1 –ما هو أول كتاب قرأته؟
بدأت رحلتي مع القراءة في سن مبكرة، أواخر السبعينيات من القرن الماضي، كانت البداية مع جبران، وتحديدا مع قصته “الأجنحة المتكسرة”، تركت تلك القصة في نفسي أثرا قويا، يمكن اعتباره نوعا من التعاطف مع بطليها، وقد عاشا اغتيال حبهما، في غمرة الصراع الأبدي بين الخير والشر. دأبت باستمرار على استكمال قراءة باقي كتب جبران، وقد أسرني ذلك الأسلوب الشاعري الذي يغلف كتاباته، وكان أخي الذي يفوقني سنا، ويتابع دراسته بالثانوي، يمدني بما أريد من قصص وكتب كانت في ذلك الوقت ملائمة لسني: كتب المنفلوطي، وكتب تاريخ الأدب العربي التي قرأت فيها مختارات لكبار الشعراء: المتنبي وأبي نواس وأبي تمام والبحتري …هذه القراءات الأولى التي جمعتني بالقصة والرواية والشعر، أثرت على مساري، فتوجهت في البداية توجها إبداعيا، وكانت أولى كتاباتي على المنابر الثقافية قصائد شعرية… وعلى الرغم من انشغالي البلاغي والنقدي، الذي طبع مساري العلمي، فقد ظل الحنين إلى لإبداع يراودني… ولذلك أتممت كتابة رواية، ربما سترى النور قريبا.
2 – لماذا تقرأ ؟
بالنسبة لي القراءة حاجة ضرورية، وليست ترفا، فالكتب تقدم لنا فسحة في الحياة، وتفتح أمامنا عوالم أخرى، تعوضنا عن فقدان الكثير من الآمال التي حلمنا به، ولذلك كان أرسطو محقا حين ربط الإبداع الشعري بالعالم الممكن، مع الكتب ننتقل إلى أزمنة وفضاءات أخرى ونعيش حيوات متعددة، فيتحقق نوع من الامتلاء العاطفي نعوض به الفراغ القاتل الذي تزرعه الحياة في نفوسنا. وأعتقد أن ملأ هذا الفراغ، لا يتحقق بقراءة النصوص الإبداعية الشعرية والسردية…وحدها، بل إن قراءة كتب الفكر والفلسفة والنقد والبلاغية، تفتح أمامنا المداخل الحقيقية لنعيش تجارب المبدعين بكل سعتها وعمقها الوجودي، وذلك بالقدر نفسه نطور به حياتنا ونحقق ما نصبو إليه.
نلاحظ اليوم أن القراءة في العالم العربي، تكاد تقتصر على الباحثين، كل واحد يبحث في مجاله، دون أن يكون له اطلاع على باقي التخصصات، بل إن البعض يحتقر تخصصات أخرى غير تخصصه. علينا أن نتخلص من وهم حاجتنا للكتب في البحث فقط، لنجعلها مؤثرة في حياتنا اليومية، لأن القارئ الجيد هو من يستثمر المقروء ليفتح آفاقا جديدة في حياته؛ إن الاختراعات المدهشة في العالم الحديث كانت أفكارا وأحداثا متضمنة في روايات الخيال العلمي: (الصواريخ والغواصات والاتصالات المرئية والرحلة إلى القمر….إلخ)، ولذلك فسحت روايات: “إسحاق عظيموف” و”جول فيرن” و “هربرت ويلز” و”آرثر كلارك”.. وغيرهم، أمام العلماء أبوابا واسعة للاكتشاف والاختراع، بشكل يلغي تلك الهوة بين الأدب والفن والعلم. ويجعل القراءة مدخلا أساسيا لكل من يروم أن يحدث تغييرا في حياة الإنسان.
