سلسلة مقالات حول القيم والنموذج التنموي المغربي
الحلقة الثانية : القيم : المفهوم والدلالات
بقلم: ذ. حسن الطويل
أستاذ باحث
من دون شك أن الإجابة عن الأسئلة الرئيسية التي عرضناها في المقال السابق، والتي يمكن إجمالها في التساؤل حول الإمكانات المرجعية والقيمية التي يتيحها النموذج التنموي المغربي من أجل تحقيق تنمية وطنية شاملة؟ تقتضي منا الوقوف بشكل ملي وجلي عن المفهوم والدلالات التي يحملها مصطلح القيم، واستبصار معانيه وأبعاده، ومن تم نستطيع التأسيس للإجابة العلمية لسؤال الإمكانات المرجعية القيمية التي يبسطها النموذج التنموي المغربي لتحقيق التنمية ، لذلك سنسعى في هذه الحلقة إلى تسليط الضوء على مفهوم القيم على مستوى الدلالة اللغوية والاصطلاحية .
مفهوم القيم
تشكل المفاهيم ودلالاتها اللغوية والاصطلاحية، قاعدة أساسية لبيان الألفاظ وعلاقتها بالمعنى المراد، وكذا بالألفاظ المركبة للجملة، وبيان أثر السياق في الكلام، وهي من أقوى عناصر بنية المعنى، لما تقوم به من دور محوري في بناء المعنى المراد، وبما تستبطن من ذاكرة لغوية حضارية وتاريخية. من أجل ذلك نسوق الدلالة اللغوية والاصطلاحية لمصطلحنا قيد البحث والدراسة: ” القيم ”
أ ـ الدلالة اللغوية:
القيم: مفردها: قيمة، من الفعل: (قوم) و(قام)، نقول: قام المتاع بكذا، أي تعدلت قيمته به.
والقيمة: الثمن الذي يقوم به المتاع، أي يقوم مقامه. وقومت المتاع: جعلت له قيمة. وقيم القوم: الذي يقومهم ويسوس أمرهم.[1]
والقيمة: واحدة القيم، وأصله الواو لأنه يقوم مقام الشيء.
والقيمة: ثمن الشيء بالتقويم. تقول: تقاوموه فيما بينهم، وإذا انقاد الشيء واستمرت طريقته فقد استقام لوجه. ويقال: كم قامت ناقتك أي كم بلغت[2]. قال تعالى: (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما)[3] و قال تعالى: ( وذلك دين القيمة)[4] أي مستقيما ،أورد الراغب أن الدين القيم هو الثابت المقوم لأمور الناس ومعاشهم، وأمر قيم مستقيم، وخلق قيم حسن، ودين قيم مستقيم لا زيغ فيه، وكتب قيمة مستقيمة تبين الحق من الباطل[5] .
وقد ذكر ابن منظور[6] أن القيمة واحدة القيم، وأصله الواو لأنه يقوم مقام الشيء، والقيمة ثمن الشيء بالتقويم تقاومه فيما بينهم، وإذا انقاد الشيء واستمرت طريقته فقد استقام لوجهه، ويقال كم قامت ناقتك أي كم بلغت؟
وجاء في المعجم الوسيط أن قيمة الشيء: قدره، وقيمة المتاع: ثمنه وجمع القيمة: قيم. ويقال: مالي فلان قيمة: أي ماله ثبات ودوام على الأمر، وأمر قيم: أي مستقيم، وكتاب قيم: ذو قيمة. (القيمة) المستقيمة المعتدلة[7].
إن كلمة القيمة التي انتشر استعمالها في عصرنا بمعنى الكلمة الفرنسية valeur تدل، أصلا على اسم النوع من الفعل «قام» بمعنى وقف، واعتدل، وانتصب، وبلغ، واستوى. [8]ومنه يتبين أن القيمة تحمل معاني الاستقامة والاعتدال الثبات والدوام على الأمر، وفي اللغات الأجنبية (الفرنسية والانجليزية) (Valeur- Value) مشتقة من لفعل اللاتيني (Vale) والذي يعني أنا أقوى أو أنني بصحة جيدة، وهذا يعني أن القيمة تحتوي على معنى المقاومة والصلابة[9].
