أنجبت مراكش العديد من المبدعين في مختلف الفنون والعلوم، منهم من اشتهر وطارت شهرته في الآفاق، ومنهم من طوى ذكره الزمان ونسيه الناس عموما وأهل العلم والفن خصوصا، سنحاول من خلال هذه المقالة التعريف بشاعر تألق نجمه في باب الشعر وأفل في مقام الشهرة، لا يكاد يعرفه الخواص وربما لا يسمع به العوام.
يعد أبو بكر الجرموني[i] من أعلام مراكش الذين لم ينالوا حظهم من الدراسة والتعريف، خذله النقد والمناهج والصالونات والملتقيات فوقف وحيدا على أطلال النظم والقريض، ظلم الجرموني حيا وميتا شاعرا وإنسانا، ظلم ميتا بهجر النقاد لشعره وعدم الوقوف عند نصوصه دراستها وتقديمها للقارئ.
فمن هو أبو بكر الجرموني؟ وكيف تميز عن غيره من المبدعين؟
أبو بكر بن محمد بم المهدي الجرموني أصله من مراكش بها نشأ وترعرع، ولد سنه 1924م بحي الزيتون القديم، كانت أسرته تتعاطى الصناعة التقليدية “الشكايرية”[ii] أصل والده من أولاد بلكرن بقبيلة الرحامنة، وأمه عائشة بنت أحمد أجرار سوسية.
تلقى الجرموني تعليمه الأولي بكتاب الحي على يد الفقيه ابن علال، فقرأ عليه كتاب الله وبعض المتون، كابن عاشر والأجرومية، انخرط في حلقات الشيخ عبد السلام السميج فأخذ عنه اللغة والفقه والشعر[iii] ومن شيوخه: الرحالي الفاروق وعبد الرحمان الدكالي والهاشمي السرغين وعبد القادر المسفيوي و علي السباعي..
التحق الجرموني بالجامعة اليوسفية طالبا رسميا سنة 1939 فحصل على شهادة العالمية في الأداب سنة 1949، عمل مديرا لمدرسة الفلاح الحسنية بحي القصبة.
عين سنة 1952 أستاذا بالجامعة اليوسفية، فبرهن عن قدرة كبيرة وموهبة عالية في التدريس إذ اثار انتباه واحترام الطلاب، من تلامذته الذي أخذوا عنه العلم والأدب نجد الشاعر إسماعيل زويريق الذي يقول في حق أستاذه “أستاذ جيلنا حفظنا له ذكريات لا تنسى، وأيادي بيضاء لا تزال عالقة بأذهاننا”[iv]
اشتهرت الجرموني بين طلبته بسخائه المعرفي وجوده الأدبي كما عرف بسعة اطلاعه وغزارة علمه.
يشهد الأستاذ المحجوب بن السالك في حق الجرموني قائلا “وعرفت أبا بكر الجرموني في حقل التعليم، وذلك حينما أسند إليه تسيير مدرسة حرة وقد أدى هذه المهمة أحسن أداء “[v]
يقدم الأستاذ محمد الطوكي شهادة معبرة عن كفاءة الجرموني “فلا يعرف عنه إلا أنه أستاذ مرب كفء، تسند إليه أمشاج من المواد نحو وصرف ونصوص وتاريخ وجغرافيا فيركب ذلك تركيبا يوفق بين مختلف أطرافها”[vi]
يقول البشير المحمودي في وصف الجرموني:
كنا نلقبه خليل زمانــــــــــــــــــــه ** حكم الشروح ومؤهلا لقضــاء
ضاهى السموأل في الحماسة شعره ** بل ماثل العبسي وابن سنــــاء
يعزز هذه الشهادة قول الشاعر إبراهيم الحاري في رثاء الجرموني:
هد ركن القريض بالحمــــــــــراء ** وتداعت منابر الشعــــــــــراء
