إن في الإسلام مواسمَ خير وبر لا يغتنمها إلا الموفقون السائرون إلى الله تعالى على بصيرة من الوحي الراشد والفقه الحي.. ومن المواسم الخيرة: شهر رمضان الذي شُرِّف زمنه بوقائعَ باهرةٍ، وأخبارٍ سافرةٍ، فكان _ بحق _ زمن القرآن والغفران:
وما فاقتِ الأيامُ أخرى بنفسِها ولكنَّ أيامَ المـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلاحِ مــــــــــــــــــــــلاحُ
ومن حوازّ القلوب أن يُستقبَلَ هذا الموسمُ الفضيلُ بما لا يليقُ بفضله ومقاصده المرسومة، والأصلُ استقبالُهُ بما يرضاه الله ورسوله، فيُطبَّق فيه المنهج الربانيُّ تطبيقاً لا تتخلّف فيه معاني الفريضة، وحِكمُ التشريع، أقول هذا؛ لأن الصائمين الجانحينَ جعلوا من هذا الشهر موسماً للإقبالِ على المسلّيات، والتفننّ في التزيينات، والتوسع في المآكل والمشارب، وإضاعة الأموال، وزيادة الأوزان، حتى ليستدين الرجل استعداداً لنفقات هذا الشهر، ولو علمَ وجه اللطف في صيامه وتشريعه، لاختلف السير، ووُضع الأمر في حاقِّ نصابه، وصار الصيام وسيلةً إلى التوفير، والتدبير، والصون، وإراحة البطون والجيوب، فأكرم به من ضيف خفيف، ووافد لطيف..
بل إن شهر الغفران صارَ اليوم، شهرَ المائدة الواسعة الأكناف، المزينة بألوان المطعومات والمشروبات، وبقدر التفنن فيها، والإنفاق عليها، يكون الاحتفاءُ بالشهر أتم، و الفرح به أكمل، وهذه الصورة النمطية الشائعة لا تساعدُ على كسر عادات الجسد لأجل تجديد عافية الروح، ولا تحقِّق معنى الصبر على المضايق، والعفة عن المحرمات، حتى إذا انسلخ الشهر كان الناس في ضيق من زيادة أوزانهم، وحرمان من غذاء أرواحهم ، فإذا بالإمساك عن المفطرات فارغ من معناه، خارم للكليات الأربع: الدين والنفس والعقل والمال.
ومع هذا فلسنا ننكر أن يكون الصائم جميلاً في ملبسه، وبيته، ومائدته، وشؤون المادية، متستمعاً بالطيبات والمنافع، لكن التناول إذا خرج عن الاعتدال إلى السرف، وأفرغ العبادة من روحها، فصارت لا تحقَّق إلا بصور مادية، ولا تعرف إلا ببهارجَ فارغة، فهذا هو المحظور حالاً ومآلاً، والمحذَّر من أن يكون تديّناً سائداً، وهو الذي سماه بعض دعاة العصر ب ( الاستقبال التقليدي لرمضان ).
والحق أن هذا الفهم الفجَّ لشعيرة الصيام يلزم العلماء بتذكرة مقاصدية تنبِّه على حكمه ومحاسنه تنبيهاً يزيح الغشاوة عن أعين من جنحوا في هذا الشهر عن مقاصد الإمساكِ، فحافظوا على الشكل وضيّعوا الجوهر ، وتلك بلية الممارسة العامية الجوفاء للشعائر التي لا تجعل للرجل من صلاته إلا التعب، ولا تجعل له من صومه إلا الجوع ، ولا تجعل له من قيامه إلا السهر، وفي حديث أبي هريرة مرفوعاً: ( رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع ) [1]، وهذا إنكار صريح على الصوم الصوري الفارغ من معانيه، الذي لا يمارس إلا في إطار جهد بدني يكسر حدة الجوع والظمأ، ويطلق زمام الجوارح والجوانح في اجتراح المعاصي، فلا يتحقق من ثواب العمل شيء بفوات حقيقته وانتهاك روحه.
ومن المقاصد التي رسمت للصيام في إطار فلسفةٍ تشريعية لاحبة ناطقة بالكمال والخيرية:
1 . تحقيق مقام التقوى
الصوم إمساك عن المفطرات الحسية، فإذا انضاف إلى ذلك إمساك الجوارح عن الآثام، و إمساك القلب عن الضِّغن والنفاسَة و الشحناء، وهو الذي يسميه الغزالي ب(صيام الخصوص) [2]، تحقق مقام التقوى الذي عُلِّلت به الفريضة: ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلّكم تتقون ) [ البقرة: 183 ]. قال ابن القيم: ( الصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى ) [3].