غير أننا إذا تتبعنا تحولات معنى هذه الكلمة في اللغة الفرنسية، عبر العصور، وجدنا لها عددا من المعاني يتفق بعضها مع ما رأيناه في اللغة العربية:
ان كلمة valeur لاتينية الأصل. فهي مأخوذة من الفعل المصرف Valeo الذي معناه:
أنا قوي Je suis fort
انا في صحة جيدة Je suis en bonne santé
وهو معنى يتضمن فكرة الفعالية efficience والتأثير efficacité والملاءمة ومعنى تشير اليه الكلمة الفرنسية في استعمالها اللغوي[10] حيث تدل على القوة والشجاعة[11] .
وقد وردت المادة في القرآن الكريم بصيغها المختلفة إحدى وستين وستمائة مرة تدور كلها حول الثبات والنهوض والانتصاب والاعتدال بمعانيه المادية والمعنوية، والتعديل وإزالة الاعوجاج[12] .
انطلاقا من هذا الرصد اللغوي يتبين لنا المدلول العام الذي تحمله مفردة” قيمة “، والذي يأتي بمعاني عدة ومختلفة، كالثبات والاعتدال والاستقامة والبلوغ والاستواء والوقوف والانتصاب والدوام على الأمر. وتحمل معاني الرعاية والصلاح والقوة والشجاعة والمقاومة والصلابة.
وإذا ربطناها بالمجتمع وقضايا التنمية فإنها تعطيه الحياة والفعالية انطلاقا من مسها جوهر الإنسان من جهة، ومجال التدافع والبناء الحضاري من جهة ثانية. حيث تنظم علاقات الفرد المواطن بالبيئة والصحة والتواصل والإعلام وحقوق الإنسان، والفن والجمال. في أفق تحقيق التنمية المستدامة.
ب / الدلالة الاصطلاحية:
تتعدد استعمالات مصطلح القيم حسب تعدد معانيه عند أهل كل فن من الفنون أو العلوم …
فإذا رجعنا إلى مفهوم القيم في القرآن الكريم وبرجوعنا لدراسة مصطلح [13]” القيم ” فيه ، نجد مشتقات الأصل الثلاثي ” قوم” في مئات المواقع والمواضع من آيات القرآن الكريم : القيم جمع قيمة، وجذرها قوم، وردت مشتقاتها فيه حوالي ستمائة وتسع وخمسين (659) مرة، منها: قام، وأقام، وقيام، وقائم، وقيوم، وقيم، وقيم، وقوام، وتقويم، في حوالي مائة وستين (160) مرة، واستقام ومستقيم في سبع وأربعين (47) مرة، وقيامة في سبعين (70) مرة، وقوم في ثلاثمائة واثنتين وثمانين (382) مرة.وعند جمع دلالات الألفاظ الواردة في هذه المواقع وتصنيفها، نخلص إلى أن : المضامين والمعاني الآتية : تشير إلى أن ” الله سبحانه هو الحي القيوم ” ، والدين الذي ارتضاه للإنسان هو” الدين القيم “، وأمره بقوله: ( أقم الصلوة ) ، فهي عمود الدين، وكتابه الذي أنزله ( يهدى للتي هي أقوم ) ، والكون كله ” قائم ” على سنن ونظام تتقوم به أشياؤه وظواهره، وأن حياة الإنسان تتقوم بما هو على صراط (مستقيم) ، وبمنظومة القيم الهادية المحددة لتصوراته وعلاقاته وأعماله الظاهرة والباطنة التي يحاسب عليها يوم القيامة .
لذلك لا غرابة في أن نقول: إن مصطلح ” قيمة ” و” قيم ” بالمعنى المعروف اليوم يجد أصلاً في القرآن الكريم، ومع ذلك فإننا لم نجد العلماء قد استخدموا هذا اللفظ إلا في سياقات فقهية محدودة، تختص بقيمة الشيء في مجال المبايعات والجنايات.
