذه الجائحة كان لها انعكاسات سلبية على صيرورة البحث، خاصة في الشق المرتبط بالحصول على المصادر والمراجع الجديدة ذات الصلة بالموضوع.
إلا أنه مع كل هذه العقبات والصعوبات، فقد وجدت في أستاذتي الفاضلة الدكتورة سعاد ناصر وأستاذي الفاضل الدكتور محمد الفهري، الخبير، العالم، المتفهم، الرؤوف، الذي دلل عقبات هذا العمل بتوجيهاتهما و إرشاداتهما منذ أن كان فكرة إلى أن أصبح على هذه الشاكلة، فلهما مني جزيل الشكر، إذ لولاهما ما كان لهذا العمل أن يكتمل.
كما لا يسعني إلا أن أتقدم بالشكر الجزيل إلى السادة أعضاء لجنة المناقشة الذين سـيكون لهم عظيم الفضل في تقويم هذا البحث فجزاهم الله كل خير.
لذلك كله آثرت في نهاية هذه الأطروحة الإشارة إلى أهم خلاصاتها وثمراتها في انتظار تجويدها واكتمالها:
• إن الدلالات اللغوية للأنسنة ومستوياتها والترجمات العديدة لها يحيلنا إلى تعدد التسميات: الأَنْسَنة، الإِنْسِية، الإِنْسانَوِية، النزعة الإنسانية، النّاسوتية، النزعة الناسوتية، وبالتالي تعدد الفهومات والمعاني بشأنها.
• إن الأنسنة أو النزعة الإنسانية كانت تشير في البداية إلى طائفة من المتخصصين في دراسة لغات وآداب الحضارات القديمة.
• الأنسنة منهج حياة ومحددٌ في التفكير يقترض حرية الفكر والإبداع الإنساني والأخلاقي والجمالي ودعم الموقف المثالي في المعرفة والوجود.
• إن الدراسة المعمقة لمفهوم الأنسنة يضعنا أمام تعدد روافدها وأصولها ومرجعياتها، تتمظهر في أشكال وتلوينات كثيرة: دينية أو علمانية، روحانية أو فلسفية، وأدبية.
• ولا سبيل لتحقق الأنسنة إلا بتجاوز صنوف الفهم المتحيز والجاهز والمنغلق والتجزيئي والجامد لصالح وعي متعقل ينتصر للتعارف والتعايش والتبادل والتآخي بين أفراد الأسرة البشرية.
• إعادة النظر في مفهوم الإنسان والرؤية لإنسان الأنسنة أو إنسان العين الثالثة، كما يصطلح على تسميته محمد الصباغ. ولن يكون هذا الإنسان إلا بالتفكير في حق الروح ذلك الحق الغائب أو المُغَيَّبُ قسرا لدى الإنسان المعاصر. فكل الحقوق اهتم بها وسعى لجلبها، جليلها ودقيقها، بل إنه اكتفى من تنظيم شؤون الإنسان وانتقل إلى تنظيم شؤون البيئة والطبيعة أو حق الأكوان.. لكنه تغافل عن أم الحقوق: حق الروح وروائها، ومعرفتها، وأسباب حياتها، واستمدادها، وعوالمها التي تسبح فيها، وعلاقتها بباقي أكوان الوجود.
• إن الأنسنة من خلال الأدب المغربي هي أنسنة تعانق الذات في تحققاتها الممكنة وتعبر صوب الآخر الإنساني والكوني. إن تحقق الذات وسموها لا يكون إلا باتحاد الذات مع أكوان الوجود حينها سيجد الإنسان نفسه المفقودة وذاته الضائعة ويعثر على جوهره.
• إن الذات المبدعة، في إطار الأنسنة، كلما التحمت بالوجود كلما زاد وهجها واستقطرت إبداعَها رموزاً وتكثيفات واستعارات إنسانية بديعة. ولا يتحقق الإبداع إلا بالصفاء الذهني والروحي أو بخروج الإنسان من عالم ذاته إلى عوالم الوجود عوالم الصمت.
• إن الأنسنة وفق هذا المعنى جهد متواصل لمعرفة حقيقة الإنسان في أبعاده المتعددة: عقله وروحه وجسده، نزوعاته وأشواقه، أحلامه وأحاسيسه. الأنسنة بحث مستمر عن « المعنى » وغنى الفطرة.
عبد السلام الميموني