تقديم:
هذه باقة نضرة، ومجموعة عطرة، من رسائل متبادلة بين الأديب الدبلوماسي الشريف التهامي أفيلال رحمه الله أيام دراسته بمدينة غرناطة نهاية الأربعينيات، وبداية الخمسينيات، مع والده وعمّه، تكشف لنا جوانب مهمّة من مظاهر حياة اجتماعية وثقافية التي كانت تربط غرناطة ببنتها تطوان..
–24-
الحمد لله وحده وصلى الله على سيّدنا محمد وآله
ولدنا البارّ السيّد التّهامي رعاك الله وأصلحك، والسلام عليك ورحمة الله.
وبعد، فإنّنا بمدريد حللناها صبيحة الجمعة، ونحن سوف لا نبرحها إلاّ بعد إتمام المهمّة بحول الله وقوّته، وسيكون الرجوع عن طريق مالقة لأغراض نتمّها، ومنها للجزيرة.
وقد ألفينا هذه المدينة مكتظة بالخلق، الطلبة يناديهم داعي المدرسة أو الكلام بالحضور، والسواح يسوقهم إقبال البرودة لديارهم، وأصحاب البطالة تشخصهم احتفالات تقام بمناسبة وجود ضيف ملكي في مدريد، وو الخ، ولذا وجدنا صعوبة في الحصول على النزل المناسب، ونحن كلنا بخير، ونرجوكم أن تكونوا أنتم كذلك، وسلم منا على من هناك، ومنّا عليكم من هنا، ولا تترك أيّام الدراسة تمرّ، فإنّ الوقت كما تعلم من ذهب، إن لم تقطعه قطعك، والسلام.
في 4 يوم السبت محرم الحرام هام 1371هـ.
والدك عبد السلام
-25-
الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصالحي المومنين
الولد البار الأنجب السيد التهامي رعاك الله والسلام عليك ورحمة الله.
وبعد، وصل كتابك الذي أفاد عافيتكم ونشاطكم فحمدنا الله على ذلك، وقد بعثنا لكم ما اقترحتموه من آلة الحلاقة والأدهان المرطبة وشيء من الأتاي الجيد مع من أشرتم إليه، هذا وإن سألتم عنا فنحن بخير والحمد لله.
والجو قد تحست حالته فلا بد أن يكون له مفعوله في الأذهان والأفكار والخيال فتتضاعف قوة الإدراك فيلائم جو المدرسة ويوافق الطالب إذا ما خلى بأوراقه في بيت الغربة يثني من أصولها جدور المعرفة ومن عنايتها فنون الجمال الثقافي وبذور العلم الصحي، فأحسن شيء فيه أوقات الهدوء الجوي والسكون الأفقي والجمال الطبيعي التي تكون فيه الأمزجة تابعة لا هادئة ساكنة مطمئنة وديعة، جو الانكباب على مقاعد الدرس والدأب للعلم اغتناما لفرصة الزمن والمكان وإنه لأي وقت يضيع على الإنسان في مثل هذه الأوقات في شهوات النفس الزائفة بزوال وقتها لجدير أن نعده من جناية الإنسان على نفسه لا غيره ونفيه عليها، وهذه غباوة ما بعدها غباوة، صحيح أن الفصل يتجلى في الأفق بغرناطة بأبهى ما يتجلى به في غير غرناطة، تواتيه المزوح والمياه والجبال والسهول والإبداع الفني وآثار الإغراق في الحضارة التي تخلفت عن أمة عالجتها ثمانية قرون، ولكن العاقل يعتبر أن غرناطة لامعها، والطبيعة هي الطبيعة تتحول بتحول الفلك ودورانه، فلا يستعير من هذا ولا ذاك، وإنما يستعير مما يملأ به جوفه من علم نافع وخلق واسع وحنكة يحملها في حياته إمامه ومقتداه ليهيأ لكم من أمركم رشداً والسلام. في 29 رجب عام 1372.
والدك عبد السلام أفيلال
-26-
الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله
الولد البار التقي النقي السيد التهامي أصلحكم الله والسلام عليك ورحمة الله.
