تسكنه حالة غريبة هذه الأيام. يقفز في الهواء. يتمايل ذات اليمين وذات اليسار. يهرع كمن يخشى ظلّه. يتلوّى على الأرض ويعيد القفز؛ ثم ينتصب واقفا ويداه إلى الأعلى في وضع المتأهب للنزال. العرق يتصبّب على ظهره مستقيما فيبلّل سرواله من الخلف وهو يلهث من شدّة التعب والظمأ والحماسة.
يقصد الحديقة حيث تنتصب في وسطها شجرة السنديان الضخمة، يقف أمامها مزهوا وقد انتفخت أوداجه، كيف لا وقد غرسها جدّه واعتنى بها أبوه حتى صارت على ما هي عليه؟
في الحقيقة لا أحد يهتم بمن غرس شجرة السنديان ولكنه يصرّ على تذكير الجميع بذلك، جدّه لم يغرسها، أبوه لم يعتن بها يوما وهو مسكون بجنون العظمة، مفتون بأدوار البطولة فقط …. وهل كان جده في وضع يسمح له بغرس السنديان أو الزيتون حتى؟ ألم يكن هناك من يفضّل شجر الغرقد مثلا؟ هل كان أبوه يعتني بشيء على الإطلاق؟ ألم تكن هناك نزوات مختلفة تشغله ومصالح متعددة توجهه؟
يتسلّق الشجرة العملاقة. يصل إلى الأعلى ويطفق يغازل النجوم ويراقب الأرض وقد اتكأ على أغصانها القوية والمتشابكة.
ظلال الأغصان المتشابكة على الأرض تبدع صورا عصيّة على الفهم…. بابتسامة ساخرة صفراء تكشف أسنانه المخربة يستحضر ذكرى صديقه الذي قتله الظل.. حاول إنقاذه، لكن يد الظل كانت الأطول. صورة تخزّنها ذاكرته ويجترّها باستمرار وقد أصبح محكوما بالظل.. يدفعه نحو المجهول.
يغمض عينيه ويرخي لذهنه العنان….. هل الفراغ هو أصل الكون حقا أم الفوضى هي الأصل؟
أيمكن أن تكون لعنة أورانوس الأبدية حلّت بالعالم أخيرا؟ هذه الفظاعات …هذه الدماء هذه الكراهية التي تغزو الكون …ألا تفسّر تلك اللعنة؟
يتنفس بصعوبة. ينظر إلى الظّلال التي تتشكل أسفل الشجرة، شخوص كثيرة ببطون منتفخة وأنوف طويلة وألسنة لاهثة.
تزداد الصورة وضوحا كلّما هبّت ريح أو لمع برق، وتزداد الصورة غموضا كلّما اهتز غصن أو حلّق طير.
أصيب بالذعر والهلع. يداه ترتعشان، نظره يضعف. شلّت حركاته وتجمّدت الدماء في عروقه، فقد توازنه وهوى على الأرض وهو يتكور من الألم.
استجمع قوته. نهض بصعوبة بالغة لكنه سرعان ما عاود السقوط من جديد. بدأ يصرخ بصوت لا يكاد يبارح شفتيه: لن أسمح لك بقتلي أيّها الظل اللعين. لن تتحكم بأنفاسي بعد اليوم. لن تسيطر عليّ أبدا. سأتمرد عليك.
لم يكد ينهي صراخه المكتوم حتى امتدت يد الظل وأحاطت عنقه بقوة حتى هشمته. جحظت عيناه وتدلى لسانه ثم انقطع صوته. وأخيرا تمكن منه الظل كما أصدقائه…وأخيرا أخرس إلى الأبد.
حميدة جامع