كتابات في تاريخ منطقة الشمال:
أسامة الزكاري
اختار الأستاذ عبد اللطيف شهبون الاحتفاء بطريقته الحميمية الخاصة بسيرة صديقه ورفيقه وزميله المرحوم عبد الله المرابط الترغي، عندما أصدر عملا استرجاعيا عميقا تحت عنوان “ذكريات صداقة”، وذلك سنة 2016، في ما مجموعه 63 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. لا يتعلق الأمر بعمل تركيبي، ولا بجهد تصنيفي، ولا بمنحى تقويمي، لمجمل العطاء الثقافي والعلمي للمرحوم عبد الله المرابط الترغي، بقدر ما أنه تعبير عن رغبة روحانية عميقة لدى الأستاذ شهبون من أجل تقديم تأبين بمواصفات خاصة لا تليق إلا بالكبار، كبار في علمهم وفي عطائهم وفي تواضعهم وفي أخلاقهم.
والحقيقة إن الحديث عن عبد الله المرابط الترغي يكتسي راهنيته المتجددة باستمرار، نظرا لقيمة رصيد المنجز العلمي الذي ارتبط باسم صاحبه، باحثا ومنقبا، ومثقفا زاهدا، وإنسانا رائعا. لذلك، كان لوقع الرحيل أثره البالغ على نفوس كل معارفه ومحبيه وزملائه وطلبته. فالرجل كان رائد مجاله في حقل الدراسات الأدبية وفي التعريف بالأعلام وبالرواد، ولم يكن يبخل في شيء تجاه قاصديه من الطلبة ومن الباحثين، سواء من داخل المغرب أم من خارجه. ولعل هذا ما يفسر حجم لوعة الفراق الذي عبر عنه عبد اللطيف شهبون بكل عميق، عندما قال في استهلاله للكتاب: “نزل صديقي العزيز من قطار دار الالتواء.. وآب جسده الطاهر إلى تراب، فانثالت روحه إلى دار الاستواء. كان رحيله موجعا.. لكن إرثه العلمي والأخلاقي مازال قائما يشكل جسرا للألفة والمحبة.. وبعد، فهذا المجمع اليسير بعض من ذكريات لن تمحى…” (ص. 3).
غلاف الكتاب
تشمل مضامين هذا “المجمع” نصوصا وتأملات كتبها الأستاذ شهبون في مناسبات مختلفة، في شكل شذرات توثق لقواسم المشترك العلمي والإنساني الذي جمع بين الرجلين على امتداد فترات زمنية طويلة جاوزت الأربعين سنة، داخل مسارات مهنية مسترسلة، انطلقت بالتدريس المشترك بالتعليم الثانوي بمدينة طنجة، مرورا بالالتحاق بالمركز التربوي الجهوي بنفس المدينة، وانتهاءا بالتدريس الجامعي داخل رحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان. وعلى امتداد هذا المسار الطويل والمعطاء، ظل البعد الإنساني النبيل ميسما لتوجيه الرؤى، ولصقل العطاء، ولتعزيز روابط روحانية لا يعرف جوهرها إلا “العلماء المشاركين”، وعبد الله المرابط الترغي واحد من هؤلاء، وواحد ممن ربط اسمه بمعالم البهاء الثقافي والعلمي لمنطقة الشمال ولعموم بلاد المغرب.
ولاختزال المعالم الناظمة لسرد عبد اللطيف شهبون في كتابه موضوع هذا التقديم، يقول المؤلف: “رحل إلى دار البقاء صديقي الأعز سيدي عبد الله المرابط الترغي.. ترك رحيله حزنا كبيرا في قلبي، فقد امتدت صداقتنا لما يناهز خمسة عقود، أنتخب منها بعضا من مشتركنا الإنساني والعلمي.. كان السي عبد الله في مسيره المهني نموذجا للأستاذية.. باهر الذكاء، قوي الذاكرة، غير مصاب بداء الارتكاز على الذات.. وعلى امتداد أيامه في هذه العاجلة، ظلت حياته صافية من الأكدار.. في كل جلساتنا الإخوانية كنا نشعر أننا أمام قارئ نهم ومتفحص فطن يعرض المادة العلمية والتراثية بمهارة مبتكرة وسخاء كبير ووضوح عال. وبموازاة ذلك، ظل الرجل غزير الإنتاج والعطاء، ولم يتوقف عن ذلك حتى وإن داهمه المرض، لم يستنفذ قواه. بقي مصرا في كل ما يكتب على الوصول إلى الحقيقة، الحقيقة الخبيئة في النصوص الغميسة، ومن آخر ما يدل على هذا تحقيقه الفريد في اغتيال المولى عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه، المنشور بجريدة “الشمال”. ذكرياتي مع السي عبد الله المرابط الترغي كثيرة، تحتاج وقتا طويلا كي أسردها أو أدونها: زمالتنا المهنية، حجنا المشترك، كتاباتنا في “الشمال”، إقاماتنا في مصيف “وادي لو”، زياراتنا المتتاليات لضريح المولى عبد السلام بن مشيش، اشتراكنا في مناقشات أطاريح دبلوم الدراسات العليا والدكتوراه الوطنية ودكتوراه الدولة، تعلقنا بفريق مدينة تطوان لكرة القدم، جلساتنا المتفكهة…” (ص ص. 5-6).
مجالات رحبة لعلاقات إنسانية راقية جمعت بين الرجلين، وجعلت عبد اللطيف شهبون يعبر عن “يتمه” بفقدان زميله وصديقه. وعلى الرغم من غزارة مضامين السرد التي احتوتها محكيات “ذكريات صداقة”، فالمؤكد أن الكثير من التفاصيل ظلت منفلتة من بين أسطر المتن، فهي تحتاج إلى كتابات على كتابات، وإلى تصانيف على تصانيف، وإلى محكيات على محكيات. فالكتابة عن عبد الله المرابط الترغي أضحت مجالا أثيرا لانشغال قطاعات واسعة من زملاء الرجل ومن طلبته ومن أصفيائه، دليل ذلك صدور أعمال مسترسلة وبشكل متواتر تعيد تقليب صفحات حقل العطاء الخصب والغني للمرحوم الترغي، تجميعا لمظانه، وتصنيفا لعناصر خصوبته، واستثمارا لعطاءاته العلمية الثرية.
رحم الله الفقيد عبد الله المرابط الترغي، علم طنجة الخافق، وضمير البحث العلمي الصادح، وصوت الانتماء الحضاري لقلعة المعرفة والأخلاق والقيم.