فالشهر الرمضاني حدثُ قيمٍ ودعوةُ إحياءٍ؛ إذ النفس قد تستلم لضواري شِرَّتها وشهوتها في شهور العام، وتوظف ملكاتها في غير ما وضعت لها من مجالات الإحسان وتفاصيل الأعمال، فإذا جاء الشهر الكريم كسر الشرّة، وكبح الشهوة، ورد الملكات إلى جادة الفطرة، والاستقامةُ ضربٌ من الإحياء والاستبقاء، ألمعت إليه الآية الكريمة: ( دعاكم لما يحييكم ) [ الأنفال: 24 ] ، والصائمون في تحقيقهم لهذا المقام: مؤد مبرىء للعهدة، ومحسنٌ بالغ منزلة الخصوص والصفوة، وبينهما مراتب ودرجات.
2 . التدريب على احتمال المشاق
الإمساك عن المفطرات الحسية يحقق مقصدين متكاملين في زجرهما عن الحرام: الأول: مقصد الصبر على احتمال المشقة إذا عرضت للمسلم بسبب نقص في الطعام والشراب، أو شحّ في الموارد والأرزاق، فيكون احتماله لأيام الجوع والظمأ عوناً له على التكيف مع واقعه الجديد، والثاني: مقصد الصبر على الشهوة العارمة إذا تحركت مراجلها في النفس، فقد لا يتاح للشاب ذي الغلمة الشديدة الزواج لعدم استطاعة الباءة، فيكون في الصوم طاقة إمداد وتحمل ووقاية؛ إذ عُلم بالطب والواقع والشرع أن الجوع يكسر حدة الرغبة الجنسية، ويكبل انطلاقها، وقد أحسن الحديث الشريف في التعبير عن هذه الحقيقة في قوله : ( فإنه له وجاء ) [4]، والمقصدان معاً يستوعبهما اسم ( شهر الصبر ) الذي ورد في أحاديث صحيحة، كحديث أبي هريرة مرفوعاً: ( شهر الصبر، وثلاثة أيام من كل شهر: صوم الدهر ) [5]؛ إذ جُعل الاسم عنواناً لمقصد كبير من مقاصد الصيام، وهو مقصد يحقّق العفة عن المال الحرام، والعفة عن الشهوة الحرام. وما أجمل عبارة بعض المعاصرين إذ وصف الصوم بأنه ( رباط على حدود الله تعالى، وحراسة للنفس )، فمن صام إيماناً واحتساباً، وكف جوارحه وقلبه عن الأذى، فقد جاهد نفسه، وجهاد النفس صعبٌ إذا ألفت جنوحاً عن الحق، وخضعت لرقِّ أهوائها، فلا يكون تحريرها إلا بالمرابطةِ في ثغور الصيام، والضربِ بسلاحه الروحي.
3 . استشعار حاجة المحتاج وشكر المنعم
إن لدغة الجوع وحرقة الظمأ ليذكِّران الصائم بما يكابده صاحب الفاقة والحاجة في شهور العام، فينهض لإسعاف قريبه المحتاج، أو جاره المحتاج، أو زميله المحتاج، وليس من ذاق المعاناة كمن عاش في بحبوحة رفه ونعيم متصلين، فكان من الحكمة الإلهية أن يقطع شهرُ الصوم اتصال التنعّم والتلذذ بالطيبات في فترة الإمساك، ليكون التساوي في المعاناة سبباً في رفعها عن المحتاجين في غير شهر رمضان.. بل إن صاحبَ المال واليسار ليتذكر بصومه نعم الله تعالى عليه، بأن مُكِّن من رزق يدفع عنه الحاجة، وييسِّر العيش، فيبادر إلى الشكر بالطاعة والإنفاق من ماله في سبل الخير والبر.. فلا بدع أن تُختم آيات الصيام بقوله تعالى : ( ولعلكم تشكرون ) [ البقرة : 185 ] . وقد كان مقصد الشكر نصب عين العز بن عبد السلام حين عدّ من محاسن الصيام ( شكرَ عالم الخفيات )، فمن ( صام عرف نعمة الله عليه، في الشِبع والرِّي، فشكرها لذلك؛ فإن النعم لا يعرف مقدارها إلا بفقدها ) [6]، وزاد على ذلك مقصدَ ( تكثير الصدقات )، وشرحه قائلاً : ( وأما تكثير الصدقات؛ فلأن الصائم إذا جاع، تذكر ما عنده من الجوع، فحثه ذلك على إطعام الجائع:
فإنما يرحم العشاق من عشِقا
وقد بلغنا أن سليمان، أو يوسف عليهما السلام، لا يأكل حتى يأكلَ جميع المتعلقين به؛ فسئل عن ذلك، فقال: أخاف أن أشبعَ فأنسى الجائع ) [7].
