- من هو الأستاذ مصطفى حجاج؟
ـ من مواليد 28 يناير 1946 بتطوان. خريج المدرسة العليا للأساتذة، فوج يونيو 1968. أستاذ اللغة العربية. مرشد تربوي. متقاعد منذ: 28. 1. 2006. كاتب عام لجمعية تطاون أسمير، ومن أعضائها المؤسسين. ناظر الزاوية الكتانية بتطوان.
- كيف كانت الطفولة؟ ما أبرز ذكرياتها؟
ـ نشأت في بيئة محافظة وفي بيت قرآن يضم عائلتين: عائلة والدي رحمة الله عليه، وعائلة عمي تغمده الله برحمته وشكل الأبناء أسرة واحدة متكتلة لا هم لها إلا حفظ القرآن وتلاوته وتجويده.
وكان الكتاب الذي يجمعنا مسيد الفقيه الصروخ المقابل لزاوية سيدي علي بن ريسون، نؤمه بعد صلاة الصبح بقليل، فنمحو ألواحنا ونكتب الثمن أونصف الثمن الموالي للذي محوناه، ولا نتناول فطورنا إلا بعد الانتهاء من هذه المهمة، ولم نكن نهنأ باستراحة الزوال فقد كانت قصيرة.
وبعد صلاة المغرب وقراءة الحزب، كنا نهرول إلى منزلنا لنكرر القرآن، أو نستظهر ما حفظنا منه، وكان لكل واحد مصحف خاص به، لا يطويه إلا عند سماع آذان العشاء.
هكذا كان برنامجي وبرنامج ابني عمي. إلا أنني تميزت عنهما بالاحتفال بالبقرتين الصغيرة والكبيرة؛ والأولى تقام عندما يصل التلميذ إلى الحزب الحادي والثلاثين، وتقام الثانية عندما يزوق لوحه بمستهل سورة البقرة.
ولا أعتقد أني رأيت والدي سعيدا كما رأيته يوم أتممت “السُّلْكَة”، فقد أصرّ على أن يذبح بهذه المناسبة بقرة صفراء فاقع لونها، ويدعو الأهل والأحباب ليشاركوه فرحته بابنه، وليرددوا مع المحاضرة:
الصادق ما ضاق؛
والعلم صادق؛
وافرح يا وِمُّو؛
واختم لك عِلمو.
ولم يقتصر حفظي لكتاب الله على سلكة واحدة؛ بل تلتها ثلاث سُلَك، كان والدي يخصني في كل واحدة منها بحفظ متن من المتون يكتب لي منه سطرين أو ثلاثة أسطر أسفل اللوح.
وهكذا حفظت متن ابن عاشر، وحفظت الأربعين حديثا النووية، وحفظت قواعد التجويد.
وحين اشتد عودي، أدخلني الوالد رحمه الله إلى المعهد الديني.
من الأشياء التي أذكرها في مرحلة الطفولة أن والدي كان يحلو له بين الحين والحين أن يجمعنا أنا ووالدتي، وأختي وأخي، ليقص علينا قصة الإسراء والمعراج، أو قصة هجرة الرسول، أو قصص الأنبياء، وأحيانا كان يفتح كتاب فتوح الشام للواقدي ويسمعنا منه فصلا أو فصلين.
ألعابنا في هذه الفترة كانت من صميم هذا الجو الروحي، فقد كنا نجد لذتنا في تقليد أو محاكاة الأئمة وهم يصعدون على المنابر لإلقاء خطبة الجمعة، فنلبس الجلاليب ونتخذ من المنادل أو الأُزر “سلاهيم” ونصعد على درجات لنلقي الخطب. منا من يشخص دور المؤذن، ومنا من يتولى رواية الحديث، ومنا من يلقي الخطبة.
- هل تتذكرون بعض تفاصيل اليوم الأول في المدرسة؟ حدثونا عنها.
لا أذكر من هذه التفاصيل، إلا أنني اجتزت بالجامع الكبير امتحانا شفويا في حفظ القرآن وحفظ بعض المتون.
ثم انضممت إلى جماعة تتحلق حول فقيه ليقال لي فيما بعد إنها السنة الأولى.
كانت الدراسة آنذاك على نمط ما كان يحكيه الكاتب طه حسين عن الأزهر ودروس الأزهر.
وكانت تبتدئ من شروق الشمس لتنتهي في الثانية عشرة زوالا.
ومن الكتب التي كنا ندرس بها كتاب المكودي في النحو، وتفسير ذي الجلالين، والميارة، وكلها كتب صفراء.
