أول ما يلفت نظر القارئ قبل الدخول إلى متن الكتاب ، إشارتان وردتا على عتبة الغلاف : أولاهما أن العنوان ” كأنها مصادفات ” ، يومئ إلى أن الحياة لا تخضع لأي منطق أو قاعدة صارمة ، بل إن الأحداث التي تقع للإنسان فيها ، تخضع للمصادفات غير المتوقعة ، وأن ما سيتم سرده من أحداث تتعلق بحياة الكاتب هو شبيه بهذه المصادفات. وثانتيهما أن الميثاق التلفظي ” تداعيات سيرذاتية “، يشير إلى أن ما سنقرأه في هذا النص السيرذاتي لا يتخذ مساراً كرونولوجياً كما عهدنا ذلك في العديد من السير الذاتية المعروفة سواء في المشرق أو المغرب ، وإنما يتخذ شكل محكيات متفرقة في الزمان والمكان تستحضرها الذات الساردة عن طريق التداعي، وتتلقاها ” حسب ترتيب الذاكرة لا حسب تاريخ وقوعها في الزمن ” ( ص : 3 ) .
لقد كان الدافع إلى كتابة هذه السيرة الذاتية هو تسجيل زمن الكاتب الخاص، واسترجاع لحظات من حياته عاشها خلاله ” لما تحمله من خصوصية وفرادة ومذاق خاص.. من هنا تستحق كل حياة أن تحكى لأنها نسخة فريدة لن تتكرر أبداً ولم يسبق أن عاشها بتفاصيلها أحد منذ ظهور أول إنسان على الأرض. وهذه الحقيقة وحدها كافية وموجبة لتسجيل ذكريات إنسان حي وعرضها على أشباهه الأحياء” ( ص: 4 )
يقدم لنا المؤلف تداعياته السيرذاتية بكثير من الأمانة والصراحة والصدق ، ويسمي الأشياء بمسمياتها ، ويوجه نقداً لاذعاً إلى العديد من التقاليد البالية التي كانت تسود المجتمع في مدينته شفشاون ، ومن أفظعها تزويج القاصرات ، وحرمانهن من الخروج من بيت الزوجية حسب الأعراف والتقاليد ، وسيادة السلطة الأبيسية القاهرة ، ناهيك عن التعليم التقليدي الذي كان يغتصب طفولة الإنسان ، ويحرمه من الحرية والانطلاق وإشباع حاجاته إلى اللعب البريء ، إلى غير ذلك من المشاهد والمواقف المؤثرة الشديدة الرهافة سواء فيما يتصل بعلاقته بعائلته في مرحلة الطفولة، أو فيما يتعلق بعلاقته بأصدقائه في مرحلة الشباب. كما يعرض في فصول متفرقة تجربته في مجال النضال الطلابي والحزبي. ويذكر بالخصوص الفترة التي تحمل فيها مسؤولية قيادية في فرع حزب الاتحاد الاشتراكي بتطوان. وعن تلك الفترة يتحدث بكثير من الصراحة والمرارة والألم ، عما آل إليه العمل الحزبي في السنوات الأخيرة في حزبه ، من انتهازية بعض مناضليه ، وتنكرهم للمبادئ التي قام عليها هذا الحزب المغربي العتيد. يقول : ” في تجربتي المتأخرة واجهني الوجه الكريه لبعض محترفي السياسة ، فنفرني من السلوك الحزبي الغبي الذي يطل على الحياة من كوة ضيقة لا يرى منها إلا مصالحه الآنية العاجلة ” ( ص : 214 ) ، لذلك نجده في العديد من المقاطع السردية ، يعبر عما يعانيه المثقف من انشطار وتمزق بين المبادئ والقيم الإنسانية النبيلة التي ينحاز إليها ، وبين العمل الحزبي الذي يحكمه في الغالب ما هو عرضي وآني متحول. يقول : ” كنت أعيش في نقطة تصادم عالمين متضادين ، عالم العبث والعقم والجهالة والسخف والتهافت الذي يحاصرني من كل جانب وأنا أمارس مهمتي الحزبية ، وعالم المعرفة والتعمق في الجوهر الإنساني الذي يستحق التضحية من أجل الرقي به والحفاظ عليه باعتباره ثروة إنسانية مشاعة لا تعادلها ثروة. ” ( ص : 201 )
إن كتاب ” كأنها مصادفات ” مصدر تاريخي وسياسي واجتماعي وأدبي ، فهو مصدر تاريخي يرصد فيه المؤلف فترة تاريخية عصيبة تتصل بالاستعمار الإسباني لمدينة شفشاون ، وحرب الريف بقيادة الزعيم محمد عبدالكريم الخطابي ، والآثار الاقتصادية والاجتماعية التي أفرزتها الحرب الأهلية والحرب العالمية الثانية على المغاربة، وعلى الإسبان أنفسهم تحت نير الحكم الديكتاتوري لفرانكو ؛ وهو مصدر سياسي يتحدث فيه عن دور الحركة الوطنية في منطقة الشمال على عهد الاستعمار، وعن مرحلة بداية الاستقلال التي عمت فيها فرحة الشعب العارمة بعهد جديد تسوده الحرية والعدالة والتقدم ؛ وهو مصدر اجتماعي يذكر فيه المؤلف العديد من التقاليد والعادات الاجتماعية السلبية والإيجابية، وبعض المعتقدات