استطاع الفنان التشكيلي خليل الغريب خلق معالم صورة مرجعية في قراءة الثقافة البصرية ببلادنا خلال العقود الزمنية القليلة الماضية. وإذا كنا في هذا المقام لا ننوي تقديم قراءة نقدية/تقنية حول حصيلة المنجز التشكيلي للمبدع خليل الغريب، مما لا يمكن -بأي حال من الأحوال- اختزاله في هذا المقال المقتضب، فإننا نود –في المقابل- التوقف قليلا قصد تفكيك بنية هذا المنجز من زاوية دوره الكبير في إغناء الثقافة البصرية ببلادنا، ثم في إعادة الاعتبار لعناصر التميز والفردانية في مختلف أوجه العمل الإبداعي الأصيل. وقبل ذلك، فإن الانفتاح على عوالم خليل الغريب، يقدم خير مدخل لإعادة توطين العلاقة القائمة/والمفترضة بين الذات المبدعة من جهة أولى، وبين محيطها المحلي الضيق من جهة ثانية. وفي هذه الحالة، أضحى من الواضح التأكيد على القدرة الهائلة التي اكتسبها خليل الغريب في سعيه لتطويع محيطه المحلي بمدينة أصيلا، كوجوه وكشواهد وكمحكيات وكمتلاشيات وكرموز…
لقد استطاع خليل الغريب أنسنة عوالم المكان عبر موضعة المادة في سياق دوراتها البيولوجية التي تنتهي –بالضرورة- إلى الزوال وإلى الاندثار. فكان حريصا على الاحتفاء بخصوبة المكان المتحول، بحثا عن هوية مدينة أصيلا المنتشية بحميمياتها المخصوصة وبعمق تميزها داخل محيطها الجغرافي المتغير. لم يركن خليل لتمارين البدايات، ولا لخطاطات التنظير، ولا لتقليعات الحداثة، ولا لبريق الجمهور، في مقابل، البحث عن صقل التجربة بالقراءات الفلسفية والأدبية العميقة، ثم بالنبش في أشكال توسيع دوائر الافتتان باللون الأزرق وبانسيابيته اللامتناهية، وبمواده المنفلتة من بين خبايا التصنيف الأكاديمي لمدارس الفن التشكيلي المعاصر، حيث تمارس الصباغة الزيتية سطوتها المطلقة وبريقها الأخاذ، في مقابل إعادة الاعتبار للصباغة المائية قصد ممارسة غوايتها بإعادة تركيب عناصر التلاشي والاندثار بالنسبة ل”الأزرق” المنساب داخل “الأبيض” المائع.
يمتد “أزرق” خليل الغريب حاملا معه عمق مادة “النيلة”، ليمارس هيمنته على فضاء اللوحة، وقبلها على فضاءات المكان. وداخل هذا الأزرق المهيمن، تبرز عوالم على عوالم، ومواد على مواد، ووجوه على وجوه، منها من اندثر كليا في غياهب الواقع اليومي، ومنها من يسير نحو الزوال والاندثار، ومنها من لايزال صامدا يواجه عوادي الإنسان والزمن. وبين كل هذه المستويات، استطاعت أعمال خليل الغريب بلورة قدرة عجيبة على التقاط عناصر الجمال والخصب، قبل تحويلها إلى مواد ارتكازية في تفجير آفاق التلقي الإبداعي، داخل فضاءات اللوحة والقصيدة والقصة والمسرحية والمنحوتات. وفي هذا الجانب بالذات، تبدو أعمال خليل الغريب جسرا مفتوحا على آفاق تجسير العلاقات المعقدة التي تخترق كل مجالات الإبداع المتعددة. فلوحة خليل الغريب تظل –في نهاية المطاف- قصيدة شعرية احتفائية، أو نصا نثريا عميقا يعيد تفكيك نظم الجمال في واقعنا المعيش ثم تركيبه في إطار نسقي رفيع، تحافظ الذات داخله بكل عناصر تميزها وفردانيتها التي تعطي للفعل الإبداعي عمقه، وللعين الراصدة قوتها وأصالتها وإنسانيتها، بعد أن تضمن لنفسها شروط الامتداد في الزمن والخلود داخل المشهد الثقافي المحلي والوطني والعالمي.
من هذا المنطلق، تحولت أعمال خليل الغريب نفسها إلى مجال منتج للمعرفة الثقافية، بعد أن خضعت لتشريح نقدي وجمالي ساهم في إضفاء عليها سمة الخلود المشار إليه أعلاه. ولعل في الأعمال الرائدة التي خلفها كل من الراحل إدمون عمران المليح والشاعر المهدي أخريف –على سبيل المثال لا الحصر- في منابر مختلفة وفي مناسبات متعددة، خير دليل على أهمية هذا البعد التركيبي بين صفاء “لوحة خليل” ونشوة قصيدته المبتغاة، أو لنقل، بين “وجه خليل التشكيلي” من جهة، وبين منزعه الشعري من جهة ثانية. باختصار، استطاعت “لوحة خليل” تكسير قوالب الجاهز، وانتقلت للتحليق في ملكوت الاندثار، كقيمة وكأفق وكإحساس وكمركز للاحتفاء بالإنسان وبالجمال وبفعل الإبداع. ولعل هذا ما جسده العمل الشعري الصادر سنة 2019، باللغة الفرنسية، للشاعر فيليب كيكي بولون، تحت عنوان “نيلة”، وذلك في ما مجموعه 51 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. فالديوان يشتغل على مضامين أعمال خليل الغريب التشكيلية، ويحولها إلى أداة للتأمل وللاستلهام ولإعادة إنتاج القيم الثقافية والمعرفية والجمالية. وقد كتب المؤلف نصوصه بطلب من “المركز الدولي للقصيدة” بمرسيليا، قصد تقديمها خلال حفل افتتاح معرض خليل الغريب بالمدينة الفرنسية المذكورة سنة 2016. والحقيقة، إن تداول خليل شعريا، سمح بفتح آفاق رحبة أمام سعة العوالم التشكيلية لهذا الفنان المتميز، إذ أن أعماله أصبحت توفر إمكانات هائلة لإعادة إنتاج حلقات مسترسلة ولامتناهية ومتجددة للقراءات وللتمثلات المرتبطة بالاستثمار الثقافي والمعرفي. وبهذه الصفة، أصبحت عوالم خليل المندثرة والمتلاشية مجالا أثيرا للتأمل وللتشريح وللدراسة، ولإعادة تعميم قيم الخصب والتجدد بحكم قدرتها على احتضان القراءات العاشقة لمضامينها، وبحكم قدرتها على إفراز مستويات مختلفة لاستنطاق “صمت” مظاهر هذه المضامين.
هي قوة اللوحة والمنجز التشكيلي عندما يمارس سطوته على محيطه، فيخترق الحدود بين مجالات الإبداع المختلفة، لتصبح الألوان والأشكال والرموز مصادرا لإنتاج القوافي والاستعارات ونظم القول العجيب.
أسامة الزكاري