والطريقة المتبعة في التدريس أن يسرد الطالب النبيه فقرة أو فقرتين من الموضوع المقرر، ثم يأتي دور الفقيه ليشرح ما سرد؛ وغالبا ما كان السادة الأساتذة ـ عفا الله عنهم- يخرجون عن الموضوع بدعوى أن الشيء بالشيء يذكر.
- من هم أبرز الذين أثروا فيك في المرحلة الابتدائية؟ لماذا؟
سأكون جاحدا إذا قلت إنني لم أتأثر بأي واحد من الأساتذة، ولكن هذه هي الحقيقة فالأستاذ بحكم جلوسه على كرسي الوعظ والإرشاد، وبحكم عدم تتبعه للمتحلقين حوله لم يكن له ارتباط أو رباط وثيق بتلاميذه. فهو ينتهي من هذه الحلقة لينتقل إلى حلقة أخرى، دون أن يكلف نفسه عناء التعرف على طلابه.
وسأكون كاذبا إذا ادعيت أنني أحتفظ بأسمائهم فالأسماء التي تحضرني في هذه الساعة أسماء الأساتذة: جرميم، والبقاش، والقصيبي، والبردعي، ومحمد الشتيوي، رحمهم الله. ولا أدري إن كان الأستاذ الفقيه محمد الصردو- طيب الله ذكره- من بين هؤلاء أم من بين الذين درسوني بالمرحلة الثانوية. فقد كنت أثيرا لديه في مادة الإنشاء.
- لمّا نلت الشهادة الإبتدائية إلى أين كانت الوجهة؟
كانت الوجهة واحدة: التعليم الديني، فوالدي ـ رحمة الله عليه ـ لم يكن يؤمن بالتعليم العصري، وحفظي في نظره للقرآن الكريم يؤهلني لهذا النوع من التعليم.
إلا أنني في هذه المرحلة انتقلت من الحصير إلى المقعد، ومن الجامع الكبير إلى دار بوهلال. فقد أشرفنا على عصرنة التعليم ونقله من المساجد إلى الدور: دار بوهلال ـ دار الضياف ـ كما كانت تنطق ـ دار ابن عبود. وكلها دور تحيط بالجامع الكبير أو تجاوره. ثم انتقل التعليم الديني إلى دار الكباص، ثم إلى جناح من أجنحة النيابة الإقليمية للتربية الوطنية، ثم إلى الثكنة العسكرية بباب النوادر، ثم إلى البناية المجاورة لمسجد الحسن الثاني وقد استكان بها تحت اسم ثانوية القاضي ابن العربي.
وفي انتقاله أو رحيله من دار إلى دار، ومن بناية إلى بناية، ضلت المرحلة الابتدائية الطريق، أو تخلفت عن الرحيل فاستغني عنها.
وترحيلنا من مكان إلى مكان، كان يشعرنا بأن الدولة ضاقت ذرعا بهذا النوع من التعليم، فلم تجد وسيلة للقضاء عليه، لكنها بحيلها وحبائلها استطاعت أن تجهز على رافد من روافده الأساسية وهو المرحلة الابتدائية.
- كيف قضيت المرحلة الثانوية ومن هم الأساتذة الذين لا تنساهم حتى اليوم؟
قضيتها على نفس الوتيرة، إلا أن الكتب الصفراء اختفت أو كادت تختفي لتحل محلها كتب المطالعة العربية، وكتب النحو الواضح، وبعض الكتب اللبنانية والمصرية. وحل محل الأساتذة المُجَلْبَبين والمُعَمَّمين، أساتذة وفدوا علينا من مصر وسوريا ولبنان.
من الأساتذة الذين فرضوا جلبابهم وسلهامهم الأستاذ الأزمي وكان يدرسنا فقه الحديث والعروض والأستاذ الفقيه أحمد بن تاويت وكان يدرسنا التفسير والأصول.
ومن الأساتذة الذين كانوا صلة وصل بين القدماء والمحدثين الأستاذ سعيد أعراب وكان يدرسنا علوم البلاغة ودرسنا الأدب وكان يحاول أن يخرجنا من الانطواء الذي عرف به طالب التعليم الديني فيخصص بعض الحصص للإنشاء الشفوي ليدربنا على المواجهة وحسن الإلقاء.
ومن الأساتذة المحدثين الأستاذ المهدي الدليرو ودرسنا الأدب الأندلسي، والأستاذ محمد العمري ودرسنا الفلسفة والفكر الإسلامي، والأستاذ محمد يسف الرئيس الحالي للمجاس العلمي الأعلى ودرسنا التاريخ والجغرافيا.
ولازلت أحتفظ لحد الساعة بإعجاب شديد لفقيهنا الأستاذ ابن تاويت، فقد كان متمكنا من مادتيه التفسير والأصول، ويجد في تدريسهما لذة ومتاعا. ألا رحمه الله وأكرم مثواه.