4 . تجذير البعد الوحدوي
الصوم فرض عيني يؤدى جماعة في زمن مخصوص لتحقيق مقاصد مخصوصة، ومتى تمالأت الأمة على العمل الصالح امتثالاً والتزاماً في هيئة واحدة ووقت واحد، أشعر ذلك بقوتها واستحكام أمرها، وصاغ في وجدان المسلم معنى النصرة والاصطفاف وراء قائد واحد، هو الشارع الحكيم. وهذا المعنى _ وإن كان ملحوظاً في شعائر أخر _ كشعيرة الحج وشعيرة صلاة الجماعة في المساجد_ فإنه في الصوم أظهر؛ لأن المدعو إليه المكلفون رجالاً ونساءً، والنساء لسن من أهل الجمع والجماعات، والمعذورون في تركه من كان مريضاً أو على سفر، وهم قلة بالقياس إلى جموع الصائمين.
- تحقيق سلامة الأبدان
عدّ العز بن عبد السلام من مقاصد الصوم ( صحة الأذهان، وسلامة الأبدان ) [8]، واحتج له بحديث : ( صموا تصحوا ) ، وهو مروي من طرق ضعيفة لا يقوم لها ساق [9].وقد رأيت من المعاصرين من يعدّ السلامة الصحية ثمرةً لا مقصداً؛ بحجة أن من صام تطوعاً وابتغى من ذلك الحمية أو العلاج نقص ثوابه بسبب التشريك في النية[10]، وهو رأي فيه نظر من وجوه:
_ الأول: أن الفوائد الصحية للصوم تحققت على محكِّ الكشف العلمي التجريبي، وتحررت فيها بحوث غربية فائقة، ويبعد أن تكون العائدة ثابتة وجزيلة ولا يكون للشارع شمّةُ التفات إليها، فما بالك إذا دارت على حفظ كلية النفس، وهذا مقصد ضروري ثابت بالبداهة والفطرة والاستقراء، والصيام خادم له.
_ الثاني: أن الصوم متعدد المقاصد والفوائد، ومن رام مقصداً واحداً لا تنبو عنه تصرفات الشارع وعوائده، لا يعدّ مشركاً في نيته؛ لأن القصد قصد الله تعالى، والمجتهد كاشف له، ومن ثم لا يصح القول بنقصان ثوابه؛ فكيف إذا كان من وراء الصوم حياطة لكلية النفس، وعليها مدار العمارة والاستخلاف.
_ الثالث: أن من صام صوم تطوع، ورام الحمية والعلاج؛ فمقاصد الصوم لا تتخلف بنيته هذه؛ بل تستوفى بالتبعية والانجرار، كمقصد التقوى، ومقصد الشكر، ومقصد الصبر، ونحو ذلك، وما كان مظنّة تحقيق المقاصد المرسومة، فلا يتَّجه القول بأنه عمل ناقض الثواب.
والحاصل أن الصوم جنّة وعلاج؛ ذلك أنه يقي من أمراض، ويخفف من وطأة أخرى، والكلام في هذا المضمار ذو منادح واسعة، وأهل الطب أقعد به وأقوم، بيد أننا نجتزىء منه بلمع وتفاريق من شأنها أن ترفع الستار عن المقصد الصحي لهذه الفريضة:
أ . استهلاك احتياطات الدهون، وتنظيم الكوليسترول الضار في الجسم، ومتى تأتى ذلك أمن الإنسان غوائل الذبحات الصدرية والجلطات الدماغية.
ب . إراحة البانكرياس، وتخفيض نسبة السكر في الدم، وهو أمر ناجع لمرضى السكري، وواق من تصلب الشرايين، وجلطات الدماغ، والفشل الكلوي، واعتلال شبكية العين.