وقضى النحو نحبه إذ تــــــــوارى ** خلف للخليل وابن مضـــــــاء
عاصر الجرموني فترة متميزة من تاريخ المغرب فكان من رجال الحركة الوطنية منخرطا في الأحزاب الوطنية مناضلا عن الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، نابذا للتسلط والديكتاتورية، مؤمنا باختلاف الرأي والموقف، يقول الشاعر أحمد الدباغ في وصف نضال الجرموني:
ولقد مقتت تسلطا وتجبــــــرا ** وتفردا وتطاولا وريــــــــاء
من مبدأ الشورى قبست تفتحا ** يجلي الظلام وينثر الأضواء
اتصف الجرموني بالعلم والأدب والنضال السياسي كما عرف بالشهامة والعزة، يقول الحسن عادل:
عرفتك شهما ترفض العز أن تكن ** دعائمه ترسى على أسس الغــــــدر
وصاحب رأي مستقل تجيلــــــــه ** فيجلو لك الظلماء في المسلك الوعر
يؤكد الأستاذ البشير المحمودي شهادة الحسن عادل إذ قال:
بالعلم ظل ثراؤه متواصلا ** ونضاله في الهمة الشماء
إذ آنسته مبادئ ما داسهــا ** قط، ولا أومت له بعــداء
عرف الجرموني بمبادئه السامية ومواقفه الوطنية، فقد كان يحاول من خلال عمله بالتعليم إحياء روح المواطنة في نفوس طلبته، يقول أحمد الدباغ:
يا شاعرا غنى على أيك الصبــــــــا ** فغذا الزمان يردد الأصـــــــــــداء
ألهمت أسراب الطيور نشيدهـــــــــا ** والصادحين ترنما وغنــــــــــــاء
وفجرت ينبوع الحماس بأنفــــــــــس ** جرت على درب الخمول رهادها
فتيقظت وتفتحت أكمامهـــــــــــــــــا ** فتحدت الإعصار والأنـــــــــــواء
من خلال هذه الأبيات تظهر صورة الجرموني الوطني الغيور على أمته، العارف بخبايا القضايا السياسية والاجتماعية، فقلما تجد فقيها أديبا يناقش القضايا السياسية المحلية والدولية، لقد امتلك الجرموني القدرة على الجمع بين المتفرقات، يشهد له بذلك محمد الطوكي فيما يرويه عن الشرقاوي إقبال، “فوجئت ذات يوم بزيارة المرحوم الجرموني الذي دعاني إلى فسحة في منتزهات أكدال، وكان موضوع الساعة هو السوق الأوربية المشتركة، أذكر أنه تحدث في شأنها زهاء ثلاث ساعات فعجبت من سعة اطلاعه وثاقب ملاحظاته”[vii]
ترجم الجرموني وطنيته ومواقفه بمساهمته في مناسبات عيد العرش بقصائد وطنية حماسية.
سطع نجم الجرموني بين أقرانه وطلبته وبلغ مبلغا عظيما، لكن سرعان ما أفل نجمه وخبا لهيبه، فقد عرف الجرموني أزمات سياسية ونفسية عصفت بمستقبله وأثرت بالغ الأثر في حياته، عاش الجرموني تقلبات غيرت مسار حياته، فبعد أن بلغت شهرته الآفاق خمل ذكره وركن إلى السكون والتزم الصمت، ومن عومل ذلك مرض زوجته الذي كان له بالغ الأثر عليه، فلم يعد ينظم الشعر إلا لماما، وتخلى عن عمله السياسي وانطوى على نفسه وعاش عزلة مظلمة، فأصبح متوتر الأعصاب تنتابه حالات غير عادية، فلم يعد باستطاعته ضبط التلاميذ في القسم فنقل للعمل قيما للخزانة.