وبعد، فقد كان وصل إعلامكم بالسكن الذي اخترتموه محلاّ لإقامتكم بدلا من الذي نزلتموه أوّلا مؤقتا نظرا لما امتاز به هذا الثاني من الصفات التي تجمع إلى الراحة والاقتراب من الجامعة وسائل الترفه وقد أصبتم فيه لأن العقل الذي عليه المدار في الإدراك والتحصيل والتصدير والاختزان لا ينشط إلا إذا نشط الجسم والجسم لا ينشط إلا إذا توفرت له شروط الرّاحة، من غذاء صحي وهواء نظيف ومرقد مريح، وحمّام نقيّ، وتنظيم لحركاته وسكناته ورياضة عقلية بنحو سطرنج، وقصص ومطالعة مكابدة وجسمية مما يحسنه أهل هذا العصر كثيراً.
وقد غيبتم عنّا خبر الإسباني البيضاوي فلا ندري هل لا توال لكم به معرفة وأنس، أم أراح واستراح، كتلكم السّيّدة المرافقة لكم في سيّارة السّفر، ونطلب الله أن تكونوا في أنس بكتبكم، ومراجع دروسكم، فعليها المدار بالنّسبة لحياتكم العلمية، وهي لكم كنزر الجدار والمدار، على حسن النّيّة والاعتماد على مولانا الكريم في كلّ الأمور جليلها وحقيرها، فما تعسّر مطلوب أنت طالبه بربّك، ولا تيسّر مطلوب أنت طالبه بنفسك، ثمّ معرفة قيمة الوقت- أي وقت الشّباب- إذا كانت له قيمة، وإلا فهو لا قيمة له يمكن وجودها، لأنّه لا يعوّض، ويفوت ولا يرجع، مع الاتّعاظ بحوادث الماضي والعوارض التي وضعت في الطّريق ووقع التّغلّب عليها بمحض فضل الله وجوده، وفوق الجميع تقوى الله تعالى، فإنّه الأساس لكلّ شيء، لأنّها رأس الحكمة، ولا حكمة إذا لم يكن لها رأس ككلّ شيء موجود، وتقوى الله لا تنحصر في أداء الصلاة، بل المحرّمات والمنهيّات المعلومة لكم هي كالصلاة، فالمدار على الاستقامة في الظاهر والباطن، والله تعالى يقول: (ومن يتّق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب)، ويقول: (واتّقوا الله ويعلمكم الله)، ويرحم الله ابن الوردي من أئمّة الحكمة إذ يقول:
ليس من يقطع طرقاً بطلاً==إنّما من يتقي الله البطل
واتّق الله فتقوى الله ما==وصلت قلب امرئ إلاّ وصل
أعلمتم في كتابكم الأخير بوصول وثيقة الانتقال من غرناطة، وأنّكم أصبحتم الآن بسببها تلاميذ رسميين تجري عليكم أحكامهم، وتعدّ عليكم أيّامهم، قد فرحنا بذلك واطمأنا، وسيكون الاطمئنان والفرح أكثر عندما تكونون عاملين على منهج الجامعة الرّسمي، وتعالجون في سنتكم هذه زيادة على مادتي السنة 5 الماضية لكم، واجبات الامتحان الأخير حسبما وعدتم، ذكرتم أنّه أعوزكم ما تذكرونه لنا عن مدينة قادس أنّه لا يهمنا من قادس إلا جامعتها وإنسانية أساتذتها وعدالة وإنصاف رجالها والقائمين على تغذية عقول أولاد الناس بها، أمّا قصورها أو ظهروها أو صدورها فلتكن كما شاءت، وربّما نوافيكم نحن بعد بحول الله بشيء من تاريخ هذه المدينة السّاحليّة، أعاد الله الأفارقة أهل إسلام، قبل أن يعيدها هي إلى دار الإسلام، كما يدعو كذلك كثير من مؤرخي المورو العرب.
والتّاجر المغربي الذي أشرنا لكم به واتّصلت به (اللهْ يفْتحْ علينا وعْليه) ولا أزيد من الجوّ الذي ينبغي هو ما سمعته منّي لا أقلّ ولا أكثر.
واللّبّادي قد كلّمناه وأبلغناه إشارتك الغير المفهومة لنا، والكلّ بخير، والسلام. في 21 ربيع النبوي الأنور عام 1374.
والدك: عبد السلام أفيلال