صدر كتاب “المغرب والبرتغال: تاريخ مشترك وذاكرة متقاطعة” سنة 2019، في جزأين متكاملين، وذلك ضمن منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، وبإشراف على مستوى الإعداد والتنسيق للأستاذ أنس الفيلالي. ويمكن القول، إن هذا الكتاب الذي شاركت فيه نخبة من الباحثين المغاربة والبرتغاليين والإسبان المتخصصين في تحولات العلاقات المغربية البرتغالية لقرون الزمن الماضي، يشكل إضافة نوعية لحجم التراكم العلمي الذي حققته الجامعة المغربية ومراكز الدراسات المغربية والبرتغالية المهتمة بقضايا الغزو الإيبيري ببلادنا وتحولاته خلال مطلع العصور الحديثة للقرنين 15 و16 الميلاديين.
وللاقتراب من سقف هذا العمل التركيبي المجدد والمبتعد عن إواليات طابع التنافر في الماضي المشترك للذاكرة المغربية البرتغالية، نقترح إعادة نشر تقديم الدراسة التي كان لنا شرف المساهمة بها في هذا الكتاب، والمعنونة ب”التراث الثقافي البرتغالي بالمغرب.. ذاكرة مشتركة لتواصل تاريخي-إضاءات بيبليوغرافية وطوبونيمية مؤسسة”. يقول هذا التقديم:
استطاعت دولة البرتغال أن تكتسب مجال الريادة على مستوى مشاريع الاستكشاف الأوربي لعالم ما وراء البحار منذ مطلع العصور الحديثة، فجر القرن 15م. واستطاعت هذه الدولة أن تضع أسس توجهات توسعية منظمة خارج حدود أوربا، أثمرت ما أصبح يعرف بالظاهرة الاستعمارية. فمنذ احتلال مدينة سبتة المغربية سنة 1415م، ومرورا بتوسع البرتغال على امتداد خط الساحل المتوسطي والأطلنتي المغربي والذي انتهى بها إلى احتلال العديد من المدن الاستراتيجية المغربية مثل القصر الصغير وأصيلا وطنجة والمهدية ومازغان وأزمور وأسفي وموغادور وأكادير، استطاع البرتغاليون تعزيز أقدامهم فوق الأرض المغربية، لتحويلها إلى قاعدة لكل عملياتهم التوسعية التي شملت أجزاء واسعة من القارة الإفريقية وبلاد الهند وأمريكا الجنوبية. باختصار، يمكن القول إن الثغور المغربية التي احتلها البرتغاليون خلال القرنين 15 و16 الميلاديين قد تحولت إلى نقاط ارتكاز أساسية في كل مشاريع الغزو الإيبيري المرتبط بتداعيات ظاهرة الاكتشافات الجغرافية التي شكلت الانطلاقة الفعلية لليقظة الأوربية التي قطعت مع عهود العصر الوسيط الأوربي وظلام النظام الفيودالي العتيق.
وعلى الرغم أن هذه الظاهرة الاستعمارية قد أصبحت جزء من الماضي المشترك في علاقة المغرب بجاره البرتغالي، فإن آثارها المادية والرمزية لازالت ماثلة للعيان سواء بهذه الدولة أم تلك. ونظرا لعمق هذه التأثيرات وأهمية مساهمتها في رسم المخيال الجماعي المشترك بين المغرب وشبه الجزيرة الإيبيرية، فإننا نعتقد أن التأثير البرتغالي في النظم المعيشية للمغاربة وفي أنماط تفكيرهم يعتبر الأكثر أهمية من كل التأثيرات التي خلفتها موجات الاحتلال المتتالية التي تعرضت لها بلادنا على امتداد تاريخها الطويل، مثلما هو الحال مع الاحتلال الوندالي، أو الروماني، أو الفرنسي، أو الإسباني. ولن نجد صعوبة تذكر إذا أردنا رصد مظاهر التأثير البرتغالي داخل وسطنا المعاصر، ليس فقط على مستوى الشواهد المادية المباشرة المنتصبة كأسوار وكأبراج وكقلاع على امتداد جغرافية العديد من المدن المغربية العريقة الساحلية، ولكن كذلك –وهذا هو الأهم– على مستوى التراث الرمزي المشترك، تراث يتجاوز حالة التنافر الديني بين هذا الشعب أو ذاك، وكذلك حالة التصادم الحضاري “المفترض” الذي رسخته أرصدة هائلة من الإسطوغرافيات التقليدية سواء منها العربية الإسلامية أم الإيبيرية الكلاسيكية. ولعل المتأمل في المضامين الإنسانية للتراث الثقافي والرمزي المشترك، سيقف على الكثير من القيم التي تتقاطع في تمظهراتها السلوكية والفكرية مع مسلكيات يومية بسيطة نجدها منتشرة بين صفوف المغاربة، مثلما نجدها قائمة الذات بين صفوف الساكنة البرتغالية. فعلى المستوى اللغوي مثلا، يمكن حصر حالات كثيرة من أشكال التأثير اللساني هنا وهناك. وعلى المستوى الأنتروبولوجي، أمكن الوقوف على حالات عديدة لطقوس اجتماعية مغربية انتقلت إلى البرتغال وتحولت إلى ممارسات إيبيرية خالصة. وحتى على مستوى أسماء الأشخاص والأماكن، يمكن الوقوف بالبرتغال على مظاهر شتى لهذه التأثيرات، من قبيل انتشار أسماء مثل فاطمة، القنطرة، مازغان،… على نطاق واسع واكتسابها لصفات إيبيرية خالصة. لكل ذلك، وغيره كثير، أمكن القول إن الحضور المغربي في الفضاء العام للبرتغال أو الحضور البرتغالي في الفضاء العام للمغرب، يظل أمرا غير قابل للتجاوز، بفعل انتصابه كحقائق قائمة فرضتها الجغرافيا ورسخها التاريخ وزكاها التراث الثقافي المشترك.