ت . تخليص الجسم من السموم الضارة، ومخزنها الدهون.
ث . الحفاظ على توازن سوائل الجسم، والتقليل من التهاب المريء الارتجاعي.
ج . ضبط مستوى ضغط الدم، وهو ضروري للحفاظ على سلامة العين والقلب والكليتين.
ح . تكسير النمط الغذائي القائم على عادات ضارة كالتدخين، والإكثار من المنبهات والحلويات والنشويات.
خ . إبطاء الشيخوخة، وتجديد الخلايا وتدمير التالف منها دون الحاجة إلى العلاج الكيميائي، وعلى هذا المعنى دارت نظرية ( الالتهام الذاتي ) للعالم الياباني المتخصص في علم وظائف الأحياء ( يوشينوري أوسومي )، وكان بحثه عنها محلَّ احتفاء من جائزة نوبل الطبية لعام 2016.
إن مأمَّنا من هذه التذكرة المقاصدية أن تُفعَّل القيم الروحية لشهر رمضان، ويُصفَّى من عوائدَ سيئةٍ في استقباله وإحيائه، فما جعله الله تعالى موسمَ جُنّةٍ، ووقايةٍ، وطاعة، ومقاومة لشراسةِ المادة وتكالب الشهوة.. لا يجعله الناس موسمَ طبخٍ، وسمنةٍ، وتخمةٍ ، وبشمٍ، وتلذّذٍ ..
بيد أن هذه التذكرة لا تؤتي أكلها إلا في إطار ثقافة مقاصدية شائعة تعيد النظر في مفهوم التدين عند العوام، وتنقذه من الصورية الجوفاء التي ارتكس فيها بسبب النأي عن تذوق حِكم الله في شرع الله، ولا جرم أن إشاعة هذه الثقافة رهينة بأمرين:
_ أولاً: استحضار منزع ( التقصيد ) في خطبنا، ومواعظنا، ودروسنا، تمكيناً للعوام ومتوسطي الثقافة من معرفة الحكم التشريعية للعبادات.
_ ثانياً: الوصل بين الفقه والمقاصد في الكتب الدراسية والحرة على حد سواء، والفُجَّة ملحوظةٌ بين العلمين؛ إذ نرى اهتبالاً بالأحكام الملزمة المجردة، وإعراضاً عن البيان الناصع لفلسفة التشريع، وهذا مسلك غير مرضي يسعف على ترسيخ ( تدين الصور )، ويحرم المتدين من جرعةِ اطمئنانٍ وانشراحٍ حاملةٍ على سرعة الامتثال وكماله، فليس من ذاق حلاوة التعبد، كمن انساق إليه بقوة التحكم.
نسأل الله تعالى أن نحسن وفادة الشهر الكريم، ونستقبله بما هو أهل له، ونغتنم نفحاته الطيبات صياماً وقياماً ، ونغنم في آخره ثواباً نافعاً، وعملاً شافعاً، وعتقاً من النار، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
[1] أخرجه ابن ماجه بهذا اللفظ برقم: 1690، وأحمد بلفظ ( كم من صائم .. ) برقم : 9685، وقد حسن الحافظ العراقي إسناده في تخريجه لأحاديث الإحياء، 1 / 159، وشعيب الأرناؤوط وغيره في تخريج أحادث المسند، 15 / 428 .
[2] إحياء علوم الدين للغزالي، 1 / 234.
[3] زاد المعاد لابن القيم، 2 / 29.
[4] أخرجه البخاري برقم: 5065.
[5] أخرجه النسائي برقم: 2408، وأحمد برقم: 7523،وقال عبد القادر الأرناؤوط في ( تخريج جامع الأصول ): ( إسناده صحيح ).
[6] مقاصد الصوم للعز بن عبد السلام، ص 17 .
[7] نفسه، ص 16 .
[8] نفسه ص 18.
[9] من هذه الطرق ما يروى عن أبي هريرة مرفوعاً، أخرجه الطبراني في ” المعجم الأوسط ” ، 8 / 174 ، والعقيلي في ” الضعفاء الكبير”، 2 / 92، ضعفه العراقي في ” تخريج الإحياء”، 3 / 75، والألباني في ” السلسلة الضعيفة” برقم : 253 .
[10] ذهب إلى ذلك أخونا الفقيه المحقق عبد السلام الشويعر في بعض دروسه الفقهية.
قطب الريسوني