3 – كيف تقرأ؟
أعتقد أن القراءة الناجحة لا تتحقق إلا وفق شروط خاصة، أولها: الاستمرارية، فالشروع في قراءة كتاب يقتضي إتمامه، أما وقف إيقاع القراءة بالقراءات السطحية والعابرة في كتب متعددة، يجعلنا نغفل عن عمق المقروء، كما تتحقق الاستمرارية بجعل القراءة مشروعا حياتيا، له أهدافه ومراحله وعدته وغاياته… الشرط الثاني هو: الحرص على العودة للكتب الأصلية، فهناك من الباحثين من يكتفي بالوسائط التي تقدم له معرفة مختزلة مبسطة، لكن البحث الحقيقي هو الذي لا يتهيب العودة للأصول مهما كانت صعوبتها ولغتها، وأتأسف لحال بعض الطلبة الذين يغرقون بحوثهم الجامعية بكتب وسيطة، تحجب عنهم كنوزا من المعرفة كانوا سيعثرون عليها لو أنهم قرأوا الأصول. وثالث شروط القراءة في نظري هو ما يمكن أن نسميه: القراءة العاشقة، بحيث يجب أن ننصرف بكل حواسنا للمقروء، أن ننخرط فيه ونستشعر اللذة في قراءته، ليس المهم أن تختلف أذواقنا بين من يميل لقراءة الشعر أو الرواية أو البلاغة أو الفلسفة… لكن الأهم هو أن نكوﱢن علاقة وجدانية مع ما نقرأه، إذا أردنا للقراءة أن تكون فعلا مشروعا حياتيا ناجحا. ومؤثرا. ورابع هذه الشروط هو: الذكاء في التعامل مع المقروء، والذي يقود إلى استخلاص جوهر كل كتاب وسط تفاصيله الكثيرة والمتشعبة، خاصة بالنسبة للقارئ الذي يروم استثمار مقروئه قصد تجديد البحث العلمي.
4 – ماذا تقرأ؟
أنا أؤمن بأن القارئ الحقيقي هو الذي لا يأسر نفسه في تخصص واحد، أنا متخصص في النقد والبلاغة، ولكنني متعدد القراءات، والحقيقة أنه لكي تكون بلاغيا حقيقيا وناقدا متمكنا، عليك ان تبدأ بقراءة النصوص الإبداعية التي تشكل أرضية التحليل النقدي والبلاغي، وإلا فإننا سنبقى في نطاق نقد النقد والتنظير، وتنظير التنظير، وليس لهذا وجد النقد، وليس لذلك وجدت البلاغة، التي جعلها أرسطو علما لتحليل الخطابين الشعري والخطابي، وهي الآن باتت علما يستوعب كل أشكال الخطاب السياسي والديني والإشهاري والتاريخي. ولذلك أنا عملت منذ البداية على توسيع أفق قراءاتي، فأنا دائم القراءة للرواية والشعر، وقد اكتشفت مبكرا عمق الارتباط بين البلاغة والفلسفة، فكانت رسالتي للدكتوراه متعلقة بالقراءات العربية لشعرية أرسطو من خلال فلاسفتنا المسلمين… وقد كشف التطورُ الفكري الحديث كيف أن النظرية المعرفية باتت تبسط نفوذها على الطب وعلم الأعصاب والعلوم الطبيعية والرياضيات، كما تبسط نفوذها على اللغة واللسانيات والبلاغة…إلخ. إن النظرية واحدة لكن مداخلها مختلفة، وهي تؤول في النهاية إلى وحدة الفكر البشري، الذي لا يفصل بين المعارف الإنسانية، وأظن أن هذا كان هو الأصل في الثقافة العربية، فقد كان الفيلسوف طبيبا وأديبا وعالما بالدين، متمكنا من مختلف العلوم… كما تشهد على ذلك سيرة ابن سينا وابن رشد وغيرهما. وقد فتحت النظرية المعرفية أمامي أفقا لتجديد البحث في البلاغة، ولذلك ألفت كتابي “الاستعارة في الرواية”.
5 – ما مدى تأثير مهنة التدريس والتأطير العلمي على مشروعك القرائي
اشتغلت أستاذا للثانوي، ثم أستاذا مبرزا، وأخيرا أستاذا للتعليم العالي، وخلال هذه المسيرة المهنية والعلمية، كنت حريصا على تجديد قراءاتي بما يساير التطور العلمي الحديث، وأعتقد أن هناك علاقة تلازمية بين التدريس والقراءة، المدرس الجيد هو الذي يجدد عدته المعرفية، لأنه إن توقف عن القراءة في مرحلة من حياته، سيجد نفسه يدرس لطلبته معرفة متجاوزة، خاصة في ضوء التطورات المتسارعة التي تعرفها المعرفة في مختلف التخصصات: التكنولوجيا، والفلسفة، والنقد، والبلاغة، واللسانيات، والاقتصاد… المدرس الجيد هو بالضرورة قارئ جيد. إنه لا يقرأ فقط من أجل مشروع علمي خاص به، ولكن من أجل مشروع أسمى هو تقديم معرفة صحيحة تتسم بالعمق والجدة، ووظيفة الجامعة الأولى ومعاهد التكوين والبحث هي أن تفتح أمام الطلبة آفاقا جديدة، ولا يتأتى ذلك بغير أن يكون المدرس ملما بما استجد من معارف في عصره، خاصة في مجال تخصصه.