القيم هي مجموعة من العقائد الدينية أو الفلسفية المفضلة عند شعب ما أو حضارة ما، وعندما تصبح قيماً مفضلة فإنها تتحول إلى أسلوب للحياة، تحدد لنا تصورنا للكون وللطبيعة وللتاريخ وتصورنا للوجود، بل وتحدد لنا حتى أذواقنا ومظاهرنا وسلوكنا العام. وبالتالي فالقيم حينما تتحول إلى مرجعية عليا تصبح نمط حياة[14] .
القيم مفهوم حديث، وهي عبارة عن “تقدير نقوم به تجاه شخص أو فرد أو نشاط حسب ما يمكن تحصيله منه. وتتكون القيم من مجموع معتقدات واختيارات وأفكار تمثل أسلوب تصرف الشخص ومواقفه وآراءه وتحدد مدى ارتباطه بجماعته، وتشكل مجموع القيم النظرة إلى العالم”.[15]
يعرف “نديم علاء الدين الـقـيـمـة بأنها: «حـكـم يـصـدره الإنـسـان على الأشـيـاء، وينبع. الاعتراض والاحتجاج على الوجود كما هو قائم ومفروض، ومن سعي الإنسـان لـتـحـويـل هذا الوجـود وفق مـا ينبغي أن يكون، ولذلك فإن الـقـيـمـة مـفـهـوم لـه امـتـداد يطول مختلف مجالات نشاط الإنسان، ويتـعـدد تبعا لفـاعـلـيـتـه. والـقـيـمـة نظراً لهذا التعدد، تصبح إمكانا بسبب تنوع القيم وتنوع الفعل الإنساني “[16].
ويعرف (كرلنجر) القيمة بأنها: “تنظيم الاعتقادات والاختيارات بالاستناد إلى مراجع تجريدية أو مبادئ، وإلى عادات سلوكية أو أنماط، وإلى غايات الحياة … تعبر القيم عن أحكام أخلاقية، عن أوامر، عن تفضيل عادات وأنماط للسلوك. إننا نعتبر من قبيل القيم كل ما يهمنا بشكل أساس تحقيقه، وكل ما يهب معنى لحياتنا”[17]
ويعرف “بارسونز” القيمة بأنها: «عنصر في نسق رمزي مشترك يعتبر معيارا أو مسـتـوى للاختيار بين بدائل التوجيه التي توجد في الموقف. فكأن القيم هنا تمثل معايير عامة وأساسية يشارك فيها أعضاء المجتمع وتسهم في تحقيق التكامل وتنظيم أنشطة الأعضاء»[18]
ويقصد بالقيم مجموعة من الأخلاق والتمثلات السلوكية والمبادئ الثابتة أو المتغيرة التي ترتبط بشخصية الإنسان إيجابا أو سلبا، وبالتالي تحدد كينونته وطبيعته وهويته انطلاقا من مجموع تصرفاته الأدائية والوجدانية والعملية.
وتحيل كلمة القيمة على مكانة الإنسان التي يتبوأها بين الناس، وشأنه في المجتمع، كما ترتبط هذه القيمة حكما وتقييما بالأفعال البشرية والتصرفات الإنسانية بشكل ذاتي وموضوعي.[19]
وقد ذكر “محمد أولحاج” في كتابه [20](بيداغوجيا القيم) مجموعة من التعاريف استقاها من دراستان مختلفتان نجملها فيما يأتي:
– القيم ماهي إلا انعكاس للأسلوب الذي يفكر الاشخاص به في ثقافة معينة وإلى فترة زمنية معينة، كما أنها هي التي توجه سلوك الافراد وأحكامهم واتجاهاتهم فيما يتصل بما هو مرغوب فيه أو مرغوب عنه من أشكال السلوك في ضوء ما يضعه المجتمع من قواعد ومعايير.
– ويرى “ميلتون روكوشي” (Rokeach) أن القيم من وجهة نظره، عبارة عن تمثلات معرفية لحاجات الفرد أو المجتمع، ويعرفها بأنها: «معتقد ثابت نسبيا، ويحمل في فحواه تفضيلا شخصيا او اجتماعيا لغاية من غايات الوجود او لشكل من أشكال السلوك الموصلة إلى هذه الغاية».