المادة التي افتقدناها في المعهد الديني بشِقَّيْه، اللغة الأجنبية، فلم نفاجأ بفرضها علينا إلا ونحن على عتبة الباكالوريا وقد واجهنا لغتين لا لغة واحدة: الفرنسية والإسبانية.
وناهيك عما قيل عن الطالب الديني وهو يحاول أن يجتاز هاتين العقبتين.
- لما ظفرت بشهادة الباكالوريا ما المسار الذي اخترته أو اختارك؟
المدرسة العليا للأساتذة بفاس فرع أو شعبة الأدب العربي.
ولعل المنحة المجزية التي كانت تعطى للطالب الأستاذ آنذاك، أغرت جيلنا بولوج هذه المدرسة.
وهنا عرفت أستاذا سأظل معتزا به هو: الأستاذ صالح الأشتر، فقد كنت أشبهه حين يدخل المدرج ويشرع في إلقاء درره بالشاعر نزار قباني شكلا، ومضمونا، صورة، وصوتا.
وعرفت أساتذة كانوا يضطلعون بالتدريس في كلية الآداب والمدرسة العليا لأول مرة أمثال: الأديب الناقد محمد برادة، والأستاذ الجليل عباس الجراري، والشاعر الأديب محمد الحلوي.
وجربت الحياة الطلابية في الحي الجامعي بفاس يوم كان الحي الجامعي اسما على مسمى فوجدت فيها الرَّوْحَ والريحان، والأهل والأصحاب.
- ما المؤسسات التي زاولت العمل بها؟
الثانوية المحمدية بالقصر الكبير. وكانت هذه المؤسسة آية في الضبط والتنظيم، وكان المعيدون موزعين على المؤسسة بشكل يجعل زمام الأمور بأيديهم. فالمعيد له مقاطعته أو منطقة نفوذه التي تضم ستة أو سبعة أقسام، وهو مديرها الحقيقي أو الفعلي يشرف على إدخال التلاميذ وإخراجهم. يراقب حضور الأساتذة، ويسجل غياب من تغيب منهم يحرص على نظافة أقسامه واحترامها.
يتابع التلاميذ في حركاتهم وسكناتهم. هو أول الداخلين إلى المقاطعة وآخر الخارجين منها.
ورغم أن علاقتي بمدير المؤسسة لم تكن سمنا على عسل إلا أنني كنت أحترم فيه تمكنه من التسيير الإداري والتربوي لثانويته.
كان تعييني بهذه المؤسسة في أكتوبر1968، وقضيت بها ست سنوات وفي شتنبر من سنة 1974 انتقلت إلى ثانوية القاضي عياض بتطوان وقضيت بها ما يجاوز الثلاثين سنة.
- كيف كانت علاقتك بتلاميذك؟
علاقة الأستاذ بتلاميذه هي سر نجاحه. فقد كنا نتهيب التلاميذ في مستهل عهدنا بالتعليم فلما زالت الدهشة وأخذنا بناصية القسم سهل علينا المشوار وذللت العقبات.؟
وإني لأذكر تلاميذي في القصر الكبير بخير، فقد أسلسوا لي القيادة، وكانوا نعم الأبناء البررة لأب يقابل برورهم بالحسنى وزيادة.
وبما أن الأستاذ في نهاية الستينات وبداية السبعينات لم يكن مكبلا بالمذكرات كما كبل بها في الثمانينات وما بعدها، فإن روح الابتكار والإبداع كانت تحمله على إعداد المجلة الحائطية، وفسح المجال للتلاميذ للكتابة والنشر، وعقد الندوات وإلقاء المحاضرات. وكان يجد في المتعلمين الاستجابة و الاستعداد الكاملين.
وباختصار؛ فإن علاقتي بتلاميذي هناك في القصر الكبير، أو هنا بتطوان كانت علاقة حب واحترام.
- وكيف كانت مع زملاء العمل مدرسين وإداريين؟
كانت علاقة ود ووفاء، فجميعنا كان يعمل في خندق واحد وفي ظروف متشابهة، وجميعنا كان يشعر بالغبن إذا لم ينصف، ويشعر بالرضا والارتياح، إذا كرم وأنزل المنزلة التي يستحقها.
لذا فإنني لا زلت أتردد على المؤسسة التي كنت أعمل بها، وإذا التقيت بزميل عمل حملته تحياتي لأخواتي وإخواني بالثانوية.
- يشهد لكم تلاميذكم بالجدية في العمل. ما السر في ذلك؟
السر في ذلك يعود إلى عهد الطفولة، فقد تربيت ولله الحمد والمنة على الفضيلة والصدق والشعور بالمسؤولية. فلما اضطلعت بهذه المهمة المقدسة التي كادت تقارب حسب مبالغة أحمد شوقي رسالة الأنبياء، لم آل جهدا في أداء الأمانة وتبليغ الرسالة.