6 – أين تقرأ؟
فضاء القراءة من العناصر الأساسية، التي يجب أن تتوفر لبلوغ الغايات المتوخاة منها، وهي تختلف باختلاف القراء، بالنسبة لي فأنا أنجز غالب قراءاتي في بيتي منفردا بكتبي، حيث أجد الشروط للتأمل والفحص والمقارنة، ووضع الخطوط العريضة من خلال المقروء لمشروعي العلمي، وفي بعض الأحيان وتحت إكراهات إتمام دراسة أو بحث محدد بتاريخ، قد اضطر للقراءة في مقهى، أو حتى في القطار أثناء السفر.
7 – متى تقرأ؟
زمن القراءة من الإكراهات التي أظن أن كل قارئ مهووس بالكتب يواجهها، إن غياب تخطيط زمني محكم لأوقات القراءة قد ينسف المشروع القرائي في ضوء ما باتت تفرضه الحياة المعاصرة من مسؤوليات وضغوط كثيرة.. ولذلك فأنا حريض على عدم تفويت برنامجي القرائي، وعادة ما أبدأ القراءة في الصباح الباكر، وبحكم أن البحث يقتضي استنفاد العمر كما قال حازم القرطاجني، فقد أستغرق ساعات طويلة، وأعتقد، أن على الكاتب أن يقرأ كثيرا ويكتب قليلا، ربما لا يلقى هذا الرأي رضى الكثيرين ممن يراهنون على الكم، لكن بالنسبة لي كتابة كتاب واحد مفيد، خير من مائة كتاب يكرر صاحبها ما قيل سابقا ولا يضيف شيئا يذكر للبحث العلمي…
8 – لمن تقرأ؟
لعل أول خطوة لتحقيق القراءة الناجحة هي حسن اختيار المقروء، قد تختلف الأذواق والأولويات، لكن فكرنا سيظل مطبوعا بمن نقرأ لهم، وقد تنوعت قراءاتي بين أدباء مختلفين غربيين وعرب: تولستوي، وهمنغواي، ودانتي ،وغوته، وباولو كويلو، وامبرتو إيكو، و ونجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، وطه حسين والعقاد وصنع الله إبراهيم، ورضوى عاشور، وإبراهيم عبد المجيد ومحمد زفزاف، وأحلام مستغانمي وغيرهم…ولعلني شخصيا كنت محظوظا عندما ارتبط مساري العلمي الجامعي برائد البلاغة العربية الدكتور محمد العمري الذي أشرف على أبحاثي للإجازة ودبلوم الدراسات العليا والدكتوراه، فوجهني منذ البداية إلى أمهات الكتب البلاغية العربية والغربية، فقرأت أفلاطون وأرسطو و قدامة بن جعفر وابن سنان الخفاجي وعبد القاهر الجرجاني وحازم القرطاجني، وشاييم بيرلمان، وبول ريكور وغيرهم.. في موازاة مع قراءة الكتب العربية التي جددت البلاغة العربية وأهمها كتب محمد العمري ومحمد الولي، وجابر عصفور وحمادي صمود وشكري المبخوت ومحمد مشبال، وغيرهم من رواد البلاغة الجديدة. وقد أثمرت هذه القراءات المتعددة انخراطي في تجديد البلاغة، سواء من خلال مجلة البلاغة وتحليل الخطاب التي أشتغل ضمن هيئة تحريرها، ويديرها الصديق العزيز إدريس جبري، أو من خلال انخراطي في مشاريع بحثية أهمها دراسات بلاغية نسق أعمالها صديقي العزيز البلاغي المجدد الدكتور محمد مشبال، وكان من ثمرتها طبعا كتبي حول البلاغة: “القراءة العربية لكتاب فن الشعر لأرسطو طاليس”، و”السرد النسوي العربي”، و”الاستعارة في الرواية”… وغيرها.
د.عبد الواحد العلمي