أما الرباوي الذي يستحضر هو أيضا «منطق الطير»، فإنه يتعامل أساسا مع أصل القصة وهي رحلة الطيور للفناء في «السيمرغ»، وإن كان يبدو أنه يتعامل مع مواضيع أخرى في هذه الملحمة؛ كتضمينه بعض الصور الجزئية الخفية مثلا في قوله من قصيدة «الشهيد»:
ولدٌ زاره الحزن فاشتعل
امتطى فرسا بحوافر تسكب من خلفها الجمر(1)
فهذا مأخوذ من قول العطار وهو يمجد الذات الإلهية في أول ملحمته:
وحينا يحيل الفلك حصانا نافرا
يجعل النار تتطاير من سنابكه(2)
فالتناص البارز يتركز في قصيدة الرباوي «منطق الورد»؛ بحيث يعد هذا العنوان منذ البداية تحويلا ظاهرا لعنوان ديوان العطار. ولا يتعامل الشاعر مع جميع عناصر «منطق الطير» وإنما يكتفي كما سنرى في نموذجه بثلاثة رموز مشهورة فيه؛ وهي الباز والبلبل والوردة:
هو الباز ما زال في أسر سيدة خطَّ في وجنتيها العذابُ
حبالا من المد والجزر…هو الباز بين يديها ينوح نواح الربابِ
…اقترب أيها الباز من جُلَّنَار الغزالة علَّ زجاجك يصفو
فيحترقَ السترُ، ينكشفَ السرُّ، تدخل في ملكوت اللظى والجلاله
آه يا بلبلا يمخر الجمر والقفرَ، أنتَ خبَرتَ الطريقَ، فخذني
إلى وردة في الصقيع، الطريق إليها طويلٌ، فإن أغرقَ
القفر فلكي، وشاهدت في الضوء نخلي وأيكي، فرُشَّ
غلائلها بلهيب دمي…عساها تطوقني بسحابة رحمتها ورضاها
أيتها الوردة.. يا أيتها المقصورة في هودجها الوهاج
…هل يخلو بلد من سلطان؟ ها قلبي يحمل عرشا لم يتربع
سلطانٌ بعدُ عليه. فكوني أنت السلطان، لتنعم أشجار
ضلوعي بنظام يأسر ألباب الطير(3)
1-الباز: «هو الذي يتصيد به الناس…وكل طائر يصيد يسمى صقرا ما خلا العُقابَ والنسر»(4)، والصقور هي البازي والشاهين والزُّرَّق واليُؤيُؤ والباشق(5)، ويقال إن فيه ثلاث لغات كلها فصيح؛ وهي بازي مخففة الياء والثانية باز والثالثة بازيٌّ بتشديد الياء «وهو مذكر لا اختلاف فيه…ولفظه مشتق من البزوان وهو الوثب»(6) والصيد فيه طبيعة وقريحة من غير تَعلّم مع تميز في الحرص على طلبه وشرف في التعامل مع مالكه «فإنه إن صاد بقي على فريسته وإن لم يصد وقف مكانه فلا يحتاج إلى كد ولا تعب ولا طرد خيل… ويصيد الكلب والأرنب والغزال والكركي والحجل…»(7)، ويروى أن شخصا كان له شِلوُ باز (ولد باز) ودُرّاجة؛ فأطلقه عليها، ولما أحست به فرّت، وكان هذا الشخص قد أَمَر بإحراق قصب أفسد أرضه، فاقتحمت الدُّراجة النار من شدة الخوف «واشتد طلبه لها وحرصه عليها فلم ترُدَّه النار عنها واقتحمها في أثرها، فأسرعت فيهما، فأدركهما وقد احترقا، فأحضرهما إلى الأمير ليراهما، فيرى ثمرة إفراط الحرص وإفراط الجبن)». ويقال إن أول من استعمله في الصيد من الملوك قُسطنطين ملك الروم، ذلك أنه أمر بإحضار جملة من البزاة «فعرض لبعضها في بعض الأيام أيم (حية) فوثب عليه فقتله، فقال هذا ملك يُغضبه ما يغضب الملوك، فنصب له بين يديه كندرة (بيتا) وكان هناك ثعلب داجن… فوثب عليه فما أفلت إلا جريحا، فقال: هذا ملك جبار لا يحتمل ضيما، ثم مر به طائر فكسره ونهش منه. فقال: هذا مَلكُ نوعِه لما جاع أخذ طعامه بسلطان وقدرة»(9). هذه الصفات التي يتميز بها الباز هي التي يذكرها العطار بطريقته الخاصة؛ فنجد في ترحيب الهدهد به:
مرحبا بك أيها الصقر الحديد البصر
إلى متى تظل عنيفا سريع الغضب والقهر؟
لتعقدْ على قدمك رسالة العشق الأزلية
ولتستبدل العقل الجبلي بالقلب(10)
حتى ترى إلى الأبد شيئا واحدا مع الأزل
ولتحطمْ إطار الطبع متشبها بالرجال(11 )
ولتستقرَّ وحيدا داخل الغار(12)
وإن يقرَّ داخل الغار قرارك
فسيكون محمد صدرُ العالم رفيقَ غارك(13)
ولكن الصقر يتلمس-كسائر الطيور- لنفسه الأعذار بقصد التخلف عن الرحلة، فيزعم لنفسه من القوة والجبروت والسلطان ما يجعله في غنى عن السفر إلى السيمرغ، فهو في يد سلطان (ملك) الدنيا يقوم بخدمته ويحظى بقربه ونعمه ويشاركه رحلات الصيد… إلا أن الهدهد أقنعه في آخر المطاف بأنه لا يعدو أن يكون متعلقا بالصورة لأن سلاطين الدنيا كثر؛ ف:
إن كان للسلطان نِدٌّ في ملكه
فكيف يزدان المُلك به؟
لا جدير بالسلطنة غير السيمرغ
فهو بلا شبيه…(14)
ومن ثم لا أحد جدير بالخدمة إلا هو.
لم يذكر العطار لأي شيء اتخذ الباز أو الصقر رمزا في ملحمته، ولكن الصوفية اعتادوا جعله رمزا لاصطياد المعاني الإلهية لتلك الصفات المثالية التي يتميز بها؛ ومن هذا الباب قول جلال الدين الرومي:
إن بلبلا قد انطلق من هنا ثم عاد
ولقد أصبح بازا في اصطياد المعاني
فليكن ساعِدُ الملك مَسْكَناً لهذا الباز(15)
فالبلبل العاشق للذات الإلهية يرقى إلى مقام الباز في اصطياد المعاني ويتحول إلى خادم في ساعد الذات الإلهية: فما من معنى رامه إلا ويكون مصدره هذه الذات العلوية لأنه لا يتحرك إلا بأمرها ولا ينطق إلا باسمها! وقال عبد القادر الجيلاني يصف ترقي الحلاج في المدارج والأحوال إلى أن بلغ به السكر مبلغه وقال قولته التي عرضته إلى حتفه: «طار طائر بعض العارفين من وكر شجرة صورته، وعلا إلى السماء خارقا صفوف الملائكة؛ كان بازيا من بزاة الملك مخيط العينين بخيط (وخلق الإنسان ضعيفا) (16) فلم يجد في السماء ما يحاول من الصيد، فلما لاحت له فريسة: «رأيت ربي»…فقال بلسان سكر قلبه: «أنا الحق»…، صفَّر بغير لغته تعريضا لحتفه، ظَهر عليه عُقابُ الملِك مِن مَكمَن إن الله لغني عن العالمين(17)، أنشب في إهابِه مخلب (كل نفس ذائقة الموت)(19)…»(18). فإن كان الصقر في يد السلطان العادي لا يأمل في أن يكون سلطانا(20) فأحْرِ به ألا يكون كذلك وهو بين يدي السلطان الأعظم. إن عذر الباز بعدم رغبته في مفارقة سلطان الدنيا ينقلب في التناص لدى الرباوي إلى رغبة هذا السلطان في الاحتفاظ بالباز بينما الباز يرغب في الرحلة! والسلطان في القصيدة هو ذات الشاعر وكل ما يربطها بالحياة الدنيا؛ وقد احتجزت الباز ومنعته من الرحلة التي يقصد من ورائها الاقتراب من الغزالة وسلطان عشقها. وهذا تعبير آخر عن ثنائية الجسد/القفص، والروح/الانطلاق؛ فالروح واقعة في أسر ذات شديدة المراس «خط في وجنتيها العذاب حبالا من المد والجزر» حسب تعبير الشاعر؛ ولما أحس فيها الرغبة في الانعتاق والرحلة طفق يحفزها ويرغبها في الفناء في ملكوت اللظى والجلالة.