وكنت أحاسب نفسي إذا ما بدا لي أنني قصرت في تصحيح هذه الأوراق، أو تحضير هذا الدرس أو ذاك.
وأذكر أن مفتشا دخل علي ذات يوم فوجدني أسأل التلاميذ عن الفقرة التي وصلنا إليها في مادة المطالعة فسجلها علي في خانة التقصير.
- علاوة على العمل الوظيفي الرسمي لكم عدة أنشطة موازية في نطاق فعاليات المجتمع المدني. ماذا يمثل لكم هذا الجانب في حياتكم؟
إنه يمثل ارتباطي بالمجتمع، فأنا أفتخر بكوني ثاني اثنين أسسا جمعية تطاون أسمير، فقد كان أول شخص يتصل به الأستاذ عبد السلام بن عبد الوهاب لتأسيس هذه الجمعية هو هذا العبد الضعيف ثم بدأت الدعوة تنتشر إلى أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه.
وللصدف العجيبة فقد انعقد الجمع التأسيس لهذه الجمعية ومدافع الإعلان عن رؤية هلال شهر رمضان تبشر الناس بحلول هذا الشهر الكريم. وكان ذلك في شهر يناير من عام 1995.
ولو وجدت في أي أخ الاستعداد للعمل الجمعوي لدعوته إلى الانخراط في جمعيتنا، أو في أية جمعية يأنس إليها. فالاهتمام بالمدينة وبالمشاكل التي تتخبط فيها ومد يد العون والمشورة لكل صاحب حاجة ليس بالشيء الهين.
- إذا طلبنا منكم نصائح للمقبلين على حقل التربية والتعليم بم تنصحونهم؟
أنصحهم بحب المهنة، فمن أحب مهنته أجادها وبرع في إتقانها، كما أنصحهم بمد الجسور بينهم وبين تلاميذهم، فهذه الجسور ضرورية للتفاعل بين المعلم والمتعلم.
وبما أن الأستاذ يمثل القدوة فالمفروض فيه أن يهتم بمظهره، ويهتم بمخبره حتى يكتسب احترام تلاميذه ويغدو مثلهم الأعلى.
وقد كنت أثناء فترة الإرشاد التربوي ألح على التحلي بهذه الصفات، وأعتبرها من ثوابت العملية التعليمية والتربوية.
- من كان يقرأ عمودكم الأسبوعي “نماذج بشرية” في صحيفة “تمودة” التطوانية، ومن يتابع اليوم عمودكم الأسبوعي “دردشة” في صحيفة “الشمال”، يجد فيهما قدرة آسرة على اقتناص طرائف من واقعنا المعيش، ورغبة في تقويم المنآد بالحكمة، والموعظة الحسنة. ألا يكون هذان العمودان إيذانا بكتابة يوميات عن الحمامة البيضاء التي لها مكانة خاصة في الوجدان؟
لو توفرت لدي المادة التاريخية، وتوفر لدي الوقت، وأعانني الله على كتابة هذه اليوميات فقد أقدم على هذه المغامرة، وتراني ـ اليوم ـ أعض على يدي ندما لكوني لم أكن أدون وأسجل الأحداث في أوقاتها. وها أنا أحاول أن أنشط ذاكرتي وأستحثها على التذكر فلعلها تستجيب لي.
- شخصيات تأثرت بها في حياتك؟
والدي الطيب حجاج، وعمي محمد حجاج رحمهما الله؛ ففي الجانب الديني انطبعت بطابع الوالد، وفي الجانب الأدبي انطبعت بطابع العم.
وفي مجال القراءة تأثرت أول ما تأثرت بالمنفلوطي باعتباره الكاتب الأول الذي قرأت له، ثم تأثرت بطه حسين وحين ولجت عالم القصص تأثرت بنجيب محفوظ.
- كتاب/ كتب تود أن تبقى قريبة منك؟
القرآن أولا، فأنا حريص على أن أقرأ حزبين في اليوم على غرار ما كنت أفعل وأنا تحت رقابة الوالد طيب الله ذكره.
والمذكرات ثانيا، فما أغرمت بشيء قدر غرامي بمذكرات الكتاب والقادة. وإني أقرأ هذه الأيام كتاب الانفجار لمحمد حسنين هيكل فاكتشفت فيه أسباب انتكاسة 1967 كما نقلها هذا الشاهد بصدق وأمانة.
- حكمة تود إهداءها لقراء هذا الحوار؟
الحديث النبوي الشهير:
((اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.))
د. محمد محمد المعلمي