انطلاقا من هذه التعاريف يمكن القول بأن القيم هي أخلاق حضارية مفضلة جديرة بأن تصبح نمط حياة، تؤسس لنا مواقف ثابتة تجاه الكون والحياة، وتضبط لنا مواقفنا واختياراتنا وتوجهاتنا وهويتنا داخل المجتمع في كل مجالات اشتغالنا لتعطي لنا معنى للحياة فتعلو بنا وتسمو بقدرنا وشأننا.
وما أحوج المجتمعات اليوم إلى منظومة قيمية حضارية، تنظم علاقة الإنسان بخالقه وبنفسه ومحيطه ويصير لها تأثير في الفكر والوجدان والسلوك حتى تصبح للمجتمع رؤية ومنهجا تنمويا استراتيجيا يرسم له طريق الأمن والأمان والازدهار والتقدم، فتترسخ هذه القيم لدى الناشئة والأجيال لتتعاقبها وتتوارثها ويستفيد العالم من عبقها الحضاري، لتصبح أسسا وقواعد ومثلا إنسانية عالمية عليا.
1 -ابن منظور لسان العرب. الجزء 12 ص: 499
2 – . المصدر نفسه، ج. 12 ص: 500
3 -سورة الأنعام، الآية 161
4 -سورة البينة، الآية 05
5 -ماجد زكي الجلاد تعلم القيم وتعليمها، دار الكتب العلمية، بيروت، 2005، ص:941
6 -يوسف المعلوف وآخرون: المنجد في اللغة والأعلام، دار المشرق، بيروت، ط 27، 1984، ص: 664
7 -إبراهيم مصطفى، أحمد حسن الزيات، حامد عبد القادر، محمد علي النجار، المعجم الوسيط، ص: 611. مجمع اللغة العربية
8 -محمد مرتضى الربيدي، تاج العروس، المجلد 9 ص 35 وما بعدها، دار صادر، بيروت.
9 -زكية منزل عرابة: القيم الثقافية في الدراما المقدمة في قناة اقرأ وأثرها على الشباب الجامعي (دراسة تحليلية وميدانية). رسالة دكتوراه
غير منشورة في الإعلام الإسلامي، إشراف: بوعلي نصير. قسم الدعوة والإعلام والاتصال، جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية
10 . R. RUYER, Philosophie de la valeur, p. 7, Colin, Paris, 1952.
. . CUVILLIER, Nouveau vocabulaire philosophique, p. 192, Colin, Paris, 1956 11
12 -الدكتورة نوال كريم زرزور ” معجم ألفاظ القيم الأخلاقية وتطورها الدلالي بين لغة الشعر الجاهلي ولغة القرآن، مكتبة ناشرون ،2001
13 -فتحي حسن ملكاوي. منظومة القيم المقاصدية وتجلياتها التربوية. ص :179. منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي 2020 م.
14 -قيم النفير الحضاري في مقابل قيم النفور الحضاري / امحمد طلابي / مجلة الفرقان العدد 60/1429-2008 / الصفحة 03
15 -معجم علوم التربية (مصطلحات البيداغوجيا والديداكتيك) ـ مطبعة النجاح الجديدة، ط 1، 1994
16 -نديم علاء الدين، نظرية القيم في الفكر المعاصر، مجلة الباحث عدد3/47 ص: 123
17 -جيلير دي لانشير: (معجم التقويم والبحث في التربية) المنشورات الجامعية، فرنسا، طبعة 1، باللغة الفرنسية، مادة قيمة valeur
18 -ضياء زاهر، القيم في العملية التربوية، ص: 19
19 -عبد السلام الأحمر، واقع التربية على القيم في الإصلاح الجاري، الناشر: مجلة الفرقان العدد 60/1429-2008: الصفحة: 10
20 -محمد أولحاج / بيداغوجيا القيم / الصفحة: 16 / الناشر: صدى التضامن / الطبعة: 2009