2- البلبل والوردة: في المقطع التالي تتحول الصور لتعبر عن المعنى ذاته ولكن من زاوية أخرى، فكما هو معروف؛ فإن الشعر نواة معنوية واحدة تُقلب في صور وصيغ مختلفة(21). يختار الشاعر في هذا المقطع حكاية البلبل والوردة الواردة في قصة منطق الطير. والبلبل هنا ليس مثل بلبل منطق الطير وإنما هو بلبل خاص بالشاعر؛ ذلك أن الطيور في منطق الطير أمَّرت عليها الهدهد لخبرته المعهودة فيه منذ عهد سيدنا سليمان، أما الرباوي فقد أمَّر البلبل لا على الطيور وإنما على ذاته هو حين أزمع على سلوك الطريق إلى الوردة المعشوقة. ولما كانت الوردة مجرد صورة كما وصفها الهدهد بذلك في منطق الطير؛ فلا يتجاوز عمرها فصل الربيع، فقد لام البلبل على تعلقه بالظاهر. والمتلقي الذي يعرف هذه القصة قد يلوم الشاعر إن كانت وردته على هذا الشكل هو أيضا؛ فالرحلة أصلا ستكون ملغاة ما دامت الوردة في المتناول. ولذلك سيلجأ الشاعر إلى «تغريب» وردته بصورة لا يستبعد أن يكون قد استعارها من غيره من الشعراء وخاصة من الشاعر صلاح عبد الصبور الذي له قصيدة بعنوان «البحث عن وردة الصقيع»(22)، تناولها بعض النقاد بالدراسة دون أية إشارة إلى منطق الطير؛ يقول عبد الناصر حسن: «وكما تعددت التفسيرات حول قصيدة(بليك)»الوردة السقيمة» كذلك فإن قصيدة عبد الصبور «البحث عن وردة الصقيع» قد نالت حظا وافرا من اهتمام الدارسين، ولأن رمزية القصيدة مراوغة فقد تعددت الرؤى واختلفت التفسيرات في محاولة الكشف عن المعادل الرمزي لوردة الصقيع التي يتحدث عنها صلاح عبد الصبور، فيخلص عز الدين إسماعيل إلى أن الشاعر كان يبحث عن «الحقيقة الكاملة وراء حركة الحياة الصاخبة»»(23). وهو نفس التأويل الذي يخلص إليه محمد بدوي في قوله عن الشاعر في هذه القصيدة: «وكان ثمة إيمان يملأه بوجود شيء كامن خلف تشتت الصور، وكأن كر السنين وتعاقبها يقود إلى حقيقة صوفية ثاوية في موضع ما من الكون الفسيح الشاسع…»( 24)، فكيف تكون حقيقة كاملة وهي وردة، وكيف تتم الرحلة وهي في متناول البلبل؟ إن نسبة الوردة إلى الصقيع له دلالات عدة، منها إبعاد الشاعر لها ليكون ذلك أدْعى له وللبلبل بالرحلة، ومنها جعلها في غير فصل الربيع، وعدم ربطها بفصل معين أصلا كما هو الأمر في الواقع، ونسبتها بدلا من ذلك إلى صقيع يبدو دائما. وهذا الجمع بين الوردة والصقيع مما يستحيل في الواقع، ولا يكون إلا في عالم فوق التصور البشري مما يدل على أن المقصود هو الحقيقة الكلية الدائمة لا الصورة الظاهرة. وفي دعوة الشاعر الوردة في الأخير بأن تكون سلطانا عليه ما يؤكد كل هذا، ويثبت مسايرته للهدف من رحلة الطير لدى العطار وهو البحث عن السلطان الأعظم «السيمرغ»، وقد دعم هذا ببيت ابن عربي[المتقارب]:
إذا قام عرشٌ على ساقِه ….. فلم يبق إلا استواءُ الملِـكْ
وإذا كان البلبل في منطق الطير أثناء سَوق اعتذاره في المشاورات الأولى قبل بدء الرحلة، قد «ألجم ألسنة الطير جميعها»(25) بفصاحته وعمق معانيه، فإن الشاعر يؤجل هذا «الإلجام» على سبيل التمني إلى آخر الرحلة أي عند الوصول. في قوله «لتنعم أشجار ضلوعي بنظام يأسر ألباب الطير». وهكذا نلاحظ تحول عناصر التصوير بين مقطعي الشاعر، الباز صار بلبلا، والغزالة وردة والاحتراق أو الفناء سحابة رضا ورحمة، ولا يختلف الرباوي هنا عن صاحبه الأمراني في ربطه التناص بذاته كما هو واضح من التحليل، وربطه بالواقع كما يبدو من آخر القصيدة حيث يدعو إلى إشعال الحرائق:
فكوني النار الوهاجة وانتشري في كل خلايا الأشجار
الممتدة من جسدي حتى بلدي. انتشري أيتها النارُ.
احترقي أيتها الأشجارُ عسى من حر رمادك تولد قبل
الفجر الخيالة(26).
أخيرا نكتشف أن عملية التناص مع أعلام ونصوص التصوف خاصة عند الأمراني والرباوي تخضع لكثير من التأمل قبل القيام بعمليات النفي والإزاحة والإحلال والقلب لتتلاءم مع الوضع الجديد الذي يمزج بين التعبير عن الذات وبين التصور الإسلامي، البعيد عن دعاوى الحلول والاتحاد، وبين واقع المجتمع والأمة دون أن يكون هنالك إحساس من الشاعر بأنه يتكلف ما يعرف بالالتزام.
……………………..
1 – الولد المر؛ 45.
2 – منطق الطير؛ 141-142.وفيه(وحينما)وهو خطأ بالنظر إلى السياق.
3 – أول الغيث؛ 8-9.
4 – المخصص؛ 148:8.
5 – نفسه؛ 149:8.
6 – حياة الحيوان الكبرى؛ 108:1.
7 – صبح الأعشى؛ 63:2.
8 – نفسه؛ 62:2.
9 – نفسه؛ 63:2-64.
10 – الصحيح: ولتستبدل القلبَ بالعقل الجبلي=بمعنى أن يتخلى عن العقل الجبلي ويتخذ القلب دليلا.
11 – يدعوه إلى التخلص من طبعه وقريحته ويرتاض مثل الرجال المتصوفين للترقي في المدارج.
12 -إشارة إلى غار حراء؛ يدعوه بها إلى الخلوة.
13 – منطق الطير؛ 181.
14 – نفسه؛ 203.
15 – مثنوي؛ 20:2.
16 – النساء؛ 28.
17 – العنكبوت؛ 6.
18 – آل عمران؛ 185.
19 – «المقالات الرمزية، ديوان عبد القادر الجيلاني؛ 270-271.
20 – منطق الطير؛ 203.
21 – تحليل الخطاب الشعري؛ 126.
22 – ديوان صلاح عبد الصبور؛ 457:3.وللبياتي أيضا قصيدة بعنوان «وردة الثلج»، -بستان عائشة؛ 84.
23 – «قراءة في نص:البحث عن وردة الصقيع»؛ عبد الناصر حسن؛ مجلة القاهرة؛ ع:166/سبتمبر1996؛ 49.
24 – الجحيم الأرضي؛محمد بدوي؛ 222.
25 -منطق الطير.
26 -أول الغيث؛ 9.
محمد علي الرباوي