ونظرا لأهمية الحضور التاريخي للبرتغال في الكثير من مناطق العالم، بما فيها المغرب، أصدرت مؤسسة كالوستكولبنكيان كتابا تصنيفيا للعديد من هذه المواقع التي تدخلت هذه المؤسسة من أجل إما ترميمها أو إصلاحها أو العناية بها. وقد صدر هذا الكتاب خلال سنة 2009 تحت عنوان “التراث التاريخي من أصول برتغالية في العالم”، وذلك في ما مجموعه 58 صفحة من الحجم المتوسط، احتوت على مواد تعريفية بمختلف المواقع البرتغالية التاريخية التي كانت موضوعا لتدخل المؤسسة المذكورة. وقد تشكلت هذه المواد من صور فوتوغرافية توثيقية وخرائط توضيحية ونصوص تعريفية كتبت باللغات البرتغالية والإنجليزية والفرنسية. وبالنسبة للمغرب، فقد اختار القائمون على الكتاب إدراج موقعين اثنين ضمن المواقع المحتفى بها في الكتاب، يتعلق الأمر بالكنيسة البرتغالية الموجودة بالمدينة العتيقة لأسفي، وبرج “التشريف” أو برج “القمرة” المنتصب في قلب المدينة العتيقة لأصيلا. ويعود سبب اختيار موقع أسفي وموقع أصيلا دون بقية المواقع البرتغالية الأخرى الموجودة بالمغرب، نظرا لأنهما الموقعان الوحيدان اللذان شكلا مجالا لتدخل مؤسسة كالوست كولبنكيان، ترميما وإصلاحا وتعريفا بهما على الصعيد العالمي.
وكيفما كان الموقف الذي يمكن أن يصدر عن الباحثين الأركيولوجيين بخصوص طبيعة الترميم الذي قامت به المؤسسة المذكورة في هذا الموقع أو ذاك، فالمؤكد أن هذا العمل قد ساهم في الحفاظ على الكثير من الأبعاد التاريخية والجمالية للمواقع المذكورة، بل وفي إكسابها عناصر الإشعاع العالمي باعتبارها موروثات تاريخية بحمولات فنية راقية وبأصول حضارية ثرية وخصبة. ولعل هذا ما جعل برج “التشريف” (أو “القمرة” كما هو شائع في التداول المحلي بين سكان مدينة أصيلا) يتحول إلى أحد أبرز المعالم المميزة للمدينة ووجها أصيلا لخصوبة ذاكرة الفضاء المحلي للمدينة، لدرجة أنه لا يمكننا تصور جزئيات هذا الفضاء بدون برج “القمرة”.
وعلى مستوى البحث العلمي التخصصي، فقد ساهم عمل مؤسسة كالوست كولبنكيان على المواقع التاريخية البرتغالية المذكورة بالمغرب، في إثارة الانتباه إلى أهمية توسيع هذا الجهد لكي يشمل كل المواقع الأخرى التي لا تزال منتصبة داخل العديد من مدننا إلى يومنا هذا، خاصة وأن الجهد الأكاديمي الذي يبذل -الآن- لتنظيم الاشتغال على الرصيد الوثائقي والإسطوغرافيات البرتغالية حول المغرب، يمكن أن يجد الكثير من عناصر الإسناد الأركيولوجية في مثل هذا النوع من أشكال الترميم والنبش والصيانة.
أسامة الزكاري