ظهرت ملامح اضطرابه النفسي على مظهره الخارجي، فلم يعد يهتم بملابسه، تأزمت وضعيته المالية إلى جانب النفسية فاختار طريق الانعزال والصمت ولم يختر طريق التملق للأغنياء ومد يده للكرماء، بل سار على مبدئيته متخلقا بالعفة والإباء. يقول المحمودي في هذا المعنى:
صمد السنين على القناعة يا له *** من قدوة لشهامة وإبـــــــــاء
ما نافس المتسابقين إلى فتــــا *** ت الأغنياء الكرما أو البخلاء
ووصف الشاعر أحمد بلحاج ايت وارهام صمود الجرموني في وجه الشدائد قائلا:
تداهمك الأكدار مصقولة الضبى *** كأن بها جنى تلظى على الجمر
فتنحتها وجها ترقرق مـــــــــاؤه *** وتنزع من أعراقها فورة الشر
رفض الجرموني المساعدات التي كان بعض رفاقه يحاول تقديمها له “وبقدر ما كنا نجري وراء الجرموني لمعرفة حاجياته المادية، بقدر ما كان يظهر الشم والعفة والترفع.”
تتراكم الأزمات وتتوالى المصائب فيزيد الجرموني من انعزاله ووحدته فلا رفيق ولا أنيس وحده يسير في دروب الزمان متألما متوجعا، بعد أن كان شاعر مراكش وأستاذ رجالها.
إثر التراكمات النفسية التي عاشها الجرموني يحل المشهد الدرامي ما قبل الأخير، مشهد حكم فيه الشاعر/ الجرموني على جميع إنتاجاته بالنهاية، مسترشدا في ذلك يأبي حيان التوحيدي وبأبي عمرو بن العلاء “يحل المنعطف الأخير فيحزم شاعرنا دفاتر ويحمل أحلامه وأحزانه همومه وشجونه، وفي ذروة القلق وفورة الغضب يتجه إلى أين؟ إلى مكان أرضيته أزبال ونفايات، قراره كهف مظلم يلتهم كل ما عافته المدينة.. إلى فرن رهيب حيث أقعى الكاتب/الشاعر يتأمل ألسنة اللهب وهي تدمر عواطفه وأحلامه .. ويخرج شاعرنا من القبو أهم متطهر يا أرسطو؟ أم مولود ولادة جديدة تضمن له السكينة يا فرويد .. وهو يردد في عفته المعهودة (لا أريد له أن يكون شاهدا علي يوم القيامة)” [viii]
أضرم الجرموني النار في شعره ونثره وحكم على إبداه بالنهاية والفناء، يقول إبراهيم الحاري في وصف هذا المشهد:
أضرم النار في قريض تسامى *** بنفوس القراء للعليـــــــــــاء
أطعم النار عن رضى واقتناع *** بعدما فاض كأسه بالعنــــــاء
أحرق الجرموني شعره في لحظة ربما فاض فيها قلقه وهاجت معاناته النفسية، فلم يبق من شعره إلا قصائد متفرقة بيد تلامذته وأصدقائه[ix]، فحرمنا بذلك من نفائس جادت بها قريحته.
من إنتاجاته بين الكتابة والترجمة: تعاونيات الإنتاج السوفياتي – رسوم حية من الفن الفارسي – تاريخ افريقيا – مفتاح التقدم الاقتصادي – شمال افريقيا – الإنسان الحر – أحاديث علمية – الحكمة المادية – موجز في التربية وعلم النفس.
توفي رحمه الله يوم الإثنين 25 رمضان 1409هـ فاتح ماي 1989م ودفن بمقبرة اغمات.
المقال مقتبس من بحث لنيل الإجازة في اللغة العربية تحت عنوان اللغة الشعرية والقيم الإبداعية في تجربة أبي بكر الجرموني إنجاز محمد التويرة ومحمد سالم الطاهري إشراف ذ محمد اليوسفي 2005[i]
جريدة الميثاق الملحق الثقافي عدد 18-19 يونيو 1989[iii]
من أشعار أبي بكر الجرموني لأحمد متفكر ص32[v]
[vi] نفسه ص 37
جمعها الأستاذ احمد متفكر. بلغت 26 قصيدة في مختلف القوافي والمضامين وبلغ عدد الأبيات 750 بيتا.[ix]
د. محمد تويرة