الخرافية السائدة في مجتمع المدينة المنغلق آنذاك ، كما يتحدث في فصل كامل عن المرأة ووفائها وقدرتها على تحمل أعباء الحياة ومآسيها، بكثير من التقدير والتبجيل ، جدةً وأماً وأختاً وزوجةً (الأنثى : القطب الأقوى ) ؛ وهو مصدر أدبي، يسجل فيه ما كانت تشهده الساحة الثقافية والأديبة من ازدهار في مدينة تطوان في الثلاثينيات والأربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن الماضي ، متمثلة في ظهور صحف ومجلات كان لها الدور الفعال في الإشعاع الثقافي والأدبي داخل المنطقة وخارجها. ويتحدث بشكل خاص عن مجلة ” المعتمد ” الشعرية التي أصدرتها الشاعرة الإسبانية إيلينا ميركادير في سنوات الأربعين، حيث كان لها ” دور أساسي في خلق حركة شعرية امتد أثرها إلى حركة التحديث الشعري في المغرب خلال الستينيات ” ( ص : 99 ) ، كما يتصدى المؤلف إلى الحديث في فصل خاص عن مهرجان الشعر بشفشاون الذي اكتسى صبغة وطنية، وظل قبلة لأجيال من الشعراء والأدباء المغاربة منذ سنة تأسيسه 1965 إلى الآن رغم تعرضه للتضييق والتوقيف التعسفي من لدن السلطات لأكثر من عقد من الزمن ( من : 1969 ـ 1983). ويذكر أسماء كان لها الفضل في استمرار هذه التظاهرة الشعرية الفريدة، من أبرزهم الشاعران: عبدالكريم الطبال وأحمد بنميمون، كما يذكر نشطاء “جمعية أصدقاء المعتمد ” التي كان لها حضور ثقافي بارز منذ تأسيسها سنة 1959. وهكذا جاءت هذه السيرة الذاتية شبيهة بالسجل العام الذي يضم الذاتي المتصل بالذات الكاتبة، والموضوعي المرتبط بالتاريخ والمجتمع والثقافة والأدب.
ومن هنا يمكننا القول إن كتاب ” كأنها مصادفات ” يضم ثلاثَ مراحل من حياة الشاعر محمد الميموني رحمه الله أو ثلاثَ سِيَر : ـ سيرة حياة الكاتب الفردية الخاصة، وتتعلق بمرحلة الطفولة والصبا والشباب والتكوين الذاتي والدراسي ـ سيرة نضالية حزبية، وتتصل بمرحلة النضال السياسي والحزبي ـ سيرة شعرية ثقافية، ويرصد فيها مراحل تكوينه الشعري، وتجربته الشعرية، وقراءاته المتنوعة.
تدور الأحداث في فضاءات متعددة تتمثل في مدن مغربية لكل منها تأثيره الخاص على الأنا الساردة، وهذه المدن هي: شفشاون، فضاء الطفولة والبراءة وبداية اكتشاف العالم / الدار البيضاء، فضاء الانفتاح على عوالم جديدة شاسعة، والانغمار في حياة العمل والانكباب على التثقيف الذاتي. ( ص: 140 ) / الرباط ، فضاء الدراسة الجامعية ، والنضال الطلابي والنشاط الثقافي / مدينة طنجة ، فضاء التعدد الثقافي واللغوي / تطوان، فضاء المسؤولية الحزبية. وقد كان الكاتب في كل هذه الفضاءات، مؤثراً فعَّالاً في كلِّ المجالات التي خاض فيها خلالَ مختلف أطوار حياته.
والملاحظ أن الكاتب في هذه التداعيات السِّيرَذاتية، يوظف النصوصَ المضمنة المتمثلة في ثلاث قصائد شعرية وردتْ في سياق حديثه عن أشخاص له علاقة حميمة بهم : صديقه الكاتب محمد شكري ، وزوجه فوزية ، وشقيقته فاطمة ، وكأن حديثه النثري عنهم لم يكن ليشفي غليلَه للتعبير عما يُكنه لهم من حب وتقدير بالصورة الجمالية التي تنقل أعمق وأدق الأحاسيس التي ربما عجز النثر عن نقلها، كما يوظف العديد من الحكايات الشعبية والعجائبية التي كانت تروج في محيطه الطفولي في مدينة شفشاون ، إلى جانب حكايات واقعية حزينة عن واقع الجنود المغاربة الذين شاركوا في الحرب الأهلية الإسبانية.
أسلوب الكتابة يتسم بطابع الخطاب المقالي، حين يوجه المؤلف نقده إلى الحزب الذي كان ينتمي إليه، وبالطابع السردي المتسربل في كثير من الفقرات والمقاطع السردية بغلائل الشعر حين يتحدث عن حياته الخاصة.
بقي أن أقول في الختام إن هذه السيرة الذاتية للشاعر المرحوم محمد الميموني ، لتفوقُ ـ في نظري ـ بما فيها من صدق وصراحة وذكر خصوصيات حميمة عن حياته الخاصة والعائلية، العديد من السير الذاتية في أدبنا العربي المعاصر .
إحالة:
* “كأنها ىمصادفات ” / تداعيات سيرذاتية ،محمد الميموني ، منشورات ، سليكي إخوان ، طنجة ، 2013.
بقلم :عبدالجبار العلمي